الصراع على غاز المتوسّط ونفطه

إذا كان تقاطع المصالح قد التقى بين روسيا والولايات المتّحدة في سوريا على ضرب الإرهاب المتمثّل بـ “داعش” وأخواته بما يضمّ من مقاتلين من جنسيات غير سورية، فإنّ هناك تباعداً كبيراً بينهما نتيجة الصراع القائم على النفوذ السياسي والعسكري والمصالح الاقتصادية والاستثمارية، والذي يمتدّ إلى بلدان منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي، حيث يبرز النفط كسلعة استراتيجية للجانبَين في الصراع الدولي، لتكون الطاقة مكمن القوّة في السيطرة على العالم، فضلاً عن الترسانات العسكرية النووية وغير النووية، وخصوصاً بعدما أصبحت السيطرة على الموارد، ولاسيّما الطاقة النظيفة، الممرّ الأمثل نحو تشكيل النظام العالمي المتعثّر التبلور منذ عام 1991.

مع بداية ترنّح القطاع النفطي الروسي تحت ضغط تهاوي الأسعار العالمية إلى ما دون الثلاثين دولاراً للبرميل، فضلاً عن العقوبات الغربية وسوء التخطيط، بات هذا القطاع سبباً في أزمة جديدة للاقتصاد الروسي، وُصفت بأنّها الأعمق والأوسع أثراً منذ انهيار الاتّحاد السوفياتي.

وإذا كان كبار الخبراء الشرق أوسطيّين يعتقدون أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة تمسك بزمام أسواق النفط وأسعاره، فإنّ خبراء دوليين يتوقّعون أن تسعى روسيا انطلاقاً من نفوذها وسيطرتها على سوريا إلى الإمساك بأوراق النفط في منطقة الشرق الأوسط من خلال السيطرة بطريقة أو بأخرى على حجم الإنتاج في ثاني وثالث دولتَين داخل أوبك وهما إيران والعراق، فضلاً عن إنتاجها في روسيا، لتمارس الضغط والتهديد على باقي الإنتاج الشرق أوسطي، وهي تراهن على هذه التحرّكات لأنّها الباب الوحيد المفتوح أمامها لإخراج نفسها من المأزق المالي والاقتصادي الذي حُشرت فيه.

نصيحة القيصر

هل ينفّذ “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين نصيحة القيصر بطرس الأكبر (وهو من أعظم قياصرة الروس) منذ 400 عام؟..

تقول النصيحة إذا أرادت روسيا أن تبقى أمّة قويّة عظيمة، عليها أن تحقّق ثلاثة شروط في سياستها الخارجية:

أوّلاً، عليها أن تصل إلى المحيط الهادي، حتّى لو اضطرّت إلى الصراع مع الإمبراطورية الفارسية.

ثانياً، عليها أن تصل إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسّط، حتّى لو اضطرّت إلى تقويض الإمبراطورية العثمانية.

ثالثاً، عليها أن تُقيم أفضل العلاقات والتحالفات مع سوريا (الهلال الخصيب في ذلك العصر) نظراً لموقعها ” الجيوستراتيجي” الذي يربط ثلاث قارّات آسيا، وأوروبا، وأفريقيا.

لذلك تعتبر سوريا أهمّ حليف استراتيجي لروسيا في المنطقة منذ أكثر من ستّين عاماً، وموسكو تدير من خلالها جزءاً مهمّاً من سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وهي (أي سوريا) تمثّل قاعدة مهمّة للمصالح الروسية، التي لا تقتصر على النفوذ العسكري والسياسي، بل تشمل أيضاً المصالح الاقتصادية التي تبدأ بشراء السلاح الروسي حيث تُعَدّ سوريا أكبر زبون له وهي تحتلّ المرتبة الخامسه بين 80 دولة. أمّا الاستثمارات الروسية في سوريا، فقد بلغ حجمها أكثر من 20 مليار دولار، وتتركّز بشكل أساسي في الصناعات المتعلّقة بالطاقة ومجال النفط والغاز، وتبرز في هذا المجال أهمّية صفقة عقد التنقيب المُبرَم مع شركة “سيوز نفط غاز ” الروسيّة، وهي أوّل شركة أجنبية تحصل على حقل التنقيب والإنتاج في الجرف القارّي التابع لسوريا، ويشمل المنطقة الممتدّة من جنوب شاطئ مدينة طرطوس إلى محاذاة مدينة بانياس، وبعمق عن الشاطئ يُقدَّر بنحو 70 كيلو متراً، وبمساحة إجمالية تصل إلى نحو 2190 كيلومتراً مربّعاً، وتبلغ كلفة الصفقة 100 مليون دولار، وهي تقديرات الحدّ الأدنى.

ويبدو أنّ الأميركيّين ليسوا بعيدين عن هذا الهدف الجيوسياسي، وسبق لهم أن وضعوا دراسات، بإشراف وزارة الخارجية خلال تولّي هيلاري كلينتون مسؤوليّتها، توصي بأن يكون استغلال نفط سوريا في أيدي شركات أميركية، وخصوصاً الشركة التي اكتشفت حقول الغاز في إسرائيل، والتي يمثّلها في علاقاتها بالدوائر الأميركية الرئيس السابق بيل كلينتون، وهي في الوقت نفسه تسعى لاستغلال هذه الثروة المرتقَبة في سواحل لبنان البحرية، وذلك انطلاقاً من حرص الأميركيّين على ضرورة أن يكون تطوير موارد شرق البحر المتوسّط تحت سيطرتهم، وأن يؤدّي إلى تصدير الغاز إلى تركيا ومن ثمّ إلى الأسواق الأوروبية، فتكون النتيجة تقليص دور روسيا في مجال تزويد تركيا بالغاز، الذي هو على مستوى 70 في المائة من حاجتها حالياً.

ومن هنا تبرز خطورة الصراع الاستراتيجي الدولي بين روسيا والولايات المتّحدة في الحرب السورية، مع الإشارة إلى أهمّية الغاز الذي بات يشكّل مادة الطاقة النظيفة، واتّجاه أوروبا إلى اعتماده كطاقة بديلة للنفط.

رهان بوتين

إذا كان ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي السابق (2000-2008) قد وضع معركة الطاقة في مواجهة واضحة مع الصين وروسيا، واستمرّت بها سياسات أوباما، وتجلّت “جيوبوليتيك النفط ” كجزء من صراع أميركي عالمي من أجل السيطرة المستقبلية ما بين القوى العظمى، وخصوصاً أنّ جيو سياسة النفط هي في جوهر العلاقات الدولية، وتُحدِّد بشكل كبير صعود الأمم وهبوطها، فإنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يراهن على مشروعَين لنقل الغاز، هما السيل الشمالي والسيل الجنوبي ليكون إنجازهما وسام استحقاق تاريخي على صدره، من أجل عودة روسيا إلى المسرح العالمي وإحكام السيطرة على الاقتصاد الأوروبي.

1 – السيل الشمالي: ينتقل من روسيا إلى ألمانيا مباشرة، ومن فارينبرغ إلى ساسنتير عبر بحر البلطيق من دون المرور ببيلا روسيا، الأمر الذي يخفّف الضغط عليها.

2 – السيل الجنوبي : يُجرّ من روسيا إلى البحر الأسود فبلغاريا، ويتفرّع إلى اليونان فجنوب إيطاليا وإلى هنغاريا فالنمسا.

روسيا سارعت إلى العمل لتنفيذ هذا المشروع بشقّيه الشمالي والجنوبي، لمواجهة المشروع الأميركي “نابوكو” لاقتناص غاز البحر الأسود وغاز أذربيجان.

ويتركّز المشروع الأميركي في آسيا الوسطى والبحر الأسود ومحيطه، فيما موقعه المخزَّن هو تركيا، ومساره منها إلى بلغاريا ورومانيا ثمّ هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وكرواتيا وسلوفانيا فإيطاليا.

وكان المفروض أن يسبق المشروع الأميركي المشروع الروسي، إلّا أنّ أوضاعاً تقنيّة أخّرت إنجازه من عام 2014 إلى عام 2017، الأمر الذي فسح المجال لتسجيل السباق لمصلحة المشروع الروسي. مع العلم أنّه بعملية تأجيل مشروع نابوكو تزداد تكالفيه التي قُدِّرت قبل خمس سنوات بـ 11.20 مليار دولار، حيث ارتفعت إلى 21.4 مليار دولار.

سوريا هدف استراتيجي

في هذه المرحلة استدعى البحث عن مناطق دعم رديفة للمشروع الروسي، وأهمّها:

– الغاز الإيراني، مع العلم أنّ الولايات المتّحدة تصرّ على أن يكون رديفاً لغاز نابوكو ليجرّ في خطّ موازٍ لغاز جورجيا (وإن أمكن أذربيجان) إلى نقطة التجمّع في أرضروم في تركيا.

– غاز منطقة شرق المتوسّط (سوريا ولبنان وإسرائيل).

– خطّ الغاز المقبل من الربع الخالي السعودي الذي لا طريق له إلّا سوريا.

– خطّ الغاز القطري الذي لا طريق له نحو أوروبا إلّا سوريا أيضاً، وهو يدخل في حلبة المنافسة الأميركية لسيطرة روسيا على عصر الغاز.

وبالقرار الذي اتّخذته إيران وتوقيع اتّفاقيات لنقل الغاز عبر العراق إلى سوريا في تموز (يوليو) 2011، أصبحت سوريا هي بؤرة منطقة التجميع والإنتاج، بالتضامن مع الاحتياطي اللبناني، وهو فضاء استراتيجي طاقي يُفتَح لأوّل مرّة جغرافياً من إيران إلى العراق إلى سوريا ولبنان، وكلّ ذلك كان من الممنوعات لسنين طويلة. الأمر الذي يفسّر حجم الصراع على سوريا ولبنان في هذه المرحلة.

وكانت قطر وإيران في العام 1989 بدأتا تطوير حقل القبّة الشمالية الذي دُفن على 3000 متر تحت قاع الخليج العربي، ومع 51 تريليون مترٍ مكعّب من الغاز و50 مليار مترٍ مكعّب من المكثّفات السائلة، وهو يُعتبَر أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم، ويقع نحو ثلث احتياطاته في المياه الإيرانية مقابل ثلثين في المياه القطرية. وبما أنّ كلفة الغاز القطري غالية لأنّها تُنقَل في الناقلات وينافسه الغاز الروسي في أوروبا، لذلك اقترحت قطر بناء خطّ أنابيب عبر شمال غرب السعودية والأردن وسوريا إلى تركيا، لكنّ الرئيس السوري بشّار الأسد رفض التوقيع على الخطّ بضغطٍ من روسيا لتجنّب منافستها في أوروبا.

وجاءت الصفقة على خطّ أنابيب بين إيران والعراق وسوريا، وتمّ توقيعها في تموز(يوليو) 2012.

وكان مُقرَّراً أن يتمّ الانتهاء من بناء الخطّ في العام 2016، لكنّ عواصف الربيع العربي وما تلاها من أحداث في سوريا أخّرت المشروع، ثمّ جاءت القوّة العسكرية الروسية في سوريا التي كرّست الموقف المؤيّد للمشروع الايراني ومنع المشروع القطري، مع العلم أنّ الولايات المتّحدة تدعم خطّ أنابيب قطر باعتباره وسيلة لتحقيق التوازن مع إيران وتنويع إمدادات الغاز إلى أوروبا.

*كاتب ومحلّل اقتصادي- لبنان

نشرة أفق الألكترونية (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى