تواصل إسرائيل عمليتها البرية بكثافة متوسطة في منطقة خانيونس ومخيّمها، جنوبي قطاع غزة، مراهنةً على إمكانية تحقيق إنجاز ما في هذه المنطقة، تَعذَّر تحقيقه في شمال القطاع، حيث انتقلت، قبل أكثر من أسبوع، إلى المرحلة الثالثة من عمليتها، وسط انسحابات واسعة جداً من المناطق التي كانت تسيطر عليها، وتدفع أثماناً يومية جرّاء الاحتفاظ بها.
ويُفترض، خلال أسبوع أو اثنين، أن يسحب الجيش الإسرائيلي قوّاته إلى حزام أمني ينوي الاحتفاظ به في وسط غزة، كما جرى في الشمال، ما يعني أيضاً الانتقال من المرحلة الثانية بلا تحقيق أيٍّ من أهدافها، إلى المرحلة الثالثة، التي سيتمركز فيها في شريط أمني على حدود القطاع، يراوح عرضه بين كيلومترين وثلاثة كيلومترات. وسيكون هذا الشريط، وفق ما يُخطَّط له، منطَلقاً لهجمات وتوغّلات موضعية، استناداً إلى ما يحصل عليه العدو من معلومات استخبارية أو ما يطرأ لديه من حاجات عملياتية، ضدّ حركة “حماس” وفصائل المقاومة الأخرى، التي بدأت من الآن الانتشار في مناطق شهدت انسحاباً إسرائيليّاً.
ولا تغيّر التصريحات الأخيرة لوزير أمن العدو، يوآف غالانت، من الواقع المشار إليه أعلاه شيئاً؛ فهو إذ رفض توصيف الواقع على ما هو عليه حقيقةً، وشدّد على أن الحرب ستستمرّ وإنْ بطرق وأساليب مختلفة، أكّد في عرضه لتفاصيل المرحلة المقبلة، ما أراد نفيه: الحرب عن بعد، مع قتال منخفض الوتيرة والشدّة.
وفي خلفية قرار إسرائيل التراجع، يمكن الإشارة أولاً إلى فشلها في تحقيق أهدافها ميدانياً، مع ما صاحب ذلك من دفْع أثمان يومية بفعل البقاء في المرحلة الثانية طويلاً. أيضاً، عانت القوات في الانشغال العملياتي في الميدان طويلاً جداً وبما يفوق قدرتها، حيث كان التركيز على القوات النظامية وهي محدودة العديد، في ظلّ استمرار احتجاز مئات الآلاف من الاحتياط، علماً أن لا قدرة لدى هؤلاء على تنفيذ مهامّ قتالية واسعة النطاق، فضلاً أن الجنود وجدوا أنفسهم في دائرة مفرغة من “مزيد من الشيء نفسه” بلا إنجازات. كل ما تقدّم، دفع المؤسسة العسكرية إلى الضغط نحو قرار الانسحاب من شمال القطاع، وقريباً من جنوبه.
وشكّل الانتقال إلى مرحلة القتال البري المنخفض الكثافة، مع تراجع واسع إلى الخلف، وتحديداً إلى تخوم القطاع، على الدوام، مطلباً أميركيّاً لم يجد تجاوباً من الجانب الإسرائيلي، سواء من صانع القرار السياسي، أو من جانب المؤسّسة العسكرية، وكلاهما كانا معنيين باستمرار القتال البري العالي الكثافة، مراهنَين على إمكانية تحقيق بعض أهدافه، ومن بينها إسقاط حكم “حماس” والحركة نفسها، وأيضاً إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين.
ولعلّ التوصيف الأدقّ للمرحلة الثالثة التي بدأتها إسرائيل عملياً، هو أن الحرب انتهت وانتقلت إلى هدنة غير معلنة، على أن يكون للعدو هامش مناورة في تنفيذ عمليات، في حال تطلّب الأمر ذلك، في واقع شبيه بما يجري في الضفة الغربية، علماً أن إسرائيل تواجه في غزة قوة معتدّاً بها، قادرة على الإيذاء أكثر، مقارنةً بواقع المقاومين في الضفة.
بعبارة أخرى، أنهت إسرائيل ما كانت قوتها العسكرية قادرة على تحقيقه في الحرب، لتعود أدراجها، ولتبني لاحقاً على الشيء مقتضاه، في ما يمثل نتيجة طبيعية للفشل في إنجاز أهداف الحرب، كما خُطّط لها ابتداءً. أما حديث غالانت وغيره، وهو بالمناسبة يناقض ما يصدر عن المراقبين والخبراء، فهو إنكار للحقائق ومحاولة لتحويرها.
زيارة بلينكن
وصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، مساء أمس، إلى المنطقة، مفتتحاً زيارته التي تستمرّ على مدى أسبوع تقريباً (لغاية الـ11 من الشهر الجاري)، من تركيا، على أن يتوجّه بعدها إلى اليونان، ومنها إلى الأردن فقطر والإمارات والسعودية، ثم إلى إسرائيل والضفة الغربية، ويختمها في مصر.
وإذ قيل عن مهمّة بلينكن الكثير قبل أن تبدأ، فإنّ أهمّ ما فيها أنها تأتي لتلقّي أجوبة هذه المرّة، وليس فقط لطرح أسئلة، وتحديداً حول ما الذي تريد إسرائيل فعله في مرحلة الإنهاء الفعلي للحرب.
لكن هل سيتلقّى إجابات؟ الأرجح لا. فإسرائيل نفسها، لا تمتلك إجابات لتطرحها على طاولة النقاش عن اليوم الذي يلي، مع الجانب الأميركي، فيما الأخير نفسه، الذي بحث طويلاً مع شركائه في المنطقة والعالم ومع الجانب الفلسطيني الرسمي، لم يجد حلاً ناجعاً للقطاع في مرحلة تُوهِّم أنها ستكون خالية من حركة “حماس”، فكيف الحال مع بقاء هذه الأخيرة؟ في هذا الإطار، تقول صحيفة “إسرائيل اليوم”: “المرحلة الجديدة من القتال التي تدخلها إسرائيل هذه الأيام لا تخلو من المخاطر. فليس هناك يقين بأن الشكل الجديد للحرب سيحقّق الأهداف التي حدّدتها الحكومة، أي حرمان حماس من قدراتها العسكرية والحكم وإعادة المختطفين”.
إلا أن المؤكد، في سياق ما ذهبت إليه الصحيفة، أن ما وعد به سياسيو إسرائيل وعسكرها، المستوطنين، وهو الأمن الشخصي والجماعي، لم يتحقّق، ولا يبدو أنه سيتحقّق.
صحيفة الأخبار اللبنانية