العودة إلى الطفولة المستعادة في “بريد الذكريات”
العودة إلى الطفولة متوغلاً في دهاليز السنوات التي يكونُ فيها المرءُ أكثرَ خفةً واستعداداً للاحتفاء بالحياة حتى لو كانت قاسية في بعض المواقف يعدُ ثورة على الزمن ومحاولةً لإنشاء الفردوس المفقود متخيلاً، ولكن هل يمكنُ نفض الغبار المتراكم على الصور التي تقبعُ في الذاكرة ومعايشة لحظاتٍ تنضحُ بالحميمية ومتعة التجارب الأولى؟ ربما تكمنُ خصوصية هذه المرحلة في غياب التعقيدات إذ أنَّ التعثرات لا تفسد صفاء النفس ولا تنزعُ الرغبة للانفتاح على المُغامرات.
لذا يعتقدُ بودلير أن العبقرية ليست إلا إستعادةً للطفولة ربما لم يكن هدف الكاتبة الكولومبية إيما رييس الانضمام إلى منزلة العباقرة عندما سردت ذكريات الطفولة في سياق ثلاث وعشرين رسالةً نشرت بعنوان “بريد الذكريات” بقدر ما أرادت مشاركة الآخر في سرد غرابة الوقائع التي عاشتها في الطفولة لا تسردُ رييس في طيات رسائلها تحولات سياسية ولا يهمها الحديثُ عن المشاهيرُ ولا تشيرُ إلى أحداث قد تكون مؤثرةً على مصير بلدها بل تكرسُ مدونتها لإعادة رسم حيثيات تجربة الطفولة وحياتها المتقشفة من حيثُ الحظوة بدفء التواصل الأسري، لكن لافتة بغرابتها، وهي تستعيدُ تفاصيل الظروف التي عاشت في كنفها فكان الانتقال من مكان إلى آخر ملمحاً من سيرة الطفولة قبل أن يستقر بها المقامُ داخل الدير في بوغوتا.
يتضحُ مما تقولهُ في الرسالة الأولى أنَّ إيما رييس قد شرعت بمراسلة صديقها المؤرخ والناقد الكولومبي خيرمان أرسينييغاس، وهي مقيمة في باريس إذ تلفت النظر إلى مغادرة الجنرال ديغول لقصر الأليزيه مشيرة إلى أنَّ الحدث قد أثار لديها ذكريات الطفولة، ومن ثمَّ تنصرفُ إلى وصف البيت الذي أقامت به وهو عبارة عن حجرة صغيرة خالية من النوافذ بابها يطلُ مباشرة على الشارع واقعة في حي شعبي من أحياء مدينة بوغوتا.
الاختناق
الأجواء التي غلفت حياة الطفلة، وهي تمضي أيامها برفقة أختها إيلينا وإدواردو كانت مستغرقة في الرتابة، وما كانت تقومُ به إيما يومياً من الذهاب إلى مكب النفايات لإفراغ المبولة صورةً تؤكدُ الحرمان من متعة الانطلاق والمرح إذ تعترفُ إيما بأنَّ روحاتها إلى مكب النفايات هي اللحظات الأشد مرارة على مدى اليوم. أما وظيفة أختها هي جلب الماء الذي يحتاجُ إليه المقيمون في الحجرة المعتمة. وما كان يخففُ من الاختناق والملل سوى تجمع أطفال الحي في مكب النفايات حيث يلعبون ويتبادلون الشتم، كما يبدأُ التنقيبُ في الركام بحثاً عما يسمونه الكنوز. وهذه المساحة كانت بمثابة صالة الألعاب لهؤلاء الأطفال.
وهناك تتعرفُ إيما على الأعرج. يقوم الاثنان بصناعة دمية من الطين وما أن تكبرُ الدمية أكثر حتى يطلقوا عليها تسمية الجنرال ريبويو، وبذلك يصبحُ الجنرال محور ألعابهم. إذن كان عالم ريما محدودا بالحجرة المعتمة ومكب النفايات. في الرسالة الثانية تحظى شخصية ماريا باهتمام الساردة، وهي لا تغيبُ عن محتويات الرسائل إلى أن يصبح الدير بؤرةً لمروية إيما رييس.
على أية الحال فأن ماريا حسب ما تصفه إيما كانت امرأة ذات شعر مرسل فارعة القوام، ولم تبحُ بشيء عن أسرتها. ويبدو من خلال ما يرشحُ من فحوى الرسالة أنَّ ماريا شخصية قاسية لا يمكن عدم الانصياع لأوامرها. أزيد من ذلك تشير المؤلفة إلى أن السيدة سيكوندينا هي الوحيدة التي تزور ماريا، وبمجرد وصولها ترسل ماريا الأطفال إلى الشارع، وظل ما يدور بين المرأتين طي الكتمان. وما يلبث حتى يحل زائرُ جديد في الحجرة، وهو رجل فارع القوام لا يشبه مظهر ملبسه ثياب أهل الحي بل ذكر شكله إيما بالأشخاص الذين ترى صورهم في جرائد يقع عليها النظر في مكب النفايات.
وما يمضي كثير من الوقت حتي تخبر ماريا الزائر بأن هذا منك مشيراً إلى إدواردو. ويعقبُ ذلك غياب السيدة ماريا فيما تقبع إيما وأختها داخل الغرفة وحيدتين في ظلام لا يخترقه سوى صوت البكاء. ولولا الجارة لربما قد أودى الجوع بحياة الأختين. وعندما تعودُ ماريا لا يرافقها إدواردو وهذا ما يزيدُ من حزن المرأة كما يطال الحزن إيما التي كانت تبكي وتصرخ ظناً منها أنَّ إدواردو يسمعها.
الرحيل
تسودُ الكآبة في البيت وتصبحُ ماريا أشد قسوة بعد غياب إدواردو إلى أن يأتي اليوم الذي تفاجيءُ فيه الأختان بخير الرحيل من الحجرة القائمة في حي سان كريستوفر، وتزامن لحظة المغادرة حدث كاد أن يقطع صلة ماريا بالحياة بينما هي تريدُ أن تودع السيد الكاهن فإذا بالحصان نطحها وسقطت على الأرض.
تقولُ إيما رييس في مستهل الرسالة الرابعة بأن مغادرة الحجرة وسفر العائلة بالعربة كانت بداية حياة طبعت بقسوة طرقات أميركا الوعرة. واللافتُ في هذا الإطار أن إيما رييس تضعنا وجهاً لوجه مع الطفلة التي تجتذبها المشاهد المكونة من شرفات البيوت والكنائس والشوارع بحيثُ لم تدرِ إلى أين تتجه بنظرها؟
ولا يفوتُ الساردة الالتفات إلى الأجواء التي سادت في القطار الذي حملهم إلى بلدة قبل الإنتقال إلى غواتيكيه حيثُ عهدت إلى السيدة ماريا بإدارة مصنع شوكولاته لاسسبسيال وذلك بتوصية من روبرتو الذي كان صديقاً لوالد إدواردو. والحال هذه تنضمُ شخصية أخرى إلى مسرح الأحداث، وهي بيتسابيه الهندية تعمل خادمة لدى ماريا. تضاعف المُفاجأت من حدة التشويق في سرد رييس إذ تشيرُ كاتبة الرسائل إلى إصابة ماريا بالمرض وتواريها عن الأنظار وزيارة الطبيب إليها وفيما يتصاعدُ إيما مع بيتسابيه إلى حجرة ماريا تقع نظرة الاثنتين على مشهد غير متوقع وهو وجود طفل بين ذراعي المرأة. وهي تخبرهما بأنَّ الطفل هدية الطبيب.
تتبدلُ حياةُ إيما وتصبح متعلقة بالطفل أكثر بدلاً من الخنوص والدجاجات. تسترسلُ إيما في رصد مشاهد الحياة في غواتيكيه ذاكرةً مُفاجأة سكان القرية برؤيتهم للسيارة وهروبهم خوفاً من هذا الكائن الآلي. لا تخلو الأيام من الأوقات المبهجة أُقيم الاحتفال احتفاءً بزيارة المحافظ وكانت مصارعة الثيران جزءاً من تلك الفعاليات الاستثنائية. لكن مطاردة الثيران للناس تقلبُ الأمور فبالتالي تنتنشر البلبلة. والأدهي من ذلك هو اشتعال الحريق ويلقى على إثر ذلك خمسون مريضاً حتفهم داخل المستشفى، والغريب في الأمر أنَّ إيما تعتبرُ أنَّ ذلك الحريق يبقى أجمل وأروع ما رأته في حياتها.
تأتي لحظة الرحيل من جديد متزامنةً مع التخلى عن الرضيع إذ راقبت إيما مشية بيتسابيه خفيفاً إلى أن دنت البوابة الواسعة حيث تضع السلة وتمدد فيها الطفل. طبعاً هذا الفراقُ يكونُ صعباً على إيما لذا تريدُ استنكارَ ذلك التصرف، لكن في نهاية المطاف لا شيءَ يبدل من قساوة الواقع، والمؤثرُ في هذا المقام أنَّ صوت بكاء الطفل قد نما إلى إيما التي خارت قواها تماما.
الاغتراب
العودة إلى بوغوتا هي فصل آخر من مسيرة الشخصيات التي تجوبُ البلدات والمدن. وتصبحُ حجرة أحد الفنادق مكان إقامة لأسرة السيدة ماريا ونشأت العلاقة بين النزلاء الجدد وامرأة تعيش برفقة رجل الشرطة. ولا يطولُ المقام بماريا في بوغوتا سوى شهر، ومن ثمَّ تشدُ الرحال إلى فوساغا سوغا وهناك تديرُ وكالة الشوكولاته، واللافتُ في هذه المرحلة هو غياب بيتسابيه الأمر الذي يرخي بظلاله على حياة إيما رييس وإيلينا.
قدر لهذه الشخصيات أن لا يستقرَ بهم المقامُ في مكان محدد، إذ تصبح بوغوتا هي الوجهة من جديد، ولكن تختلف هذه الرحلة لأنَّ ماريا قد تخلت عن الطفلتين وهي قد صحبت السيد سويسكون. تروي الساردة هذه التفصيلة بأسلوب يخيلُ إليك كأنك تشاهد مقاطع من فيلم سينمائي. عليه تنضمُ الطفلتنان إلى الدير ما يعني أنَّ قسماً من الرسائل يتناولُ نمط الحياة في هذا المكان المشبع بأجواء وشعائر دينية كما تمررُ إيما سيرة بعض الشخصيات المقيمة ضمن سرديتها. منها السيدة كارميليتا، وماريا راميراس، وما يجبُ الإشارة إليه أنَّ إيما تدركُ من خلال متابعتها أنَّ السلطة ستكون لصاحب الإمتيازات حتى داخل المعابد الدينية.
كل ما تذكره المؤلفة هو تجاربُ ذاتية لكن قد يفوق القصص والروايات العجائبية غرابةً وتشويقاً.