نوافذ

العقل ميزان الحقائق

مقبل الميلع

سان فرانسيسكو يقول ابن خلدون: «ينبغي إعمال العقل في الخبر»، وهي كلمة تختصر جوهر التجربة الإنسانية؛ فالعقل ميزان الحقائق، ومن أهمل وزنه عرّض نفسه للضلال والاضطراب. فالأخبار لا تُؤخذ على عواهنها، ولا المواقف تُحسم بالهوى والاندفاع، بل بالفحص والتمحيص، وبإحسان استعمال هذه الجوهرة التي أودعها الله فينا.

ولعل أروع الشواهد ما نعيشه في تفاصيل الحياة اليومية، حيث يظهر العقل إمّا زارعًا للود، أو نافخًا في نار العداوات. فقد كان في إحدى القرى شاب تخرج من الجامعة، وتهيأ له منصب مرموق، فراح يبحث عن شريكة حياة تجمع بين الجمال والخلق والعقل. وكما هو شأن القلوب، وقع نظره على ابنة الجيران، غير أنه تردد في طريقة البدء بالحديث معها. وبعد طول تأمل اهتدى إلى حيلة طريفة، فطرق بابها شاكياً دجاجاً يعبث بحديقته. أجابته الفتاة بابتسامة رقيقة: «لكن يا جارنا، ليس عندنا دجاج!» عندها اعترف أنه لا يملك حديقة أصلاً، وإنما أراد الحديث. تفطّنت هي إلى قصده، فابتسمت، وكان ذلك مطلع قصة زواج مبارك. لقد كان العقل هنا جسراً نحو المحبة والوفاق.

غير أنّ العقل ذاته، إن غاب أو غُيّب، قد يتحول غيابه إلى شرارة توقد نيران الخصومة. كم من مشادة تافهة حول زرعٍ أو ماشيةٍ تحولت إلى خصوماتٍ وثاراتٍ لا تنتهي! ويُروى أن بقرةً تسللت إلى حديقة أحد المعلمين، فأراد طردها برمية حجر، فأصاب رجلها وكُسرت. كادت المشكلة تستحيل فتنةً بينه وبين شيخ جليل صاحب الماشية، لولا تدخل رجل حكيم عرف كيف يضع الكلمة في موضعها، فحوّل الموقف من صراعٍ محتمل إلى ضحكةٍ صافية على فنجان قهوة. لقد كان العقل هنا درعاً يحمي من الفوضى، ولساناً ينطق بالحكمة.

إن الدروس المستخلصة من هذه المواقف جلية: كل نزاعٍ، مهما بدا متشابكاً، يمكن أن يجد طريقه إلى الحل إذا أُعمل فيه العقل. فما بالك بالخصومات الكبرى؟ إننا نُضخّم مشكلاتنا حين نترك العاطفة تسيطر، ونصغرها حين نزنها بميزان الحكمة. فالعقل ليس مجرد أداة للجدل أو وسيلةً للمعرفة، بل هو ربان سفينة الحياة، يوجهها نحو برّ الأمان، إن نحن أحسنا الإصغاء إليه.

هكذا نفهم قول ابن خلدون: إن إعمال العقل في الخبر ليس مجرد نصيحة نظرية، بل ضرورة وجودية. فمن يعمل عقله يحيا في نور، ومن يعطله يعيش في ظلام.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى