الصراع في الشرق الأوسط لا تحركه الطائفية فقط
بدأت حرب الثلاثين عاماً في العام 1618، على أنها صراع بين مختلف الدول البروتستانتية والكاثوليكية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وجلبت الدمار وأدت إلى فقدان أعداد كبيرة من السكان في قلب أوروبا. ووجد العديد من المراقبين للشرق الأوسط، اليوم أوجه التشابه مع ذلك الماضي البعيد.
وعلى سبيل المثال، أدعى زبيجنيو بريجنسكي، أنه يوجد العديد من أوجه الشبه “بين ما يحدث في الشرق الأوسط وما حدث في أوروبا خلال حرب الثلاثين عاما” منذ عدة قرون، وهي صعود الهوية الدينية، باعتبارها الدافع الرئيسي للعمل السياسي. كما أعرب العديد من الشخصيات العامة عن آراء مشابهة لذلك، بما في ذلك ليون بانيتا، الذي قال:”نحن ننظر في نوع من الحرب، التي استمرت لمدة 30 عاما”، وقال أندرو سوليفان “تختمر حرب الثلاثين عاما في الشرق الأوسط”، وقال بريندان سيمز، الذي يرى أن “جذر حرب الثلاثين عاما، امتدت إلى العديد من صراعات الشرق الأوسط، التي تتجلى في صورة عدم التسامح الديني”.
وحلل آخرون كيفية انتهاء حرب الثلاثين عاما، وتوفير “نموذج” يمكنه إحلال السلام في الشرق الأوسط.، فقد كتب بوليتزر جاك مايلز أن “السلام في ويستفاليا في عام 1648، حل بإعادة رسم أجزاء من خريطة أوروبا. ويمكن للسلام في الشرق الأوسط أن يفعل الشيء نفسه”. وتعتبر كل هذه الأساليب جزءا من عملية مستمرة من المنطقة، وهي الميل لجعل منطقة الشرق الاوسط تحاذي الفكر العلماني الحديث، والمعايير الغربية.
وفي الواقع كانت حروب الثلاثين عاما لا ترتبط بـ”الهوية الدينية”. فعلى سبيل المثال، دعمت الكاثوليكية في فرنسا، تدخل السويد البروتستانتية، التي يقودها جوستاف أدولفوس، ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، والجامعة الكاثوليكية.
وتؤكد كل من حرب الثلاثين عاما والعديد من الحروب في الشرق الأوسط، على أن القضايا الدينية وحدها لا يمكنها أن تفسر الكثير، فقبل أربعة قرون، قامت فرنسا، وهابسبورج، والأمراء الألمان (الذين كان لدى تحولهم القليل للقيام به مع اللاهوت والكثير لتأكيد قوتهم) وغيرهم من اللاعبين الإقليميين، بالاشتباك لأسباب عملية جدا. وينطبق الشيء نفسه في يومنا هذا على الشرق الأوسط، حيث يوجد فيه الكثير من الانقسامات والاقتتال الطائفي، التي ستضر بالاقتصاد، وبالآثار القومية وديناميات الجغرافية السياسية الجارية، على المدى القصير أو البعيد.
وفي هذا الصدد، كان ينظر لقرار إسقاط نظام صدام حسين في العام 2003، ومؤخرا عدم تدخل الولايات المتحدة في سوريا، من قبل المملكة العربية السعودية على أنه دعم غير مباشر لاستراتيجيات إيران. و نتيجة لذلك، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، استثمرت الرياض كمية هائلة من الموارد في معارضة صعود أي حكومة أو حزب في العالم العربي، يمكن أن يمثل بديلا موثوقا لهذا “النموذج السعودي”. كما يفسر قرار الرياض بدعم الجيش المصري في الانقلاب ضد الرئيس الإسلامي السابق، محمد مرسي.
وبناء على كل هذه الاعتبارات، وتصاعد دور إيران في المنطقة، فيجب ربط استمرار العديد من الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط ببعضها البعض. ومن ناحية أخرى، فيجب أن تتشكل المنطقة على حسب القرون، التي قسمتها بالمعيار الغربي، ليس فقط للمستشرقين، لكن أيضا لتبسيط صورة أكثر تعقيدا.
وفي أوائل القرن السابع عشر، كانت أوروبا تواجه تداعيات الإصلاح البروتستانتي، الذي كان بدأ منذ قرن واحد في وقت سابق. وعلاوة على ذلك، فإن التعصب الذي ميز العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية، كان ليس له مثيلا في تاريخ الشرق الأوسط. ولقرون عديدة، عاش السنة والشيعة، والمسيحيون واليهود وجماعات دينية أخرى، جنبا إلى جنب في المنطقة، ليصلوا إلى أعلى مستوى سجل من التعايش في معظم دول العالم.
في هذا المعنى، فان ذكر أطروحة وجود “حرب استمرت 1400” بين السنة والشيعة، على نحو متزايد في الوقت الحاضر، هي إشكالية، وتميل إلى التغاضي عن الانتماء إلى طائفة معينة لقرون، جعلتنا فصيلا واحدا فقط، وهي طريقة ثانوية للتعبير عن هوية الشخص في كثير من الأحيان.
وهذا لا ينبغي أن يوحي بأن الصراع الطائفي كان غير معروف تاريخيا. فقد تم توثيق حالات العنف بين السنة والشيعة في وقت مبكر من العصور الوسطى. ومع ذلك، فإن طبيعتها ونطاقها لا يمكن مقارنتها بالأوقات الأخيرة. كما لاحظ الفنار حداد، “في وقت مبكر من القرون الوسطى في بغداد ، كانت هناك صدامات طائفية، لكن هذا يختلف جدا عن ما يحدث في عصر الدولة القومية”.
وفي هذا المعني و في العام 2003، تألف نحو 40% من سكان بغداد -أي ربع العراق- من أشخاص ولدوا من زيجات مختلطة بين السنة والشيعة. وسماهم العراقيون في بغداد باسم “سونشيعة.” واليوم استبدل واقع “السونشيعة” برؤية بديلة، ما ينبئ “بتغيير” المنطقة. وكان هذا النهج متجذرا في وقت مبكر من العام 1990 ، وأعرب عن ذلك برنارد لويس في مقال “إعادة التفكير في الشرق الأوسط”، الذي نشر في صحيفة ” فورن آفيرز ” في العام 1992.
وأدعى لويس أن العديد من دول المنطقة، هي ببساطة إبداعات الصناعة الغربية، وتوقع أيضا، من بين السيناريوهات المستقبلية، أن منطقة الشرق الأوسط قد تنهار على الأرجح “إلى فوضى الشجار المتناحرة، ومحاربة الطوائف والقبائل والمناطق والأحزاب”. ولولا وجود هذه الفوضى المحتملة، التي لوحظت من قبل العديد من العلماء في السنوات التالية، فإن إجبار أو إقناع السكان المحليين بقبول أمر مفروض من الخارج، كان يمكن أن يكون أسهل بكثير.
ووجدت آراء مشابهة، لتلك التي عبر عنها لويس، في الآونة الأخيرة صدرت من قبل عشرات من العلماء. على سبيل المثال، أشار جوشوا لانديس إلى أن منطقة الشرق الأوسط تشهد إعادة ترتيب للسكان “لتناسب الدول القومية، التي تم إصلاحها بعد الحرب العالمية الأولى بشكل أفضل.” وذهب آخرون إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن وسط المأساة والرعب، الذي يجتاح سوريا والعراق ولبنان والأردن ، إلا أنها “أصبحت أكثر استقرارا قليلا”، وتمثل “الشيستان” في جنوب العراق، إضافة إلى “تقسيم” سوريا، استقرارا للحلول، التي من المرجح أن تشهد “نهاية سايكس بيكو”.
وفي الواقع، انطلقت اتفاقية سايكس بيكو للحدود، وسرد الموضوعات ذات الصلة المركزية الإثنية، في كل الاتجاهات ولأغراض متنوعة، على الرغم من قيمتها التفسيرية المحدودة جدا. وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، أصبحت اتفاقية سايكس بيكو حبرا على ورق بالفعل، ولا شيء تقريبا من القضايا (بما في ذلك تدويل القدس)، التي نوقشت في 1915-1916 تم تنفيذها، أو ربما كانت غير ذي صلة لعدة عقود.
وعلى سبيل المثال، اتفاقية سايكس بيكو، التي تهدف إلى تقسيم سوريا والعراق حاليا إلى ثلاثة أو أربع ولايات، في حين أن مؤتمر سان ريمو، الذي عقد في عام 1920 عمل صراحة على تأجيل تحديد الحدود. وقال جيمس جيلفن إن السبب في أنه لا يزال العديد من الناس يرجعون إلى نهاية “نظام سايكس بيكو”، هو أنهم “يلقون اللوم على الأفراد، بدلا من الأحداث التاريخية المعقدة.”
ولا تزال العقلية، التي من خلالها اقتربت السلطات البريطانية والفرنسية من المنطقة وثيقة الصلة بالموضوع، لا سيما في مرحلة من التاريخ، الذي وقعت فيه هذا الاتفاق. وتعرّف لندن وباريس الواقع المحلي والمعارضة، بوصفهما تعبيرا عن الانقسامات الدينية البدائية، ووضعت المؤسسات المجتمعية الجديدة الخاصة بهم (مثل مجلس المسلمين الأعلي في فلسطين)، كنظم حديثة، بالمعنى الذي ذكرته لورا روبسون، “المعركة الانتخابية في القرون الوسطى.”
وقامت الهياكل المجتمعية والقضائية بتصورها وتنفيذها في العقد الثاني من القرن الماضي، وبعبارة أخرى، نجحت في تكريس الاختلافات الدينية قانونيا: بتحقيق نتائج طويلة الأمد من روح عصر سايكس بيكو، وليس الاتفاق الذي يحمل أسماءهم.
ولن يجلب “يستفاليا الجديد” الذي ينادي به مايلز، إضافة إلى خلط سكان المنطقة، لتصبح دولا محددة عرقيا أو دينيا، الذي كان متوقعا من لويس وغيره، أي فائدة للمنطقة وسكانها. وتسلط هذه الآراء الضوء على وجهات النظر والمصالح المحتملة لأولئك الذين يدعمونهم، بدلا من التركيز على المصالح والتاريخ لأولئك الذين ما زالوا يعيشون في المنطقة.
وفي الواقع، بدلا من حدوث الاستقرار نفسه، من خلال عملية العداء العرقي، فإن المنطقة تشهد ما يمكن تسميته عملية “الحصول على العودة إلى التاريخ.” فمعظم شعوب المنطقة تكافح لتجد طريقها للعودة إلى التاريخ، واكتشاف هويات هجينة، مع نفاذيتهم وخصائصهم، التي اتسمت بها الحياة اليومية في المنطقة لآلاف السنين.
ناشيونال بوست