الصحفي السوري في عيد الصحافة : طردتني زوجتي من الغرفة أنا والأرشيف !
في عام 1979 أقيم على خشبة مسرح الحمراء بدمشق مهرجان شعري شارك فيه عدد من قامات الشعر العربية : محمود درويش وأمل دنقل وسعدي يوسف وممدوح عدوان ونزيه أبو عفش، واضطرت أجهزة الأمن إلى دفع المئات بعيدا نتيجة الخوف من حالات اختناق قد تحصل نتيجة الازدحام، وفي اليوم الثاني نشر الخبر عن المهرجان في إحدى الصحف مقتضبا وبدون اسم ممدوح عدوان الذي صفق له الحضور طويلا مثلما صفق للقامات الأخرى، وذلك ببساطة لأن الرقيب كان يمنع أي إشارة عنه !
اليوم نحن في عام 2016، لسنا بحاجة إلى توصيف الصحافة العربية ودورها في حياتنا، ولسنا في حاجة لتوصيف الصحافة السورية وانتهاء دورها في حياتنا، لكن أليس من الضروري التعرف في عيد الصحافة على مصير ذلك الرقيب، وذلك الصحفي الذي حذف اسم ممدوح عدوان من الواقعة الخبرية ؟!
لنقرأ ماذا كتب الصحفي نبيل صالح ، الذي هو الآن عضو في مجلس الشعب :
“عيد الصحافة بالنسبة للإعلامي السوري مثل عيد الأب، لا أحد يحفل أو يحتفل به..فمنذ ثورة البعث الفلاحية وحتى الفورة السلفية في سورية ومهنة الصحافة في أدنى سلم المهن عندنا..
فالصحفي لا الحكومة تحبه ولا الناس تصدقه ولانقابة الصحفيين تحفل به، ومع ذلك مازال الكثير من المغامرين يلقون بحياتهم في أتون الصحافة معتقدين أنهم بقليل من الحبر وكثير من الصراخ سوف يصلحون ذيل الأمة الأعوج.. لولا أن الصحفي الجيد يجثم فوق قلمه جيش من الرقباء الخبثاء: رئيس القسم فمدير التحرير فرئيسه يلي رقابة الوزارة فالأجهزة..الأمنية فالرقابة الدينية، حيث يغدو الصحفي مكبلا بقيود في يديه ولسانه وعينيه، ومع ذلك يجب أن يرقص ببراعة تعجب الجمهور ؟!”
هي رحلة بين محطتين، أو هما صورتان في زمنين الفارق بينهما أكثر من خمس وثلاثين عاما، وهذا يعني أن الحديث عن عيد الصحافة في سورية، يؤدي تلقائيا إلى الحديث عن عدد من الجهات يتجمع فيها الصحفيون أو تعنى بشؤون الصحفيين ومنها الصحف والإذاعات والتلفزيونات الموجودة في سورية إضافة إلى المجلس الوطني للإعلام وصولا إلى اتحاد الصحفيين..
لقد صان الدستور الجديد ((2012)) حرية الصحافة وللأمانة هناك كتابات جريئة وتتجاوز المسموح رقابيا، لكن الصحفي يستمر في كونه ((قضية إشكالية في سورية)) بدءا من توصيفه وصولا إلى حقوقه وواجباته، فقد دخل الصحافة ما هب ودب . دخلها حتى من لايعرف أن يكتب رسالة لأمه. لكن هذا لايهز تاريخية الصحافة السورية المعروفة بأنها بنيان قوي مد الصحافة العربية في مرحلة النهضة والاستقلال بقامات كبيرة وبتجربة مميزة .
ولذلك من المهم التأسيس الآن لقيم وطنية جديدة للصحافة، قيم من قلب التاريخ الوطني السوري الذي عشناه أهمها أن يكون من يعمل بالصحافة مهنيا ، ثم محصنا من أي تعسف في التعامل معه (قانون الإعلام الجديد حصّن الصحفي من المساءلة إلّا بوجود مندوب عن المجلس الوطني للإعلام) ، ومن بين القيم المطلوبة ضرورة الاتفاق على ميثاق للصحافة الوطنية السورية يشارك فيه الصحفيون والمثقفون والكتاب، وتتبناه الدولة بكل هيبيتها وقوتها، ويكون هذا الميثاق الحصيرة الحديدية التي تشاد فوقها أنظمة الصحافة ، فلا يجوز أن يخاف الصحفي على مصيره وعلى لقمته في وقت تنتشر فيه الإغراءات المالية في محيطه العربي، ولايجوز أن ينأى الصحفي عن أهم الأحداث والقضايا لأي سبب كان ..
في عيد الصحافة ، قال رئيس اتحاد الصحفيين في سورية إلياس مراد “إن الصحفيين السوريين في المؤسسات الإعلامية أثبتوا وطنيتهم وصدقهم وانتماءهم للوطن عبر العمل على مواجهة الإرهاب وفضح أدواته، متمنياً الرحمة للشهداء الصحفيين الذين قدّموا دماءهم دفاعاً عن الوطن والمهنة.”
هذا توصيف واضح ومهم، ولابد من متابعة ما أضافه بانتباه، فهو يرى أن المطلوب من الصحفيين في هذه الفترة مزيدا من الاجتهاد والبحث والتركيز على الإعلام الاستقصائي بما يسهم في كشف مواطن الفساد ويواكب مرحلة إعادة الإعمار للوصول إلى الأهداف التي ضحى من أجلها الجيش والشعب وهي إعادة سورية إلى ما كانت عليه وأفضل.”
هذا يعني أن مايحتاجه الصحفي يفترض أن يكون في الأولويات لتنفيذ تلك المهمات، وفي واقع الحال هو يعاني جديا ويبدو أحيانا غير قادر على العطاء، حتى في أسرته لم يكن في لحظة من اللحظات قادرا على إقناع أسرته بمهنته، فقد همس أحد الصحفيين المعروفين على هامش الاحتفال قائلا :
ــ طردتني زوجتي من الغرفة أنا والأرشيف، وصاحت : ماذا استفدت من كل هذا الهراء ؟ بيتك غرفتان بالأجرة.. ألم يكن من الأجدى أن تفتح مكتبا عقاريا كأبي محمود ؟!
ذلك واقع، ومؤخرا قام وزير الإعلام الجديد المهندس رامز ترجمان ، الذي لم يتكلم أو يصرح أو يبتهج بعيد الصحافة .. قام بزيارة صحيفة «الثورة» في آخر ساعات الليل وشارك الصحفيين مراحل إصدار العدد اليومي للصحيفة، ولم يتركهم إلّا والعدد بين يديه «الساعة الواحدة والنصف صباحاً» ــ هذا الكلام نشرته الثورة ــ مُتفقداً جودة الطباعة والألوان وخطوات العمل في الأقسام الفنية التي تسبق عملية الطباعة.، والصحفيون وجدوا في ذلك خطوة جديدة، ينتظرون ما بعدها من جدية في التعاطي مع مهنتهم ..
أما المجلس الوطني للاعلام، فقد أمضى أعضاؤه أيامهم الأخيرة بحزن ، وانشغلوا عن عيد الصحافة بالخبرين المقتضبين اللذين نشرتهما صحيفة الوطن الأول الذي أشار عن نية الحكومة بإعادة هيكلة المجلس الذي هم فيه، والثاني الذي نقل عن مصدر رفيع نية الحكومة بإلغاء المجلس الذي هم فيه ..
لايعرف الصحفيون ماذا يعني ذلك..كل يتصرف، وكأنه موظف ((حاف)) لادور له في الحياة الملبدة بالغيوم !
نأى كثير منهم عن الجهات المعنية بالمهنة، خاصة أنها تلتفت إلى المناسبات أكثر من التفاتها إلى هموم المهنة، وعندما تسأل الصحفي عن متاعبه تتغير ملامح وجهه، وهي اليوم ملامح المواطن السوري نفسه.. وقد لايجيبك !
إن للصحافة خصوصية ، من بينها أنه ينبغي أن يكون العنصر الأساسي فيها (أي الصحفي) قامة حقيقية في المجتمع، قادرا على إعادة إنتاج نفسه وثقافته دون حاجة إلى أن يكتب في عشرين نافذة ، ويقع بأكثر من تناقض يجعله يخجل أمام المرآة، لكي يعيش!
وسابقا حاول كل منا أن يكون صحفيا بضمير !