الشبكات الاجتماعية بين الإفراط والتفريط (د. خالد الخاجة)
د. خالد الخاجة
تاريخ وسائل الاتصال يوضح أنه مع بزوغ أي أداة جديدة، يلفها الغموض وتتعدد الآراء حول سبل التعامل معها أو الاستخدام الأمثل لها. حين اخترع "ماركوني" الراديو، توجس بائعو الصحف منه خوفا على بوار بضاعتهم، ووقفوا ضد إذاعة الراديو للأخبار، وظل الراديو لمدة طويلة لا يقدم الأخبار ضمن برامجه التي كانت تذاع على الهواء.
وحين ظهرت أجهزة التسجيل خشي كبار القراء للقرآن الكريم من تسجيله للإذاعة، خوفا أن تستغني عنهم وتكتفي بتسجيلاتهم ويقطع عنهم مصدر من مصادر دخلهم. ولما ظهر التليفزيون ظن الكثيرون أن زمن السينما قد ولى، إلا أن ذلك لم يحدث.. وهكذا كان الحال مع كل وسيلة وشكل جديد من أشكال الاتصال، تحيطه الضبابية والحذر، وتختلف الآراء حول تأثيره ومستقبل غيره، كما أن طرق استخدام الوسيلة تختلف ما بين الإفراط والتفريط إلى أن يتم التعامل معها برشد.
ولا شك أن التحول الجذري في وسائل الاتصال جاء مع ظهور وسائل الإعلام الجديد، التي حولت جمهور وسائل الإعلام من التلقي السلبي للمضمون الإعلامي، إلى إمكانية التفاعل مع الرسالة والمشاركة في صنعها، بل أصبح الجمهور ذاته مصدرا للمادة الإعلامية.
ومن هنا جاءت أهمية الإعلام الجديد، والتي تمثل أدوات التواصل الاجتماعي وفي المقدمة منها "الفيسبوك"، والتي تحظى بالنصيب الأكبر من هذه الأدوات. وتحتل الإمارات المرتبة الأولى في العالم العربي من حيث نسبة استخدام الفيسبوك، حيث إن 50% من سكان الدولة هم من مستخدمي الفيسبوك، وهو مؤشر على مهارة أبنائنا في التعامل مع أدوات الاتصال الجديدة. ولا شك أن استخدام الفيسبوك قد وسع مدارك أبنائنا، من خلال اطلاعهم على مختلف الآراء حول القضية الواحدة، مما ساعدهم على تقبل الآخر.
كما أن من أهم عوامل التقدم الإنساني هو التقمص الوجداني وقدرتك على أن تتخيل نفسك مكان الآخر وأن تطلع على ثقافاته، كما أن تلاقح الثقافات هو الذي أثرى الحياة الإنسانية.
ولا شك أن الفيسبوك وغيره من أدوات التواصل الاجتماعي، قد ساعدت في توحيد الجمهور حول قضايا مهمة في وقت قياسي، أو طرح أفكار مبدعة ابتكرها الشباب، وهم من دعوا غيرهم إلى تبنيها، مثل حملات قيادة السيارة بدون موبايل، بعد أن راح ضحيته زهرة شبابنا، وغيرها من حملات "لغتي هويتي"، كما ساعدتهم على التواصل مع أقرانهم، وقربت المسافات بينهم، وتواصلوا مع أساتذتهم خارج قاعات الدراسة مما وثق العلاقة فيما بينهم، فضلاً عن استخدامها في متابعة دروسهم وعرض ما يعن لهم من تساؤلات.
غير أن هناك بعض المثالب التي يجب أن نعيها في تعامل أبنائنا مع الفيسبوك، لا من أجل أن نحول بينهم وبين استخدامه، ولكن لترشيده وتعظيم الاستفادة منه بما يعود بالخير على أبنائنا، في وقت بات المنع فيه غاية في الصعوبة.
إن استخدام أبنائنا المفرط لأدوات التواصل الاجتماعي، جعلهم كائنات فضائية تتعامل مع واقع افتراضي بعيدا عن الواقع الحقيقي ويختلف عنه، الأمر الذي يصيب بعضهم بالصدمة حين يتعامل معه، كما أن ما يستوقفك أنك تجد أحيانا من يحظى بالعشرات من الصداقات على الفيسبوك، غير أنه يعجز عن تكوين صداقة على أرض الواقع، لأنه اعتاد على صداقات ليست لها تبعات أو تكاليف، وهو ما ينعدم معه المفهوم الحقيقي للصداقة التي تعني الصديق وقت الضيق، وهو ما لا يتأكد إلا عبر المواقف الحقيقية والممارسة الحياتية.
فضلاً عن ذلك، فإن الاستخدام المفرط لصفحات التواصل الاجتماعي يمكن أن يصاب أبناءنا بالنرجسية حين يعتادون الثناء عليهم من الآخرين، وانتشار ثقافة المباهاة، وإلا فما دلالة أن يقوم أحدهم بتصوير الطعام الذي أعده في منزله، أو حذاء قام بشرائه، ونشره متباهيا به بين أقرانه!
كما أنه من الخطورة بمكان حالة الانفصام التي يصاب بها بعض من يستخدم صفحات التواصل الاجتماعي، حين يتحدث عن شخصية غير شخصيته الحقيقية، ويتقمص شخصية أخرى من صنع خياله، رغبة منه في أن ينال تقدير الآخرين، أو البحث عن تقدير لا يجده على أرض الواقع، وهو ما يصيبه بالصراع بين شخصيته الحقيقية وأخرى يبحث عنها، مع ما يترتب على ذلك من اضطراب نفسي ينعكس على سلوكه.
ومما يستحق التوقف أمامه بالنظر طويلا، تلك اللغة الجديدة التي انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي، والتي تعتمد على استخدام الحروف اللاتينية والرموز، وهو ما يزيد الفجوة بين أبنائنا وبين لغتهم الأم. ولا يمكن إنكار أن شبكات التواصل الاجتماعي أصابت الكثير من أبنائنا بالعزلة عن باقي أفراد الأسرة، وبناء عالم افتراضي خاص بهم، وهو ما يضعف الروابط الأسرية الأصيلة.
وهنا يأتي دور الأسرة في ترشيد استخدام أبنائها للأدوات الجديدة، لتعظيم جوانب النفع والتقليل من آثارها عبر أساليب عديدة، منها ضرورة أن يشارك الآباء أبناءهم نشاطهم الجديد، وأن يصبحوا جزءا من مجتمعهم على صفحات التواصل، لمراقبة نشاطهم عن كثب. ومن الأهمية بمكان معرفة من يصادقونهم، وهل هناك مبرر لهذه الصداقات ونوعيتها؟ فضلاً عن فتح آفاق جديدة لأبنائهم لاستيعاب طاقاتهم، كممارسة نشاط رياضي أو أدبي أو فني يبذل فيه الفرد جهدا حركيا، خاصة وأن السمنة وضعف البصر كانا من تبعات الجلوس لساعات طويلة أمام الأجهزة اللوحية، بعيدا عن ممارسة نشاط بدني حقيقي.
يجب أن يعود الحوار بين أفراد الأسرة، والحرص على أن يجمع الوالدين بأبنائهم أكثر من لقاء في اليوم الواحد لإدارة حوار توعوي، وتحديد عدد الساعات التي يستخدم فيها الأبناء تلك الأدوات، حتى لا يصاب أبناؤنا بإدمان هذه الوسائل بما يؤثر على تحصيلهم الدراسي، إضافة إلى توخي الحرص عند نشر معلومات خاصة قد يتلقفها البعض ويسيء استخدامها، بما يهدد خصوصية البيوت ويهز استقرارها.
إن إفراط الأبناء في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، لا يجب أن يقابل بتفريط الآباء في متابعتهم وترشيد سلوكهم بما يحقق الاستخدام الأمثل لها، وخاصة أن الأسر لم تعد وحدها تربي.