الشرق الأوسط الأميركي يبدأ بمصر (سمير كرم)

 

سمير كرم

منذ أن تجددت العلاقات المصرية -الاميركية في سبعينيات القرن الماضي لم تخضع لتساؤلات من نوع التساؤلات التي خضعت لها في الايام الاخيرة، والتي أثارتها زيارة وزير الخارجية الاميركي للقاهرة قبل ايام. قبل ذلك كانت العلاقات بين مصر والولايات المتحدة عادية، وكانت مصر بعيدة عن تأثيرها الاقليمي الواسع والقوي الذي ارتفع كثيرا في سنوات زعامة عبد الناصر. وقد استطاعت مصر ان تحتفظ بهذه المكانة في علاقاتها الدولية على الرغم من الهزيمة العسكرية التي منيت بها في حرب العام 1967، وكان السبب الرئيسي في احتفاظ مصر بهذه المكانة الاقليمية والعالمية دور الزعامة الذي مارسه جمال عبد الناصر باقتدار.
في بداية الفترة الاخيرة ـ منذ انهيار حكم مبارك في اوائل العام 2011 ـ بدا لأميركا ان الفرصة سانحة لها للاستمرار في إبقاء مصر تحت قبضة النفوذ الاميركي الذي وقعت تحته في سنوات مبارك الطويلة. وكان تصور القيادات السياسية والعسكرية الاميركية هو ان باستطاعة العلاقات القائمة بين القوات المسلحة المصرية والولايات المتحدة ان تحتفظ بنوعية العلاقات بين البلدين ما دام الجيش المصري هو الذي يحكم، وهو الذي يحدد هذه النوعية وما تعنيه. كان هذا وضعاً مناسباً للولايات المتحدة. يبقي مصر تحت النفوذ الاميركي ويبقي لأميركا صفوتها وقدرتها التي بدأت مع عهد حكم السادات في مصر، الذي ميزه بشكل خاص توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وواصله مبارك في عهده الطويل.
وقد استطاعت الولايات المتحدة ان تستند الى صعود حكم جماعة «الاخوان» في تأكيد هذا الاتجاه للإبقاء على مصر دولة تابعة بصفة صديقة للولايات المتحدة ولإسرائيل في وقت واحد. واستمر نظام مبارك في الإبقاء على العلاقات بين مصر واسرائيل كضمانة لكسب مودة اميركا وكل القوى التي تخضع للنفوذ الاسرائيلي في اميركا الرسمية وغير الرسمية. وخلال تلك الفترة تمكنت الولايات المتحدة بذكاء شديد من تقوية علاقاتها مع الجيش المصري وجعلها أساساً للعلاقات المصرية – الاميركية. ولم تستطع مصر ان تحقق حلم السادات بأن تتساوى مصر مع اسرائيل في مكانتها لدى اميركا، الامر الذي ادى الى نهاية عهد السادات على الصورة التي انتهى اليها. وعلى هذا الاساس نفسه لعبت الولايات المتحدة دورها في مصر، ولهذا كان الدور المتميز الذي ادته قيادة القوات المسلحة المصرية بعد نجاح الجماهير المصرية بثورتها المتميزة في ازاحة نظام مبارك تماما من السلطة. وبدا في اوائل عام 2011 ان القوات المسلحة يمكن ان تؤدي الدور الذي ارادته الولايات المتحدة لإبقاء مصر تحت النفوذ الاميركي، وبالتالي في المكانة المنخفضة التي بقيت فيها طوال حقبة حكم مبارك.
ثم في وقت واحد وقع تطوران، أحدهما تعلق بدور القوات المسلحة المصرية بينما تعلق الثاني بدور الولايات المتحدة في مصر.
تراجعت القوات المسلحة امام رغبة الشعب المصري في اكتساب الديموقراطية وسيلة للحكم، وأدى هذا ـ عن غير قصد او عن غير وعي من الجماهير المصرية ـ الى صعود «الاخوان» الى السلطة، بالتحديد الى رئاسة الجمهورية، وتولى «الاخوان» الحكم بعد ذلك، وبناء على رغبة، كانوا يعرفونها جيداً من جانب الولايات المتحدة، بأن يتولى «الاخوان» السلطة في مصر كبداية لتوليهم السلطة في غير مصر من بلدان الشرق الاوسط العربية والاسلامية. وبينما بدا ان الولايات المتحدة تراجعت كانت التطورات الداخلية تنضج في اتجاهها نحو علاقة اقوى بالجماهير المصرية، ونحو فرض امر واقع جديد على الولايات المتحدة ونفوذها في مصر والمنطقة. تطورت الامور باتجاه أتاح خروج عشرات الملايين من الجماهير المصرية الى الميادين مطالبة بتنحي «الاخوان» من السلطة. وعندئذ اختارت القوات المسلحة ان تقف في الجانب الذي طالبت الجماهير بوقوفها فيه، وهو الجانب الذي نحى النخبة الاخوانية من السلطة. وعلى الرغم من استمرار الجماهير المصرية في الهتاف لقيادة القوات المسلحة إلا أن القوات المسلحة المصرية آثرت، على الرغم من انحيازها لمطالب الجماهير، ان تترك للديموقراطية المدنية ان تؤدي دورها في هذه المرحلة الحرجة.
وجدت اميركا نفسها في موقف بالغ الحرج. لا هي استطاعت ان تحتفظ بنفوذها على القوات المسلحة ولا هي استطاعت ان تجعل الاتجاه في مصر نحو الديموقراطية المدنية تطوراً لمصلحة المصالح الاميركية. وقد جاء التطور الذي حدث في مصر باتجاه الديموقراطية المدنية، بمساندة أكيدة وقوية من القوات المسلحة، مربكاً للولايات المتحدة ولدورها في مصر. لقد ادركت الولايات المتحدة انها ارتكبت في سنة حكم الاخوان لمصر مجموعة من الاخطاء، كان اولها استبعاد حدوث اخطاء اخوانية في الحكم. بل الاحرى هنا ان نؤكد ان القادة السياسيين والعسكريين الاميركيين اشاروا على الحكام الاخوان بعدد من القرارات الخاطئة. ونتيجة لهذه الأخطاء ابتعدت القوات المسلحة المصرية عن الطريق الذي حرصت اميركا على ان ترسمه للعلاقات المصرية – الاميركية، وهو طريق تحجيم الدور المصري الاقليمي والعالمي، وهو في الوقت نفسه طريق تقوية جماعة الاخوان كوسيلة لإبقاء الصراع المصري الداخلي ضد دور الاخوان مستمراً كوسيلة لا بديل عنها لإبقاء الدور الاميركي في مصر قوياً وبلا بديل.
لقد قصدنا بهذا ان نرسم صورة الواقع الذي جعل زيارة جون كيري وزير الخارجية الاميركي للقاهرة ولقاءاته مع القادة المصريين، مدنيين وعسكريين، تثير كل ما اثارته من تساؤلات، ما امكن الإجابة عليه وما تعذرت الإجابة عليه حتى الآن على الأقل. ولقد شملت تلك التساؤلات ماذا يريد كيري من هذه الزيارة ولماذا وجد نفسه مضطراً لأن يضيف مصر الى بداية جولته في المنطقة. لقد تساءل المصريون: ماذا يريد كيري من هذه الزيارة لمصر؟ فهل استطاعت زيارته ان تقدم إجابات واضحة على هذا التساؤل؟
الامر الذي لا شك فيه ان الإجابات التي قدمت في مصر لهذا التساؤل كان بعضها صحيحاً ومنطقياً وكان بعضها الآخر من نوع التخمين الخاطئ. ولا بد من ان نقرر مبدئياً انه لا يمكن لأميركا ان تعرض نفسها لخطأ او خطر ارسال كيري الى القاهرة للاطلاع على ظروف محاكمة مرسي او محاولة وقف هذه المحاكمة. الولايات المتحدة اصبحت تعرف جيداً انها لا تستطيع ان توجه مثل هذا السؤال الى أي مسؤول مصري مدنياً كان او ـ بصفة خاصة ـ عسكرياً. ليست اميركا على هذا القدر من الغباء ومن الغفلة بحيث توجه سؤالا الى القادة المصريين يحمل هذا المعنى، حتى وهي تعرف ان توجيه مثل هذا التساؤل كان ممكناً بل ضرورياً في سنة حكم «الاخوان» وقبل ذلك في عقود حكم مبارك. تعرف الولايات المتحدة الآن جيداً ان مصر اصبحت أكثر إدراكاً لأهمية استقلالها السياسي والاستراتيجي. بل وتعرف ان مصر اصبحت تجتذب دعم وتأييد الدول العربية الاخرى بهدف دعم موقفها القيادي في المنطقة.
الأمر المؤكد ان الشغل الشاغل لكيري خلال زيارته لمصر يتعلق أساساً بما بين الأمن القومي الاميركي والأمن القومي المصري من مساحات مشتركة، ما اذا كانت الفترة القلقة السابقة قد ساعدت على زيادة التناقض بينهما او انه لا يزال من الممكن ان تقوي الدولتان مصالح الأمن القومي بينهما، بعد ان أصبحت مصر متحررة من قيود حكم مبارك وحكم «الاخوان» القصير بعده. والامر المؤكد ان جون كيري انما اراد ان يختبر بصورة مباشرة اذا كان من الممكن ان تقوم ضد زيارته تظاهرات تهتف ضده وضد اميركا. والامر المؤكد ان وزير الخارجية الاميركي انما اراد ان يتأكد من ان مصر تأثرت او لم تتأثر بفضيحة التجسس الاميركي ضد حلفاء اميركا، خاصة بعد ان فضحت المصادر التي كشفت عن هذه الفضيحة ـ وهي مصادر اميركية ـ ان مصر كان لها نصيب من هذا التجسس الاميركي. وقد نشرت الصحف المصرية عن أهداف زيارة كيري للقاهرة ما يشبه ما قاله كيري نفسه: «ان الجيش المصري يبدو مستعداً لإرساء الديموقراطية»، ومن نوع: «بدء حوار استراتيجي بين القاهرة وواشنطن»، وكذلك من نوع: «نتفهم المخاطر الأمنية في مصر وحريصون على استقرارها». و«بلادي صديقة وشريك لمصر». وتدل هذه العناوين بالقطع على ان كيري لم يذهب الى مصر ليلقن قادتها درساً إنما ليتعلم المعنى الحقيقي للتطورات الديموقراطية الاخيرة في مصر، وليتأكد من صحة الاستنتاجات التي توصل اليها الإستراتيجيون الاميركيون عن تطورات مصر.
ان اميركا معنية بالدرجة الاولى بتصحيح العلاقات مع مصر. «الاخوان» لم يعد لهم اي نصيب من اهتمام اميركا السياسي. ان اميركا معنية بالتقارب الحيوي الذي يجري الآن بين روسيا ومصر وهو ـ في رأي الاميركيين ـ أشبه ما يكون بالتقارب بين مصر عبد الناصر وروسيا السوفياتية في خمسينيات القرن الماضي. وقد يكون دور روسيا المتجدد في مصر اكثر ما يثير انزعاج اميركا. ان اميركا معنية ايضاً بمعرفة موقف مصر بوضوح من الازمة السورية، خاصة أن اميركا في مرحلة مراجعة لموقفها. وقد اوضحت اميركا لمصر بكل ما بمستطاعها خلال زيارة كيري انها لا ترى لها مصلحة في تكرار سيناريو سوريا في مصر.
ان اميركا قد تأكدت من هذه الزيارة للقاهرة ان طريق الشرق الاوسط الاميركي يبدأ بمصر.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى