العثمانية الجديدة تفقد مهندسها: «انقلاب قصر» ينهي حقبة داود أوغلو
ـ 1 ـ
أُكِل «الخوجا» يوم أُكِل الثور الأبيض. أُكِل أحمد داود اوغلو يوم أَكَل الأسدُ أكثرَ من ثور أبيض. أُكِل يوم أُكِل عبد الله غول، ويوم أُكِل فتح الله غولين، ويوم أُكِل بولنت أرينتش، إلى أن جاء الدور عليه، وهو آخر العنقود، ليؤكل نيئاً، مساء الأربعاء الماضي في الرابع من أيار.
يحتار المرء من أين يبدأ مع أحمد داود أوغلو. هذه الشخصية التي طبعت بطابعها حقبة مهمة واستثنائية من تاريخ تركيا الحديث. صحيح ان اسم رجب طيب أردوغان كان هو الطاغي على هذه المرحلة. لكن اسم أردوغان يقرن بداود اوغلو اللذين شكلا ثنائياً منذ اللحظة الأولى لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002. وهذا يُخرج من المعادلة الثنائية اسماً ثالثاً هو عبد الله غول رغم الدور الكبير الذي لعبه هذا الأخير في تأسيس الحزب ونجاحه وترسيخ أقدامه.
علاقة داود اوغلو بأردوغان هي علاقة العقل المدبر والمنتج للأفكار والنظريات، بالمحارب الذي يأخذ على عاتقه القتال من اجل تلك الأفكار. حاك داود اوغلو الأفكار، وحارب أردوغان من أجلها.
لكن هيهات بين المثقف الذي أفنى عمره بين دفات الكتب وصفحات التاريخ و«أعماقها الاستراتيجية» وبين من اختزل في شخصيته دهاء السلاطين وأحسن مكائد البلاطات. علاقة داود اوغلو بأردوغان هي علاقة المثقف بالسلطان، علاقة المتنور بالبلاط. لذا لم تكن علاقة متكافئة. حتى إذا دخل المثقف في دائرة سياسات «الباب العالي»، كانت النتيجة كارثية على المثقف وأفكاره، وعلى السلطان وحبائله.
نجح داود اوغلو في توليد الأفكار وطرحها على الطاولة حتى إذا أصبح وزيراً للخارجية كان وجهاً لوجه أمام تحدي الوقائع على الأرض. فرؤية روما من فوق غير رؤيتها من تحت. حتى إذا أصبح رئيساً للحزب ورئيساً للحكومة تحركت عفاريت الوجه الآخر للمثقف. تحرّك السياسي داخله. وعندما يتحرك السياسي داخل مثقفٍ مسكونٍ بالتاريخ ومهجوس بإحيائه، لن يجد قبالته سوى السياسي الذي لا يطيق منافسةً من المثقف، بل لا يراه سوى منتج أفكار غب الطلب.
عندما اختار أردوغان داود اوغلو خليفةً له في زعامة الحزب والحكومة، لم يكن يريد سوى موظف يحمل مؤقتاً الأمانة ليعيدها إليه لاحقاً.
اما داود اوغلو فكان من أكبر أخطائه المهنية أنه وثق بأنه يمكن له ان يشكل حالة خاصة تخرجه من رتبة «الباش كاتب» إلى رتبة صدر أعظم، وربما رتبة سلطان. داود أوغلو، قارئ التاريخ، لم يقرأ جيداً كيفية وصوله الى رئاسة الحزب والحكومة. كان «انقلاب قصر» بالكامل عندما منع أردوغان، بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في العاشر من آب 2014، رفيق دربه وعمره عبد الله غول من العودة الى الحزب وانتخابه رئيساً له وللحكومة، وذلك بعقده مؤتمر الحزب يوم 27 آب 2014، أي قبل يوم واحد فقط من انتهاء ولاية غول الرئاسية، ما حال قانونياً دون مشاركته في المؤتمر. ثم كان انتخاب داود اوغلو رئيساً للحزب والحكومة.
رأى داود أوغلو بأم العين انقلاب القصر هذا. وإذا كان أردوغان قد نجح بابتلاع عبد الله غول، وهو لقمة كبيرة جداً، فلن يصعب عليه عند الضرورة ابتلاع احمد داود أوغلو، وهو مقارنةً مع غول مجرد «لقمة صغيرة جداً». غير أنها تهويمات المثقفين الذي يدخلون السياسة فيرون أنفسهم أكبر وأهم من السياسيين، فيما هم يتزحلقون بنقطة زيت واحدة من السياسيين.
لذا، كما جاء بـ «انقلاب قصر» ها هو يرحل بـ «انقلاب قصر». كان عليه ان يدرك حدوده ودوره وألا يتجاوزها. انطحن داود اوغلو المثقف في أروقة ودهاليز البلاط العثماني الجديد. داعي العثمانية الجديدة الأول وقع ضحيتها. وكما كان كان كل سلطان جديد منذ عهد محمد الفاتح يقتل أخوته حتى لا تكون فتنة الزعامة، فما فعله أردوغان مع داود أوغلو وقبله مع غول وقبله مع غولين وأرينتش والقائمة تطول، لا يختلف عما فعله الفاتح مع إخوته. «الثورة الصامتة» تأكل، وسط ضجيج الطمع والتفرد، أبناءها. داود اوغلو ليس ضحية اخرى بل هو الضحية الأخيرة، والأكثر رمزية، للذهنية العثمانية في إلغاء الآخر. لم يعد في حزب العدالة والتنمية أحد من جيل المؤسسين. من تبقى هم رجال أعمال وموظفون وتابعون.
داود اوغلو هو آخر العنقود. لم يبق الآن سوى الزعيم الأوحد الذي يريد ان يختصر بشخصه الحزب والحكومة والنظام والبلد، بل كل المنطقة. وحده الباقي: رجب طيب أردوغان.
في 22 من هذا الشهر، سيغادر احمد داود أوغلو عالم الحزب والدولة والسياسة، ليتفرغ بالتأكيد لكتابة مذكراته وما شاهده وما خطط هو له. وسوف يتفكر المرء، او واحد مثلي كان على علاقة خاصة معه حتى الأمس القريب، ما الذي يمكن ان يكتبه داود اوغلو في مذكراته.
هل ستكون عنده الجرأة ليعترف بالأخطاء كما اعترف عبد الله غول بها بعدما غادر موقع الرئاسة؟ هل ستتغلب اكاديميته على تجربته السياسية البائسة والفاشلة والمغامرة؟
هل سيكتب صاحب «صفر مشكلات» أن سياسته العثمانية والمذهبية والعرقية كانت السبب في تحولها إلى صفر علاقات؟
هل سيكتب ان سياسة القوة الناعمة الديبلوماسية والاقتصادية والثقافية والفنية التي دخل بها المنطقة، وكنا معه، استحالت، ولم نكن معه، الى سياسة دعم عسكرية لأعتى الجماعات المتطرفة والإرهابية؟
هل سيكتب ان سياسته في سوريا تحديداً كانت خارج التاريخ وخارج أي عقلانية؟ وانه كان في الجانب الخطأ من التاريخ بخلاف ما كان يقول إنه في الجانب الصحيح؟
وهل سيكتب ان من أكبر اخطائه اعتباره سوريا شأناً داخلياً تركياً؟ وهل سيكتب أن تورطه في سوريا هو الذي كان السبب في تدمير سوريا وتهجير شعبها وإسالة دماء ستبقى في رقبة من أراقها؟
وهل سيكتب ان من اكبر اخطائه وتهويماته أنه أراد ان يكون الشرق الأوسط صورة لما تريده تركيا، وان تكون تركيا هي رائدة هذا الشرق الأوسط الجديد ملغياً كل الآخرين؟ وهل سيكتب ان من أكبر اخطائه بعد سوريا هو العمل، في استسهال فكري وسياسي، على مصادرة قرار مصر قلب العروبة وأم الحضارات؟
لن نحمل داود اوغلو وحده المسؤولية. فله شركاء، ولكنه كان المحرك والباعث والموحي قبل ان ينتقل ليكون شريكاً في التنفيذ.
ـ ٢ ـ
قيل الكثير عن أسباب انفجار الخلاف بين اردوغان وداود اوغلو. لكن ما هو مُجْمَعٌ عليه في الداخل التركي أن أردوغان يرى في داود اوغلو عقبة امام تغيير النظام من برلماني الى رئاسي وبأن داود أوغلو ينظر بتحفظ الى هذا التعديل ولا يدفع باتجاهه، بل قال بعد انتخابات السابع من حزيران الماضي التي خسرها الحزب، بأن الناس لم تصوت للنظام الرئاسي.
ورغم ان الحزب عاد وانتصر في انتخابات الإعادة في الأول من تشرين الثاني الماضي، فإنه لم يحصل لا على أكثرية الثلثين، أي 367 مقعداً لتعديل الدستور في البرلمان، ولا على 330 مقعداً الضرورية لتحويل اي تعديل دستوري الى استفتاء شعبي.
وفي ظل معارضة الأحزاب الأخرى لتعديل النظام الى رئاسي، فإن أردوغان يرى ان هذه العقدة يتحمل مسؤوليتها داود أوغلو. ولا يجد الرئيس التركي مخرجاً من ذلك سوى الذهاب الى انتخابات مبكرة جديدة يأمل من خلالها أن ينتصر الحزب بثلثي المقاعد او بـ330 مقعداً الكافية لتعديل الدستور في البرلمان او في استفتاء شعبي. لكن داود أوغلو لم يتحمس للفكرة، ولم يكن امام هذا السيناريو للتحقق سوى قرار إطاحته.
في 29 نيسان الماضي، أي قبل حوالي أسبوع، أقرت اللجنة المركزية للحزب تعديل النظام الداخلي، بحيث تنزع صلاحيات تعيين رؤساء فروع الحزب في المحافظات والأقضية من رئيس الحزب لتمنح للجنة المركزية. وكان ذلك «رسالة» قوية إلى داود أوغلو. وقبل اجتماع 29 نيسان، سأل داود اوغلو النواب الموقعين على العريضة عن سبب ذلك فقالوا له إنهم يتحركون باسم أردوغان. فبادر للاتصال بأردوغان سائلاً إياه عما إذا كان هو شخصيا وراء توقيع عريضة تعديل النظام الداخلي، فأجابه أردوغان: «هذا طبيعي، نعم. فأنا رئيسهم»، فقال له داود أوغلو: «انت بالنسبة لي رئيسي. لكن لنؤجل اجتماع اللجنة المركزية او لنجلس لنتفاهم»، لكن جواب أردوغان كان: «اعمل كما تريد». بعد ذلك نقلت الصلاحيات من داود اوغلو الى اللجنة المركزية في اجتماع 29 نيسان.
بعد ذلك بيومين، ظهرت مقالة على الانترنت من دون توقيع تشير إلى انه لم يعد ممكناً الاستمرار مع داود اوغلو. وحملت اسم «ملف بيليكان» في استلهام للفيلم المشهور بهذا الاسم، والذي يتحدث عن الصراع بين قاضيين. لم يعرف كاتب النص، لكن الأصابع أشارت إلى «مقربين» من أردوغان.
أدرك داود أوغلو ان المياه تجري من تحته. فكانت أقصر خطبة له أمام نواب حزبه يوم الثلاثاء الماضي، ولم تتجاوز النصف ساعة، وبدت كما لو أنها خطبة الوداع.
في اليوم التالي (الأربعاء)، تحدث أردوغان أمام مجموعة من المخاتير موجهاً رسالة مشفرة لمن يعنيهم الأمر بأن عليهم ان يعرفوا ماذا يفعلون وكيف أتوا الى مواقعهم. العنوان كان واضحاً. إنه داود أوغلو.
وكان الموعد مساء الأربعاء بين أردوغان وداود أوغلو الذي استمر ساعة و40 دقيقة اتفقا فيها على الافتراق لكن بصورة تحفظ مياه وجه رئيس الوزراء التركي عبر مؤتمر استثنائي للحزب يعقد في 22 أيار الحالي لا يترشح فيه داود أوغلو، ليتم انتخاب رئيس جديد للحزب وبالتالي للحكومة. وهذا ما أكده أمس الخميس في المؤتمر الصحافي الذي عرض فيه إنجازاته على مدى عشرين شهراً في كلمة بدا فيها متسرعاً ومرتبكاً، والكلمة تأكل اختها.
اما المرشحون المحتملون لخلافة داود أوغلو فهم خمسة: وزير الاتصالات بينالي يلديريم وربما يكون الأوفر حظاً، وبرات البيرق وزير الطاقة وهو شاب وصهر أردوغان لابنته سمية، ووزير العدل بكر بوزداغ، ووزير الصحة محمد مؤذن أوغلو، ونائب رئيس الحكومة نعمان قورتولمش.
أما سائر الأسئلة الكثيرة المطروحة حول مستقبل حزب العدالة والتنمية ومستقبل تعديل النظام الى رئاسي والسياسة الخارجية، فنتركها الى الأسبوع المقبل.
صحيفة السفير اللبنانية