الغول التركيّ ونياته

 

عندما كنت طفلةً في الجبل اللبناني، كان يتقدَّم بيتنا الكبير “سطيحة” واسعة ممتدّة فوق طابقين من الأقبية المخصّصة للمواسم والمواشي: الزيتون وعصره وتصنيعه المتعدّد الوجوه، والعنب وعصره وتصنيعه، والمصبنة والمدبسة.. وأقبية المواشي المختلفة.

ولهذه الأقبية، من الجهة الخلفية السّفلى للمجمع، أبواب عادية، إلا قبو واحد لم يكن أحد يدخل إليه إلا من سقفه، عبر كوَّة تفتح لملئه بالحبوب أو التبن أو غيره، ثم تقفل بطريقة تجعلها مخفية تماماً.

سألت عمّالنا عن سرّ هذا المخبأ مراراً، إلى أن كبرت قليلاً، وروت لي جدّتي كيف كان هذا القبو مخبأً من جنود الإنكشارية الَّذين يطوفون القرى، ويصادرون المواسم من أصغر المزارعين إلى أصحاب المزارع الكبرى، تاركين وراءهم المجاعة التي تربّينا على حكاياتها المرعبة السوريالية.

وعندما كبرنا قليلاً، رحنا نحلّل سبب خوفنا الرهيب من أيِّ رجل يرتدي بزة عسكرية، وهربنا للاختباء داخل البيت إذا ما مرّ، فإذا هو مخزون الذاكرة الجمعيّة من رعب جنود السّلطنة، وأيام “سفر برلك”، وجنود الإقطاعيين الّذين باعهم السّلطان لقب بيك أو شيخ، وأقطعهم الأرض والناس.

وعندما كبرت أكثر، ودخلت عالم الوعي السياسيّ والفكريّ القوميّ، عرفت أنَّ تركيا اغتصبت في العام 1920 مساحة كبيرة من الأرض السورية: ديار بكر، أورفه، ماردين، جبال هكاري، جزيرة بن عمر، هضبة عينتاب، كيليكيا الغربية والصغرى، قبل أن تقتطع إسكندرون في العام 1938، وحفظتُ أنطون سعادة يكتب في 1 شباط/فبراير من العام نفسه: “الغول التركي جائع أيها الشعب، ها هو يفتح فاه. لقد ابتدأ بالإسكندرون، وفي نيَّته أن ينتهي عند صنّين”.

من عرسال كان إرهابيو إردوغان يتَّجهون في العام 2015 فعلياً إلى صنين، لو لم يقضِ مقاتلو المقاومة والجيش اللبناني على حصَّتهم من المشروع العثماني، غير أنَّ مشروع العثمانية الجديدة أبعد من صنين، فها هو يصل إلى ليبيا، لا لينتهي عندها، بل ليسيطر عبرها على أوروبا، محقّقاً الحلم العثماني القديم، بما تحقَّق منه يومها، وما ظلّ مشروع تحقّق.

هذا المشروع العولمي العثماني يلتقي مع المشروع الإخواني العولمي، الذي -بسيطرته على تركيا عبر إردوغان وحزب العدالة والتنمية- أمّن منطلقاً وعاصمةً ونظاماً رسمياً، بعد فشله في تأمين ذلك على أرض الدولة العربية الكبرى؛ مصر.

في العمق، ثمة تناقضات في جوهر الرؤية، إذ يقوم مشروع الإخوان على عولمة عقدية حقيقية تتجاوز الحدود والدول والسيادات الوطنية والقومية، ولا يضيرها أن ترتبط بأجهزة وسياسات دول غربية لتحقيق أهدافها، في حين يقوم مشروع العثمنة على توظيف العولمة الدينية-المذهبية لخدمة الهيمنة التركية واستعادة إمبراطورية السلطنة بحجّة الدين، غير أنَّ هذا التناقض يسقط مرحلياً على الأقل أمام حاجة تركيا إلى المدّ الإخواني وحاجة الإخوان إلى مظلّة دولة؛ دولة لا ينفكّون عن محاولة تأمينها على أية أرضٍ عربية، من مصر إلى تونس إلى المغرب إلى سوريا إلى ليبيا.

أما الأهمّ، فهو أنّ النقطة المركزيَّة في هذا الحلم الاستعماريّ البشع هي سوريا، فإما أن ينجح المشروع عبرها، وإما أن ينتحر فوق أرضها، وذاك ما شكَّل جوهر الصراع التكفيري المدعوم تركياً منذ تسع سنوات؛ جوهر يمكن تبيّنه بخطوط الاستراتيجية الكبرى، ويمكن تبيّنه عبر عشرات الرموز والتسميات الجزئية، ليس أقلّها الإحالة إلى “مرج دابق”.

من هنا يطرح السؤال: أين نحن اليوم من هذا المشروع؟ سؤال أثبتت المجريات أنه لا يمكن الإجابة عليه إلا إذا وضعنا القضية كلّها ضمن سياقها الدولي. وفي هذا السياق، تتصارع عدة مشاريع، أهمها اثنان: الأوراسي والأطلسي.

للتوّ، نعود إلى تاريخ الحربين العالميتين، وتحالف تركيا مع ألمانيا بوجه الحلفاء، وبينهم روسيا، ما جعل الأخيرة تطالب في العام 1945 بالسيطرة على معظم تركيا (إسطنبول والبوسفور والدردنيل ومرمرة وسكاريا وقارص وأردوهان) وتعديل الحدود، فردَّت الأخرى بالانضمام إلى حلف الأطلسي بوجه حلف وارسو، لكنَّ الأطلسة لم تفتح لتركيا أبواب أوروبا والغرب.

 

وإذ يضطر إردوغان إلى أن يدير وجهه نحو الشرق، فإنما من خلال الأوراسية التي ما تزال حاضرة في صفوف الجيش والسياسيين. وعليه، حاول أن يلعب على الحبلين معاً، فيقدم نفسه وكيلاً للأوراسية والأطلسية معاً في سوريا، متكئاً على الجماعات الإرهابية التي سهَّل تمريرها وجمعها وتسليحها وتدريبها.

وفي المعركة الأخيرة، التي لا تذكّرنا بشيء بقدر ما تذكّرنا بحرب تموز 2006 في لبنان، فإن بومبيو لا يختلف عن كوندوليزا رايس، وإردوغان لا يختلف عن أولمرت، ومحور المقاومة هو هو.

هناك انكشف دور “إسرائيل” كأداة، وهنا اتّضح دور تركيا كأداة؛ أداة أريد لها أن تمنع الدولة السورية من بسط سيادتها على أرضها وصولاً إلى تقسيمها، وهذا ما يفسر السلوك الروسي في ما يتجاوز مجرد الغضب العسكري، ويفسر الإصرار أولاً على الالتزام بوحدة سوريا وسيادتها على كامل أرضها، بعد أن كان السلطان يتخيّل أنه سيبدأ بنقاط المراقبة مقدمة لمخافر، ومن ثم قواعد عسكرية، ومن ثم لاحتلال كامل على نمط الألوية السليبة؛ احتلال يثبته في الشمال، وفي ما يدّعيه من أراضي الميثاق الملي المخالف لكل تطور الحضارة الإنسانية، ويثبّت الأميركي في الشمال الشرقي تثبيتاً لا يهدف فقط إلى السيطرة على الأرض والثروات، وإنما قطع طريق الحرير الذي تبني عليه الصين استراتيجيتها العالمية.

بين القيصر والسلطان، ليست أول الحروب، وليست أول المعاهدات والاتفاقيات. منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم، أكثر من اثنتي عشرة حرباً، وأكثر من عشر معاهدات. الأولى اندلعت لخلاف على التقاسم، والثانية ترجمت اتفاقاً على التقاسم. وفي هذا كلّه، كانت أوروبا تتأرجح مرة مع هذا ومرة مع ذاك، ومرة تنقسم بينهما، ترجمةً لانقسام جغرافيتهما بين أوروبا وآسيا.

وبين هذا العالم العربيّ الممتدّ والاستعمار العثمانيّ، ليست أول مظالم الهيمنة والاغتصاب، وليست أول حروب التحرير، لكنها ربما أول حرب طويلة يخوضها جيش وطني قومي عقائدي نظامي، مدعّماً بقوات رديفة، ضد مشروع الاحتلال العثماني المتقاطع مع احتلالين مباشرين: الأميركي والصهيوني، ومع حنين عجوز إلى عزِّ احتلالاتها، وجشعها أمام ما اضطرّت إلى التخلّي عنه من ثروات.

هي حرب ما تزال معاركها كثيرة، لكن المهمّ الاتجاه الصاعد الذي ثبتته. يقول سترابون: “في الحروب، العيون هي التي تهزم أولاً”.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى