العرب ومنظّمات المجتمع المدني

المجتمع المدني، بما هو مجموع المنظّمات الأهليّة والجمعيّات غير الربحيّة والهيئات النقابيّة والحقوقيّة التي ينتظم ضمنها المواطنون، ويمارسون من خلالها أدواراً حيويّة ومهمّة في التأثير على صنّاع القرار، وفي توجيه السياسات العامّة لبلدٍ ما، هو فضاء اجتماعي / مواطني، يفسح في المجال للأفراد والجماعات للمشاركة في الشأن العام والإسهام في رسم سياسات الدول.

يكتسب المجتمع المدني قوّته من عدم خضوعه لسلطة حكوميّة معيّنة وعدم ارتهانه لجهة حزبيّة أو سياسيّة محدّدة. ذلك أنّ المفترض في المنظّمات المدنيّة الفاعلة من حيث المبدأ أن تكون مستقلّة في مستوى قرارها ونشاطها، ومصادر تمويلها،على نحو يسمح لها بأداء دورها في تطوير المجتمع والدّفاع عن حقوق الأفراد والجماعات بطريقة تغلب عليها الشفافيّة والنزاهة. ويُفترض في منظّمات المجتمع المدني أن تكون مُمَأْسَسَة، فاعلة في الحياة العامّة، ومُفارقة للنظام الحاكم. وعليها المعوّل في استقطاب الناس وتوجيههم نحو خدمة الصالح العام. والثابت أنّ قوى المجتمع المدني تشكّل في المجتمعات المتقدّمة قوى وازنة، وتُعتبر سلطة موازية لسلطة الدولة، لما لها من دور طليعي في تمثيل جمهور المواطنين والتعبير عن مشاغل المحكومين ومطامحهم ومصالحهم، في مواجهة سلطة الدولة بما لها من نفوذ وامتداد وقوّة رادعة. والنّاظر في المؤشّر العربي الصّادر من المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات سنة 2015، يتبيّن بشكلٍ لافت للنظر أنّ أغلبيّة مواطني العالم العربي غير منخرطين ضمن جمعيّات مدنيّة وهيئات طوعيّة، إذ أفاد أكثر من 87% من المستجوَبين أنّهم غير منتسبين إلى جمعيّات خيريّة أو أهليّة أو نقابات عمّالية أو أندية ثقافيّة، ولم يتجاوز عدد المنتمين إلى جمعيّات مدنيّة نسبة %13، ولا يتعدّى معدّل المشاركين الدّائمين في تلك المنظّمات بحسب الاستطلاع نسبة 3%. وأفاد 4% أنّهم من المشاركين “إلى حدّ ما” في أنشطة الجمعيّات التي ينتسبون إليها، في حين قال 94% من المستجوبين إنّهم منتسبون إلى هيئات لم يمارسوا فيها أيّ نشاط. وبذلك يتبيّن لنا أنّ الوطن العربي يشهد حالة عزوف عن الانتماء إلى منظّمات المجتمع المدني، والمشاركة فيها بشكل مستمرّ وفعّال. ويمكن تفسير هذا العزوف بأسباب عدّة منها ما يتعلّق بطبيعة تلك المنظّمات، وهويّتها وبرامجها، وآليات عملها، ومنها ما يتّصل بواقع المواطن العربي، ومواقفه المُسبقة من النشاط الطوعي تحت يافطة المنظّمات الأهليّة. فمن الناحية التنظيميّة، لم تُطوِّر أغلب الهيئات المدنيّة أساليب تواصلها مع المواطنين، ولم تنفتح بالشكل الكافي على شواغلهم وهمومهم اليوميّة، وظلّت منظّمات نخبويّة أو جهويّة، محدودة الانتشار والتأثير، وذات هويّة برامجيّة غير واضحة، أو بعيدة عن اهتمامات عموم الناس (الحقّ في العمل، العدالة، محاربة الفساد والتهرّب الضريبي، النهوض بالفئات المهمَّشة…). كما أنّ أغلب المنظّمات العربية لا تتمتّع بقدرٍ كاف من الاستقلالية، ولا تنأى بنفسها عن التبعيّة إلى جهة سياسيّة أو طائفيّة أو إيديولوجيّة معيّنة، وهو ما يجعلها مطيّة لتحقيق أهداف فئويّة أو طبقيّة ضيّقة، ويحول ذلك دون التفات معظم المواطنين إليها، وممارسة النشاط ضمنها. وتفتقر معظم الجمعيات الطْوعية العربيّة إلى خاصتَيْ المأسَسَة والتسيير الدّيمقراطي، فهي نادراً ما تعتمد نظاماً إدارياً واضح المعالم، يُحدّد واجبات المشرفين على العمل المدني وصلاحيّاتهم واستراتيجيّات عملهم على المدى القصير والبعيد. كما تتولّى الإشراف على تلك المنظّمات وجوه مكرورة، تستبدّ بالقرار على مدى سنين، ولا يتمّ تجديد الجهاز الإداري، وتأمين التداول الدوري على المسؤوليّات إلّا قليلاً. وهو ما يزيد في نفور الناس من تلك المنظّمات، ويعمّق من الشعور الجماعي بعدم الثقة تجاهها. يُضاف إلى ذلك ما تعانيه بعض الهيئات المدنيّة من صعوبة في الحصول على مصادر التمويل، وهو ما يؤثّر سلباً على عملها الميداني وجهدها التواصلي/ التأطيري. أمّا في خصوص واقع المواطنين العرب وأثره في عزوفهم عن منظّمات المجتمع المدني، فإنّ المرجّح أنّ انشغال أغلب الناس بمتاعب الحياة اليوميّة وبذلهم الجهد في تحصيل القوت وتلافي الفقر، وشوقهم إلى الظفر بعمل قارّ وبمسكن يقيهم برد الشتاء وحرّ الصيف يجعلهم لا يجدون متّسعاً من الوقت للنشاط في جمعيّة أهليّة، كما يجد آخرون حرجاً في الانتماء إلى منظّمات مدنيّة هي في الحقيقة واجهة لخدمة مصالح حزب سياسي أو طرف طائفي معيّن. يُضاف إلى ذلك أيضاً أنّ ثقافة التطوّع والعمل الجمعيّاتي لم تترسّخ بعد في الوعي الجمعي العربي، ولم تصبح بعد ظاهرة جاذبة للنّاس. لكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ بعض المنظّمات المدنيّة العربيّة الفاعلة، على قِلَّتها، قد اضطّلعت بدور ريادي في الإحاطة بالشباب وأسهمت في تفعيل دور المواطنين في الشأن العام.. ويبقى من المهمّ بمكان أن تُطوّر تلك المنظّمات وغيرها وسائل تفاعلها مع الناس، وأن تُعدِّد قنوات الاتصال بهم، وتُجدِّد مناهج العمل المدني/ التطوّعي ومقارباته حتّى تُعزِّز مشاركة المواطن العربي في مسار البناء والتقدّم وخدمة الصالح العام، وتؤسِّس لمعالم الدولة المواطنيّة المنشودة في سياق عربي.

أكاديمي وباحث- تونس

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى