العراق: الاحتلال من دون احتلال (طارق الدليمي)
طارق الدليمي
في عشية سفر الوزير الأول إلى «واشنطن» تداعى قادة حزب «الدعوة» إلى التنافس في إطلاق الألقاب الرنانة عليه، وذلك لاضفاء الطابع البلاغي على الصراع الحاد الذي يشغل جميع «النخب» المنخرطة في «العملية السياسية» المنهارة. لكن القيادي السابق، والمساهم في الغنيمة، «سامي العسكري» تجاوز البقية حين قال: إن الولاية الثالثة أمر متاح للمالكي وأن الجميع في حزب «الدعــوة» يتغاضون عن خلافاتهم معه لأنه «حامل الراية». وهذه الكلمات تشي بوضوح ودليل على قول «هيغل»: الحزب السياسي يوجد حقيقة فقط حين ينقسم ضد نفسه»، لا سيما وأن «العسكري» يعتبر حزب «الدعوة» في عزلة، لأن «انخراط قيادات الحزب في العمل السياسي شغلها عن دورها الأســاسي في تربية المجــتمع». تمــادى في فجاجــته حــين غرّد: «أن الأهم من ذلك أن المالكي كاسب لرضى الطرفين ايران واميركا وهذا يصب في مصلحته»، ما يجعل كلامه مطابقاً لحديث «علي بن أبي طالب» حول «المنافق» الذي «يضع لكل قفل مفتاح ولكل ليل مصباح».
وبالرغم من أن الوزير الأول سيركز، كما أعلن بوضوح في مقالته «تحلّوا بالصبر» في «نيويورك تايمز 29 تشرين الأول 2013»، على مسألة «تفعيل» «اتفاقية الاطار الاستراتيجي»، السرية والتي لم تعلن موادها أبدا، ولا سيما على صعيد الدعم الاميركي لمكافحة «الارهاب». وكذلك تنفيذ عقود التسلح والتدريب والتزويد بالأسلحة الخاصة ومنها «الطيارات» بدون طيار، إلا أن كل المراكز البحثية المتعاطفة مع «اوباما» قد أعلنت تأييدها لبقاء «المالكي» لولاية ثالثة وذلك من أجل تحقيق «الاستقرار» بزيادة مشاركة «الجميع». فالعراق، كما قال جوزف بايدن، مفتاح «الحل» في المنطقة لأنه «المحور الذي تدور حوله عجلة الحل للتوتر السني ـ الشيعي».
وإذا كانت المراهنات العامة، ايران مثلاً، والخاصة، حزب «الدعوة» قطعاً، على تجديد الولاية للوزير الأول تشوبها بعض التشويشــات فإن المسائل العالقــة في الوضــع الســياسي ليســت لها علاقــة بهذا الموضوع بتاتاً! الانهيار الشامل في الميادين المختلفة يأخذ نسغه من البيئة التي تنطلق منها التطبيقات في ذلك الميدان، ولكن العامــل «الســياسي» سيكون هو الحاسم دوماً في النهاية. بهذا المعنى، فإن المناقشات التي تدور كلها الآن، والعراق مقــبل على الانتخابــات في ربيع العــام المقبــل، هي في إعادة انتاج «العملية السياسية» وبصورة تتلاءم مع المتغيرات الجارية والهامة في المنطقة عموماً وفي العلاقات الاميركية الايرانية خصوصاً.
بيد أن السؤال الذي يرتفع في هذه المعمعة هو ليس «النجاح» أو «الفشل» في إعادة انتاج «العملية السياسية»، على أهمية ذلك، ولكنه يتعلق مباشرة بسيرورة العلاقة بين القوى «الحية» نفسها المنخرطة في الصراع السياسي داخل «العملية السياسية» أم خارجها والتي تمتلك كل مقومات عضويتها، وإذا أردنا أن نكون في جانب «الإنصاف» الجدلي فالخطأ الجسيم لم يكن عند «جورج بوش الابن» ورهطه من «المحافظين الجدد» فقط، والذين كانوا «يقفون وحدهم» تماماً. ولكن الجريمة حين ركع «الجميع»، ولا سيما النظام العربي «الرسمي»، لفكرته الراديكالية الملتهبة في تلك «اللحظة» التاريخية القاتمة. إن أفكار «الكوندومينيوم» و«العملية السياسية» برزت من رماد «الاحتلال» المباشر بكل عقابيله وليس نتاج السياق السياسي العــام للفــكرة الاحــتلالية الاميركية فحــسب. إن إبــادة «الدولة» كان هو المنعطف الحاسم، وهو ناجم عن انهيار «القواميس» السياسية الليبرالية وتقاليدها الفيبرية الكاذبة مما أفضى إلى مزيج من أفكار «الفوضوية» الأولى مع نفايات «العولمة» التي تجتاح «الكوكب»، حيث لا محل للدولة وأجهزتها في ذلك.
ولن تكون هناك مجازفة إذا شرحنا ومن كل «المرابض» المختلفة المواقف «المعلنة» للقــوى «الحية» الرافضة، مثلاً للاحتلال وأهدافه. ذلك أن «الأقلية» القصوى، الرافضة للاحتلال، أثبتت أنها عملياً وقفت مع الاحـتلال، ومازالت، وفي كــل طقــوسه المختلفة، وساد في آراء هؤلاء حالة متناقضة من «جنون اليوتوبيــا»، يوتوبــيا بلا ضفاف، وذلك لفرض برنامجها المعلن في الاعلام الدعائي، ومنهما القائمة العراقية وقائمة «التيار الصدري»، حرية اختيار الشكل الخاص «للسلطة» التي تريدها، مع ضرورة استرجــاع «الحــالة الوطنية» الجريحة بالاحتلال وتحت سنابكه. هنا يكمن التعارض والوهن بدقــة في مواجــهة مرحلتين: الأولى: فقدان المعرفة بالخــط العام للأحداث، وتحديداً المقبلة، والثانية: فقدان «الدليل» الحاسم في تحديد البرنامج العام للأهداف وتحــديد أولوياتها ودور عناصرها المركزية في الصراع. فالصراع كان عملياً بين رؤوس «ثلاثة» في هرم المواجهة: 1 ـ عروبة العراق. 2 ـ استعادة الدولة. 3 ـ تحقيق الاستقلال الوطني الكامل. والعقم متوافر في العجز «المزمن» في مواجهة التــجانس المطــلوب المادي لهذه الأقانيم الثلاثة. لقد شاع، مثلاً، في البداية أن «المقاومة» ضد الاحتلال هي ضرب من الهذيان المحموم. ولم يطرح السؤال الجوهري ما هو هدف «المقاومة». فقد تم التركيز على السياسة الحيوية «الصغرى» وهي بالية وذات طابع يومي ومساحة ديموغرافية مثيرة للــجدل، حيــث تبين لهم أن «الناس» غير مبالين «البتة» بهذه الأقانيم الثلاثة، وأن الشروط الجديدة للسياسة الحيوية «الكبرى»، وهي متجددة ومتعافية وذات مساحات ديموغرافيــة ممــتدة ومتــكافلة، وذات طابع مستدام، لكنها عملياً تدشين لمرحلة جديدة «غير معروفة» سابقاً وغير مدركة أساليبها الماديــة الناجــعة. في هذا المضمار سقطت نهائياً في الامتحان المقارنات «البريئة» بين الاحتلالين البريطاني/1914 والاميركي/2003.
من هنا يحق للمرء الحديث بأن «السلم» الذي صعد به «الاحتلال»، «المحاصصة» في الحكم، يختلف جوهرياً عن «السلم» الذي يحاول أن يهبط فيه «الاحتلال» بدون جدوى. وهو «الأغلبياتية» السياسية، التي يبشر بها بعض «الهيبيون» في التحليل، الغامضة والتي تقتات دائماً في خلاصها من العشائرية والطوائفية. واللافت أنه بعد أقل من خمس سنوات من الاحتلال و«مقاومة» الأقلية «القصوى» انتابت «جماهيرها» رغبات العزوف عن «العروبة» والملاذ إلى «الدين» و«الطائفة» والازدراء الكامل للدولة والذهاب إلى «أمير الشريعة»، وأما الاستقلال «الوطني» فهو رياضة خاصة يفضل العراقي ممارستها حتى تتحوّل إلى «غاية» هندسية معقدة ومرهقة، حيث يرى الجميع أن الوصول إلى «الاستقلال الوطني» عبر «الصراع مع البعض» هو الأفضل والأسهل وليس في انخراط «الجميع» في مقاومة الاحتلال.
في هذا السياق المتهافت طفحت على جلد «النخب»، بقع سوداء عفــنة من نمط: 1 ـ الظروف غير ناضجة لمقاومة الاحتلال. 2 ـ الأوضاع لا تسمح بمقاومة الاحتلال. 3 ـ المسوغــات النظــرية غــير مقــنعة بمقاومة الاحتلال. 4 ـ الحالة العراقية «نموذجية» بحد ذاتها وهي «نسيج وحدها» ولا تصح عليها تطبيقات منقولة أو مبتدعة تجيز مقاومة الاحتلال. 5 ـ وأخيراً وليس آخراً، والمواد السابقة حتماً تقود إلى ذلك، إن صيغة «الاحتلال بدون احتلال» تتيح لنا قولاً وفعلاً الاتجاه نحو «مقاومة» «أخرى» وضد القوى «الأخرى» المشاركة في «الاحتلال بدون احتلال» وليس ضد القوة الأساسية «اميركا» المشرفة فعلياً على الاحتلال وتفاصيله!
هنا بدأت تسطع في سماء البلاد نجوم سوداء جديدة، ففي البيئة «الشيعية السياسية» تفتقد إلى القاعدة «المادية» لمقاومة الاحتلال، شرط أن لا تحسم من «غنائمها» ما يفقدها التوازن المطلوب للموافقة. وفي البيئة «السنية السياسية» تفتقد إلى القاعدة «المادية» لقبول الاحتلال شرط أن تضاف حصص جديدة إلى «غنائمها» كي لا يراودها الحنين إلى الماضي الدارس، مما يفقدها التوازن المطلوب للعصيان. لكن هذه التناطحات الهوجاء تظل تعاني من فقر الدم المزمن، وهو أن التوازن النسبي المطلوب في الحالات المتعارضة لا يتحقق الا عبر الأزمات وآلامها.