الطائفية عارية: تحوّل المشهد في سوريا (بدر الإبراهيم)
بدر الإبراهيم
تفتح تطورات الأوضاع في العراق وسوريا الباب واسعاً على انفجار كبير في المشرق العربي، وعلى احتقان مذهبي متصاعد قد يتحول إلى صراع دموي في أكثر من بلد عربي، ومع التعبئة المذهبية القائمة يبدو أننا ننتقل إلى مرحلة أكثر خطورة في مسألة الصراع المذهبي. من الممكن العودة إلى فهم الإشكالية التي صنعتها أنظمة الاستبداد في العراق وسوريا، حيث فشلت هذه الأنظمة في إيجاد هوية تجمع مواطنيها، وحين زال غطاء الاستبداد أو ضعفت سلطته المركزية في هذه المجتمعات ظهرت أمراضٌ ساهم الاستبداد في صناعتها، لكن هذا الحديث لا يكفي لفهم المشكل الطائفي الذي يبرز اليوم.
عند الحديث عن الطائفية في هذا الظرف لا بد من تحديد مفهومنا لها ابتداءً، وخاصةً أن النقاش الذي يدور هذه الأيام يقود إلى تراشق التهم بالطائفية بين الأطراف المختلفة بما يفقد مصطلح الطائفية أي معنى غير اعتباره «شتيمة» تستخدم في سجال هو طائفي بطبيعته، لذلك عندما نتحدث عن الطائفية فإننا نعني تحديداً تسييس الانتماء المذهبي، وتعريف الذات كجزء من جماعة مذهبية فاعلة في المجال السياسي، ورسم الخطوط الفاصلة سياسياً بين الكتل المذهبية باستخدام عبارات (نحن وهم) في الخطاب (وتالياً في الممارسة السياسية)، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى صراع سياسي قائم على أسس مذهبية.
إن تسييس المذاهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو العامل المؤجج للأزمات الطائفية في منطقتنا، وقد ساهم الاستبداد في هذا الأمر عبر حظره لوجود قوى مدنية حديثة تنشأ على أساس مصالح مختلفة عن مصالح الجماعات الأهلية، وهكذا بقيت الجماعات الأهلية (الطوائف والعشائر) التشكيلات الوحيدة التي يمكن العمل من خلالها في مجتمعاتنا.
ما يقدمه تسييس المذهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو تحديد مجموعة من المصالح وأولويات الصداقة والعداء الخاصة بالهوية المذهبية والمختلفة عن مصالح وأولويات الجماعة الوطنية، وهكذا يصبح التناقض الطائفي أعلى شأناً من التناقض مع عدو الأمة، وتصبح مسألة التدخل الخارجي حتى من الأعداء مبررة للانتصار على الخصم المذهبي، فتضيع السيادة والدولة وتتحول الجماعات المذهبية إلى بيادق بيد قوى إقليمية ودولية.
تحول العراق وسوريا ولبنان إلى ساحات صراع بين «الشيعية السياسية» التي تقودها إيران، وبين «السنية السياسية» التي تقودها تركيا وقطر والإخوان المسلمون، وبعيداً عن الدور القطري المنتفخ أكثر من حجمه الطبيعي، فإن تركيا تحديداً تخوض صراع نفوذ مع إيران في العراق والشام، وقد قاد تسييس المذاهب وغياب مشروع ورؤية عربية يمكنها تحديد المصالح العربية وتوضيح طبيعة الاختلاف والاتفاق مع الدورين الإيراني والتركي انطلاقاً من مصالح العرب إلى غياب السيادة وانحياز الجماعات المذهبية المتصارعة إلى قوى إقليمية ودولية تدعمها، وطبعاً إلى دخول الولايات المتحدة وإسرائيل على الخط.
في حالة السعار الطائفي الناتجة عن احتدام الصراع بين الأطراف المذهبية في المنطقة يصبح الضحايا مجرد أرقام، ويغدو النقاش حول نبش قبور الأموات أهم من قتل الأحياء، ويبدو الحديث عن رفض الطائفية أشبه بالخرافة، بل إنه يصبح مثار سخرية، ويصبح أقصى طموح أشخاص ضد الطائفية أن يسلموا على أنفسهم من الانزلاق إلى المستنقع الطائفي الذي مع اشتداد الأزمة يسحب إليه مجموعات يفترض أنها عقلانية ومعتدلة وترفض الطائفية في خطابها، ويظهر التعاطي مع تطورات الحالة السورية كنموذج لما يمكن أن يكون عليه السعار الطائفي الممزوج من قبل البعض بالقبول بحلول صهيونية، وغياب العقلانية وحس المسؤولية عند بعض المثقفين وركوبهم موجة التحريض الشعبوي، وهذا النموذج يستحق وقفة مفصلة معه.
مشكلة مفهوم الثورة
يمكن فهم الحماسة الشديدة عند قطاعات واسعة من الشعوب العربية للثورات التي اندلعت في العالم العربي مع نهاية عام 2010، بل يمكن القول إن هذه الحماسة تثير البهجة والارتياح لأن هذه القطاعات الواسعة باتت تفهم الحاجة إلى التغيير في العالم العربي بعد عقود من سطوة الاستبداد والفساد.
لكن المشكلة أن هناك من يحول هذه الحماسة إلى حالة دوغمائية ترفض مجرد مناقشة تفاصيل هذه الثورات أو نقد بعض الجهات الثورية، ولا تعود قادرة حتى على التمييز بين نقد الثورات المنطلق من رفض مبدئي لها لاعتبارات سياسية أو فكرية أو مصلحية وبين النقد المنطلق من تأييد هذه الثورات والحرص على أن تحقق تطلعات من ثاروا وقدموا التضحيات، ويعود هذا إلى رؤية الثورة كحالة صراع بين الخير والشر، ما يجعلنا بحاجة إلى نفي هذه الفكرة التي تظهر بوعي أحياناً ودون وعي في أحيان كثيرة أخرى قبل الدخول في تفاصيل المشهد السوري.
ليست الغاية هنا تحديد مفهوم جامد وأيديولوجي للثورة، لكنها مجرد مقاربة للمفهوم المعاصر في المجال السياسي، وهنا نقول إن الثورة فعل تمرد على المنظومة القائمة يقوم به مجموعة من الناس من خارج هذه المنظومة بهدف تغييرها، وهكذا فإن الثورة هي وصف لتمرد على ما هو قائم باعتباره غير شرعي، وهي فعل يسعى إلى إحلال شرعية جديدة تقوم على أسس مغايرة لتلك الشرعية القائمة.
من خلال هذا التوصيف يمكن اعتبار أي متمرد يسعى إلى تغيير المنظومة القائمة، سواءٌ عن طريق التظاهر السلمي أو من خلال السلاح، ثائراً. فأعضاء تنظيم القاعدة على سبيل المثال ثوار على النظام الدولي، ولا يقتضي وصفهم بالثوار إضفاء أي قيمة أخلاقية أو إيجابية عليهم، ذلك أن الثورة ليست قيمة متسامية وشاعرية بحد ذاتها، وليست أخلاقية وخيّرة بطبيعتها، إنما هي توصيف لفعل التمرد الذي يقوم به الثوار.
وهؤلاء الثوار ليسوا أخياراً لأنهم ثوار، ولا تعني ثورتهم بالضرورة أنهم أخلاقيون، وليس كل مظلوم أو ثائر هو منحاز لقيم الخير بالضرورة، بل إن الحكم على الثوار يتعلق بتفاصيل المشروع الذي يحملونه للتغيير لا بفعلهم الثوري ابتداءً، لذلك من المهم التأكيد على أن النظر إلى الثورات والثوار كحالات أخلاقية خيّرة يصنع مشكلة.
تكمن مشكلة الربط المبدئي بين الثورة وقيم الخير وإسقاط الأخلاقيات على فعل التمرد السياسي في تكوين «عمى أيديولوجي» يرى في الثوار كل الخير وفي المنظومة القائمة كل الشر، فيقع أصحاب هذا الربط في معضلة أخلاقية تتمثل في غضهم الطرف عن المشاكل الأخلاقية التي يمكن أن يقع فيها ثائر على النظام القائم، فالمظلوم ليس خيّراً بالضرورة، وهو قد يتحول إلى ظالم، لذلك لا قداسة للفعل الثوري ولا للثائر ضد نظام مستبد، والمسألة متعلقة بالقيم التي تحملها ثورته لا بفعل الثورة بحد ذاته.
يجري خلط كبير في التعاطي الأخلاقي والسياسي مع الثورات، فتُسقَط القيم الأخلاقية على الفعل الثوري نفسه، وهنا لا بد من التأكيد على الفصل بين الواجب الأخلاقي في إدانة جريمة نظام قمعي ضد مجموعة من المدنيين العزل من المتظاهرين أو من غيرهم، وبين التقويم السياسي للمشروع الثوري الذي يخضع لاتفاق واختلاف المواقف والأفكار والمشاريع السياسية، لأن الخلط يعني إضفاء صفة القداسة على الثورات والثوار ومنع نقدها بحجج أخلاقية، ما يقود إلى ممارسات مكارثية في طابعها العام ضد كل من يحمل اختلافاً سياسياً مع مشاريع الثوار أو سلوكهم السياسي.
بالنسبة إلى الثورات العربية ـــ ومن ضمنها الثورة السورية ـــ يمكن الحديث عن مطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية عبرت عنها الجماهير التي خرجت في التظاهرات السلمية ثائرةً على أنظمة الاستبداد والفساد، وهو ما يجعل تأييدها طبيعياً لمن يرفض الظلم والاستبداد وينحاز إلى قيم الحرية، وفي ظل غياب أيديولوجيا سياسية قائدة يمكن الحديث حولها وتقويمها كما في ثورات روسيا وإيران وكوبا، فإن الانحياز إلى مطالب الجمهور الخارج بعفوية ودون تنظيم مسبق هو الموقف الذي يمكن أن يتخذه مناصرو الحرية ومعادو هذه الأنظمة التي عاثت في بلاد العرب فساداً طيلة عقود.
المهم هنا هو أن الموقف مرتبط بطبيعة الثورة وتفاصيل مطالبها، وليس متعلقاً بتأييد أعمى لأي ثورة على نظام استبدادي، ولو كان الأمر تأييداً أعمى لأي ثورة على نظام مستبد لأيدنا أعمال القاعدة والجهاديين طيلة السنوات الماضية في مواجهتها لأنظمة مستبدة عربية، لكن هذا لم يحصل لأن الحكم كان على طبيعة المشروع السياسي الذي يحمله «ثوار القاعدة» وعلى سلوكهم ووسائلهم التي يعتمدونها لتحقيق هذا المشروع. إنه موقف سياسي إذاً.
التحول في سوريا
يمكن اعتبار النظام السوري واحداً من أكثر الأنظمة قمعية في المنطقة العربية، فهو يعتمد على القبضة الأمنية على نحو رئيسي في الحفاظ على سيطرته وحكمه، وهذا ما أمّن استقراراً لحكم حافظ الأسد بعد سنوات من الانقلابات العسكرية المتوالية في سوريا.
ومثل بقية الأنظمة العربية الجمهورية في العقود الأخيرة تحول النظام السوري من حكم الحزب إلى حكم العائلة التي قادت البلاد بالتحالف مع الأجهزة الأمنية ومجموعة من رجال الأعمال الذين برز دورهم على نحو كبير في عهد بشار الأسد مع سياسات الانفتاح النيوليبرالية التي طبقها، وهو ما مكّن عدداً من رجال الأعمال (كثيرون منهم من أقرباء الأسد مثل رامي مخلوف وذو الهمة شاليش) من احتكار بعض الصناعات والسلع، ومع زيادة معدلات الفساد وتعزيز نمط الاقتصاد الاستهلاكي في مقابل تهميش الصناعة وإهمال الزراعة ازداد الضغط على الناس في الأرياف بالذات، وهكذا فإن الثورة السورية بدأت بتظاهرات شعبية في الأرياف، وعبرت عن بعد طبقي واضح ممزوج بالطبع بتأثيرات الرياح الثورية التي هبت من تونس ومصر.
كان من الطبيعي لمؤيدي الحريات ومعارضي الاستبداد أن يقفوا مباشرة مع هذه الثورة، ومع مطالبها التي تدرجت من إصلاح النظام إلى إسقاطه، فالجماهير التي خرجت بعفوية ضد النظام تستحق الحرية والكرامة، وهذا النظام المغلق حد الترهل والشرس في قمعه يستحق سقوطاً مدوياً. استمرت الثورة السلمية شهوراً عانت خلالها قمع النظام، فتراجع المتظاهرون السلميون لتدخل فصائل المعارضة المسلحة على الخط، وتعلن بداية مرحلة جديدة من الصراع مع النظام: الثورة المسلحة. بدايةً لا مشكلة مع مفهوم الثورة المسلحة، وليس صحيحاً أن الثورة يجب أن تكون سلمية لتسمى ثورة كما يدّعي البعض، فالثورة كمفهوم كما أوضحناه لا يشترط السلمية، لكن السلمية هي الخيار الأسلم باعتبار أن الدولة هي التي تحتكر العنف، وهي أفضل خيار ثوري في مجتمعاتنا لأن استخدام السلاح قد يذهب بهذه المجتمعات المتنوعة والمنقسمة إلى الفوضى. عموماً حدث الانتقال من ثورة الجماهير العفوية إلى ثورة الفصائل المسلحة، وهو ما يعني طرح الأسئلة على مشروع هذه الفصائل.
تتنوع فصائل المعارضة المسلحة في سوريا، ويتنوع المقاتلون، فمجموعة انشقت عن الجيش النظامي وانضمت إلى الفصائل، وأخرى مكونة من الأهالي الذين تطوعوا للدفاع عن أنفسهم في البداية، ثم انخرطوا في العمل المسلح، وثالثة هي مجموعة من السلفيين الجهاديين السوريين وغير السوريين الذين دخلوا على خط المعركة مع نظام الأسد. تظهر رغم هذا التنوع وتعدد الفصائل صبغة إسلامية مهيمنة على العمل العسكري للمعارضة، فالفصائل الفاعلة على الأرض تحمل في خطابها وشعاراتها صبغة إسلامية مذهبية واضحة، ولهذه الهيمنة الإسلامية أسباب.
يتحدث كثيرون عن ضرورة الخطاب الديني في عمل مسلح في مجتمعاتنا المتدينة بطبيعتها، لكن هذا ليس قاعدة ثابتة، فقد قدم اليسار في عقود خلت عملاً نضالياً مسلحاً دون أدبيات دينية، وهناك فصائل مسلحة وطنية ويسارية ضمن المعارضة السورية، ومجموعة من الأهالي والجنود السابقين ليسوا من الإسلاميين، كما أن الناس يضحون من أجل الوطن والكرامة ورفضاً للحرمان الاقتصادي وغير ذلك من الدوافع. يمكن المحاججة بسطوة الخطاب الديني في العقود الثلاثة الأخيرة، وباستعداد المقاتلين السلفيين للتضحية وقدرتهم على القتال أكثر من غيرهم، لكن هذا وحده لا يفسر الصبغة الإسلامية للمعارضة المسلحة، فالتمويل تحديداً يؤدي دوراً مفتاحياً في هذه الهيمنة.
يؤكد بحثٌ قدمه آرون لوند الباحث في «المعهد السويدي للشؤون الدولية» على أهمية التمويل في تصعيد نغمة الخطاب الإسلامي المذهبي داخل المعارضة المسلحة السورية، فالتمويل القادم من دول قطر والسعودية وتركيا، ومن لجان ومنظمات إسلامية في الخليج، يُمَكِّن المجموعات الإسلامية المذهبية من جذب المتطوعين والحلفاء أكثر من منافسيها من المجموعات غير الإسلامية، بما أنها قادرة من خلال المال على توفير سلاح وعتاد أفضل، وفي بعض الأحيان رواتب شهرية لمنتسبيها.
يضيف لوند أن التمويل مهم ليس فقط لكفاءة الفصائل المقاتلة، بل أيضاً لصناعة التحالفات بين هذه الفصائل والأيديولوجيا التي تحكمها، وينقل عن الصحافي السوري مالك العبدة قوله إن التحالفات بين الفصائل في معظم الأحيان تحصل عندما يريد الممول أن تحصل وحدة بينها، وتنفك هذه التحالفات حين يغير الممول استراتيجيته أو يحصل خلاف بين الفصائل حول التوزيع المالي.
يؤكد عبد الباسط سيدا ـــ رئيس المجلس الوطني السوري السابق ـــ لآرون لوند أن اتفاقاً حصل في مارس/ آذار 2012 بين أميركا وقطر والسعودية وتركيا على تحويل ملايين الدولارات من الدول الخليجية إلى قيادة الجيش السوري الحر في تركيا (بزعامة العقيد رياض الأسعد) من خلال مكتب المجلس الوطني السوري (الذي توسع لاحقاً وبات جزءاً من الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة)، ولهذه الآلية أهداف عدة: فهي تزاوج بين القيادة السياسية الممثلة بالمجلس الوطني وقيادة الجيش الحر، وتقوم بتمويل الثوار، وتصنع مركزية لتمويل الفصائل المسلحة، بحيث تجبر فصائل المعارضة المسلحة على الدوران في فلك محور المجلس الوطني/ الجيش الحر.
أما التمويل الشعبي القادم من الخليج، فهو يعزز الفصائل السلفية المذهبية المقاتلة على الأرض السورية بالمال لشراء السلاح والعتاد، وهناك لجان شعبية معلنة في الكويت مثلاً لهذا الغرض. وهناك أيضاً بحسب آرون لوند لجنة يشرف عليها محمد سرور زين العابدين (المقيم في قطر) تقوم أيضاً بتقديم مساعدات مالية إنسانية وعسكرية وخاصة في جنوب سوريا. تواصل الدول الخليجية تقديم المساعدات على محور المجلس الوطني (الائتلاف)/ الجيش الحر، بينما يتذمر قادة هذا المحور من ضعف التمويل المالي، فيما يشير آرون لوند إلى أن هناك فساداً كبيراً يمنع الأموال من الوصول من تركيا إلى الفصائل المقاتلة في سوريا، بالإضافة إلى عوائق أخرى بيروقراطية وأمنية، وهو ما يؤكده عدد من المراقبين للشأن السوري، على عكس التبرعات الشعبية التي تصل على نحو أفضل على ما يبدو. يؤدي الـ«سي آي أيه» دوراً في المتابعة ومراقبة الفصائل المقاتلة منعاً لوصول المال إلى مجموعات يعدّها متطرفة بحسب مقال نشره إريك شميت في «نيويورك تايمز».
كذلك تقدم الولايات المتحدة دعماً إلى الجيش الحر عبر منظمة تحمل اسم «مجموعة الدعم السورية» أو (Syrian Support Group) وهي منظمة خاصة حصلت على ترخيص في صيف عام 2012 من وزارة الخزانة الأميركية لجمع التبرعات المالية للجيش الحر، وهي توفر للحكومة الأميركية رفع الحرج عنها في قضية الدعم المباشر والعلني للفصائل المسلحة في سوريا، ولا تتعامل المجموعة مع رياض الأسعد في تركيا، بل تذهب بالمال مباشرة إلى المجالس العسكرية داخل سوريا (وهي مجموعات مقاتلة تحت لواء الجيش الحر، عددها تسعة ولا يبدو أنها خاضعة لقيادة الأسعد، وفي مارس 2012 أعلنت خمسة من هذه المجالس توحدها تحت قيادة داخلية جديدة للجيش الحر يمثلها قائد المجلس العسكري في حمص العقيد قاسم سعد الدين، لكنه فيما يبدو أيضاً لا يمتلك تأثيراً كبيراً).
إن المال الخليجي الرسمي والشعبي هو اللاعب الرئيسي في تغذية الفصائل المسلحة وإعلاء شأن المجموعات الإسلامية المذهبية على غيرها، وهو ما تؤكده تقارير عدة غربية، من أحدثها مثلاً تقرير كولين فريمان في «صنداي تلغراف» البريطانية عن دعم قطر للمجموعات المتطرفة في سوريا وانخراطها في دعم المقاتلين الأجانب، وهو ما يعني أن الفصائل الفاعلة على الأرض السورية هي تلك المدعومة خليجياً، وأي تقويم سياسي يجب أن يركز على الفصائل الرئيسية الفاعلة التي هي أقدر من غيرها على الحصول على التمويل الخليجي الرسمي والشعبي، وكذلك على المجموعات الجهادية التي تمول من أكثر من طرف وتبدو أكثر قدرة تنظيمياً من غيرها.
الخطاب والشعارات
حين نتحدث عن المشروع الذي تحمله الفصائل الفاعلة على الأرض فلا بد من العودة إلى خطاب هذه الفصائل والشعارات التي ترفعها ثم سلوكها على الأرض. في ما يخص الخطاب والشعارات فإن الفصائل المسلحة تنقسم إلى فصائل منضوية تحت لواء الجيش السوري الحر، وفصائل جهادية مكونة من مقاتلين سوريين وعرب وأجانب.
الجيش الحر هو حالة غير منظمة على نحو مركزي، فهناك فصائل عديدة تقاتل تحت شعار الجيش الحر، لكنها لا تلتزم بقيادة واحدة مركزية، غير أن هذا لا يعني أنه ما من تنسيق بين الفصائل المقاتلة، والتنسيق يتّخذ بعدين رئيسيين: أحدهما متعلق بالتمويل كما أسلفنا، والآخر بالتوزيع الجغرافي، حيث تنسق الفصائل المقاتلة في إدلب وريف حلب مثلاً مع بعضها بعضاً في ما يمكن تسميته غرف عمليات مشتركة، وتنسق فصائل تقاتل في حمص مع بعضها بعضاً، وهكذا.
قائد الجيش الحر سابقاً رياض الأسعد لا يملك تأثيراً مركزياً من الناحية التنظيمية، لكنه يملك تأثيراً مالياً من خلال الدعم الخليجي، وهو في تطلعه إلى المزيد من الدعم الخليجي الشعبي والرسمي يبني خطابه «لأهل السنة في الخليج» على تفسير الصراع في سوريا على أنه صراع مصيري بين «السنة والصفويين» لا صراع بين شعب ونظام، ويحذر دول الخليج من الهلال الشيعي الذي لن تسلم منه، وخاصةً أنهم (الإيرانيون والسوريون) يحركون الشيعة في البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، وبالتالي يقود المال إلى تشكيل الأيديولوجيا والتحالفات بين الفصائل المقاتلة كما أسلفنا على أساس التجييش المذهبي، وبعدما كانت الثورة السلمية في الأرياف تتخذ بعداً طبقياً مُطَعّماً بشعارات الحرية والكرامة، جاءت الفصائل المسلحة المدعومة بالمال الخليجي لتستخدم الخطاب المذهبي في التعبئة ضد النظام.
هذا الخطاب يجد صداه أيضاً في عدد من الخطابات والشعارات المرفوعة من قادة الألوية والكتائب المنضوية تحت اسم الجيش السوري الحر، بل حتى في أسماء هذه الكتائب، فمثلاً هناك كتيبة يزيد بن معاوية (هناك اكثر من كتيبة باسم يزيد بن معاوية في اكثر من منطقة) مع ما يحمله الاسم من دلالة طائفية، وهناك كتيبة الشهيد صدام حسين التي غير قائدها اسمها معتذراً من إخوتنا الكويتيين ومبرراً هذه التسمية بأنها تقدير لموقف صدام حسين في وجه «المد الشيعي الفارسي المجوسي». لواء التوحيد يبدو أقل الفصائل طائفية، كما يشير إلى ذلك الباحث آرون لوند، وهو لواء يتبع أيضاً للجيش الحر، لكنه مستقل عملياً وفاعل بالذات في حلب وريفها، ويقوده عبد القادر الصالح، ويموله بحسب بعض المصادر إسلاميون مغتربون ومن بينهم الإخوان المسلمون. وقائد اللواء يشدد في لقاءاته على حفظ حقوق الأقليات، لكن النزعة الإسلامية لا تفارق هذا اللواء، الذي يصفه آرون لوند بأنه أقل الألوية طائفية، وأنه من النادر أن تجد فصيلاً مسلحاً أقل طائفية منه، فهو اعترض مع جبهة النصرة وأحرار الشام وغيرها من التنظيمات الجهادية على ظهور الائتلاف الوطني السوري في الدوحة، وشدد مع هذه الفصائل على مشروع الدولة الإسلامية في حلب. وهكذا فإن لواء التوحيد يقترب أكثر من الجهاديين في تصوره السياسي للدولة، وخصوصاً أنه ينسق معهم في قتاله في حلب وريفها من خلال مركز عمليات مشترك.
الفصائل الجهادية أكثر تنظيماً وتبدو أيضاً أكثر وضوحاً في مشروعها، وأبرز الفصائل الجهادية الفاعلة في سوريا جبهة النصرة (بزعامة أبي محمد الجولاني) وأحرار الشام (وهي مجموعة تنشط في أكثر من منطقة في سوريا وبالذات في شمال غرب البلاد)، هناك أيضاً مجموعة من الفصائل الجهادية أقل من الفصيلين المذكورين، منها على سبيل المثال فتح الإسلام (وهي مجموعة تأسست عام 2006 في لبنان بقيادة شاكر العبسي واشتُهِرت بعد حربها في مخيم نهر البارد مع الجيش اللبناني عام 2007)، ولواء صقور الشام (الذي تأسس في سبتمبر 2011 في جبل الزاوية بقيادة أحمد عيسى الشيخ «أبو عيسى» وهو يتلقى تمويلاً من محمد سرور زين العابدين بحسب آرون لوند)، وأيضاً كتيبة الأنصار ولواء الأمة وفجر الإسلام وكتائب عبد الله عزام وأنصار الإسلام وغيرهم.
جبهة النصرة هي الجهة الجهادية الأبرز في سوريا، بل هي اليوم الأبرز تنظيمياً والأكثر بسالة في قتال الجيش النظامي، وقائدها الفاتح أبو محمد الجولاني بايع أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، كما أن كثيراً من مقاتليها كانوا ممن قاتلوا في العراق لفترات طويلة، وأدبيات القاعدة ليست بحاجة إلى شرح مفصل، لكن المهم أن إعلان الجبهة عن نفسها كان في 23 ديسمبر 2011، وقامت على أثره بتفجيرات عديدة في دمشق في بداية عام 2012، حيث بدأت الجبهة تظهر وتعرف نفسها من خلال بيانات تتبنى التفجيرات وتتوعد النظام: «أوقف مجازرك ضد أهل السنة، وإلا فعليك إثم النصيريين (العلويين)، والمقبل أدهى وأمرّ بإذن الله تعالى»، والمثير أن إعلان الجبهة قوبل بتشكيك واسع من معارضين سوريين، حيث اعتبروها مؤامرة من النظام لإلصاق «الإرهاب» بالثورة، لكن الجبهة لاحقاً فرضت نفسها على الأرض، ما دعا هؤلاء إلى التعايش مع «الإرهاب» وتبريره.