«العرّاب» العربي ووهم التملّص من الفيلم الغربي
ليس غريباً أن تنتبه وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة الى مسلسل «العراب» الذي يُصور الآن بين عواصم عربية بما يتناسب مع حجم الانتاج الضخم الموعود، وتقوم بمتابعة كل شاردة وواردة فيه. فكل ما من شأنه الاضاءة على انتاج ضخم من هذه النوعية يصبح لقمة سائغة ومستحبة لهذه الوسائط، بل أن بعضها يقوم بالاضاءة بطريقته عن طريق عقد مقارنات مع الفيلم السينمائي الذي شغل الأوساط السينمائية عقوداً منذ أن أخرجه بثلاثة أجزاء المخرج الأميركي فرنسيس فورد كوبولا، واعتبر واحداً من كلاسيكيات السينما الخالدة عبر العصور.
عقد المقارنات مع الفيلم وليس مع النص الأدبي (رواية ماريو بوزو) هي بعكس ما يشتهيه صناع المسلسل الذين دأبوا منذ ذيوع خبر انتاج «العراب» بنسخة تلفزيونية عربية على التهرب من عقد مثل هذه المقارنات، واكتفوا بالتدليل الى قراءات في النص الأدبي باعتبار أن الفيلم موجود ويمكن العودة اليه واقتنائه بأثمان رخيصة… وكأن التعكز على النص وليس على الصورة يقدم مفتاحاً تشريعياً للتلفزة ليس متوافراً أمام القائمين على المسلسل لو قرر بعضهم – نادماً – أن يشير الى الفيلم من باب تقديم تحية مثلاً لصانعه والعاملين فيه وبخاصة أنه يضم نجوماً سينمائيين. ليس وارداً في عالم الدراما العربية مثل هذه المحاكاة طالما أن صناعها يدورون، أو يصرون على الدوران في عوالم مغلقة خاصة بهم. ليس بعيداً عن ذلك مخرج العمل المثنى صبح الذي يقول في تصريحات له عن «العراب» أنه يتصل ببلاد الشام في خمسينات القرن العشرين ويمتد في ستين حلقة حتى يومنا هذا من دون أن يأخذ بعين الاعتبار أي اسقاطات سياسية أو اجتماعية على منطق العمل على رغم أن الرواية والفيلم لا يفوتان سانحة بخصوص العلاقة المعقدة بين الرأسمال والسلطة التي أخضعت المجتمع الأميركي لنقد قاس وصل حد ادانته، ناهيك عن الكشف عن كل تلك الخيوط الخفية التي تصل مؤسسات الحكم الأميركية بالنقابات ومجلس الشيوخ وعصابات المافيا.
من يقرأ ويتابع من حول المسلسل يكشف عن تفريغ متعمد للفيلم قبل الرواية على رغم ادعاء الكاتب والمخرج بأن المسلسل لايقترب من الفيلم اطلاقاً، ويسقط من حساباته 80 في المئة من النص الأدبي الذي لا يلزم في روحيته جوهر المحاكاة التلفزيونية التي يبشران بها. بالطبع ليس هذا مثلبة اطلاقاً. من حق صناع العمل اقتباس ما يمكن أن يروه مناسباً لهم، فالعملية الانتاجية التلفزيونية في العالم العربي معقدة بمافيه الكفاية، لكن ثمة ملاحظات يمكن جرها هنا لمناقشة مثل هذه الادعاءات الحريصة على تفريغ عمل كبير من مميزاته وخواصه لحساب عمليات ترفيه تجارية بذريعة أن المشاهد العربي اليوم يعيش كماً هائلاً من الانكسارات والاحباطات وما من داع لجره الى أعمال يمكنها أن تثقل عليه وتزيد من همومه، وبخاصة أن ليس هناك في المدى المنظور أي امكانات للخروج من النفق المظلم الذي يحكي عنه صنّاع العمل… وكأن الرأفة بهذا المشاهد هي هدف اطلاق أعمال ضخمة تصبح العملية الانتاجية فيها هدفاً بذاته، مع الاجهاز على مقولات يكتشف المرء مع تقدم وتطور هذه العملية أن لا أحد ينوي مقاربتها أو الكشف عنها بذرائع متباينة.
ملاحظ هنا أن المخرج المثنى صبح هو أكثر من يستخدم في تصريحاته مثل هذه المقولات التي تدأب على المصالحة النفسية العائمة مع أي عمل يقدم عليه منعاً لاثارة حساسيات والتباسات معينة تبدو للوهلة الأولى محقة ومنطقية لولا أن كل ما يحدث اليوم في الواقع يحيل بنوع من التبصر الى حكايات عالقة بين المافيا والسلطة وهي تتأرجح بينهما، ويمكن الشغل عليها ليس من باب الادعاء، بل من باب منح الأمل للمشاهد بأن تطور العملية الانتاجية الدرامية في العالم العربي لا يجيء على حساب المقولات المهمة والخطيرة التي انبنى عليها الفيلم الأصلي، ويجد هو نفسه عالقاً اليوم بينها، وأن أي ادعاء هنا بالفصل بين العمل العربي المتلفز والفيلم غير ذي قيمة، ليس بسبب الحكم المسبق بأي امكانية للفشل، بل لأن محاولة حثيثة للدخول في كواليس المسلسل عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة أن الشركة المنتجة للعمل أطلقت صفحة على «فايسبوك» فيها صور أثناء الاستعداد تكشف عن محاكاة للفيلم حتى في الماكياج والأزياء والأجواء للوصول الى صورة مطابقة له يمكن أن تحظى بوهم المطابقة ان أرادت.
صحيفة الحياة اللندنية