الفردانية في مواجهة السلطوية
تكشف تجربة الروائي عادل عصمت -على تعدُّدها- الفائز مؤخّرًا بجائزة نجيب محفوظ التي يمنحها قسم النشر بالجامعة الأميركية 2016 عن “حكايات يوسف تادرس″، فقد أثمرت هذه التجربة خمسة أعمال ما بين قصصية وروائية إلّا بقراءة عمله الفائز بالجائزة، عن كاتب يتميّز بأسلوب ممتع في السّرد، وتمكّنه من ضبط إيقاع الحكاية دون زوائد تعوق حركة السرد وتفاعل الشخصيات، وكذلك لغته العذبة المتدفقة كشلال بصور رائقة بعيدة عن التعقيد والتكلُّف، لكن الملاحظة اللافتة -وهي سارية على عمله الجديد- تتمثّل في طغيان حالة العدمية التي صارت عليها شخصياته، وهو ما جعلها شخصيات دومًا هاربة غير قادرة على المقاومة والصمود، وهي صورة سلبية وإن كانت تُرسِّخ لحالة الضغوط التي مُورست على إنسان العصر الذي عجز عن المقاومة واكتفى بالهروب.
صدر له مؤخرًا عمله الجديد “صوت الغراب” 2017 عن دار الكتب خان بالقاهرة، وهو في الحقيقة لا يقلُّ جمالاً وعذوبة عن عمله السَّابق، وإن كانت اللغة ومساحات السّرد في هذا النص غاية في الروعة، خاصة وهو يغوص في عمق الشخصيات أثناء اختبارها في مواقف الحياة، المهم أن الشخصيات كانت أكثر إشكالية من الرواية الأولى باستثناء البطل المنعزل.
انهيار عالم الجماعة
تطرح الرواية الجديدة عبر أزمات شخصياتها قضية مهمّة تتمثّل في أزمة الفرد الناتجة عن الآخر والجماعة التي ينتمي إليها، وهي رؤية مُمتدة في عمله السّابق. أزمة الفرد في هذه الرواية ليست نِتاج فرديته بل هي نتاج اندماجه في الجماعة؛ فالبطل الرئيسي تبدأ أزمته من الانهيارات المُتتالية لعالم الجماعة الذي ينتمي إليه؛ فسيرة العائلة تطرح كلّ فترة فرعًا معوجًا، بدءًا من الجدّ أصل العائلة مندور البري وما روي عنه بأنه “صَرع وحشًا، كان يمنع الناس من المرور في أثناء الليل إلى بيوتهم” وكذلك غرام جده بدوي بالبنات الصّغار في نهاية حياته ثم ما دبَّ “في البيت الكبير من خلافات” انتهتْ بتأسيس الأب لبيت انتقل إليه، فأوّل ما فقده الراوي هو دفء الجماعة، وهو ما كان تأثيره سلبيًا؛ فمالَ من لحظتها إلى العُزْلة وبدأ يُحلِّق بعيدًا مُستعيدًا طرفًا من سيرة الجدّ مندور الذي حلّق هو الآخر إلى عالمه دون أن يعرف أحد إلى أين!
يتوالى عالم التحليق مع اختلاف النتائج بدءًا من العمّة سعاد التي كانت هي الأخرى تعيد صورة من صور الجدّ في العشق واللامبالاة بقوانين العائلة، فأحبت ابن أحد العمّال في الوكالة، وضربت بكل التهديدات عرض الحائط، حتى وقعت المأساة باكتشاف مقتله أثناء ذهابه إلى الجيش، وكانت مأساتها الشخصيَّة نتيجة تدخلات عمّ البطل صلاح الذي حال بينهما، وإنْ كانت اتّهمته بأنّه هو القاتل، وصولاً إلى النهاية التي انتهت إليها وكان الرّاوي شاهدًا على طرفٍ من نهايتها. تتكرر أزمات الشخصيات لا فرق بين الرِّجال والنِّسَاء، فابتسام كانت أزمتها في القلق الذي سيطر عليها بعد مقتل أخيها، لكن تشتدّ أزمتها بعد زواجها من شاب يعمل نجارَ مسلّح، تركها وذهب إلى العراق ثم أرسل لها ورقة طلاق، وتمّ إجبارها على التنازل عن الشقة من قبل إخوته. دفعت هذه الأزمات الشخصيات بلا استثناء إلى الاتجاه إلى الذات لا بغرض التشرذم وإنما للتماهي معها والتحليق بعيدًا عن عوالم الإخفاقات.
تبدأ الرواية بالبطل (مجهول الاسم) وهو يجترُّ حياته/مأساته في موازاة ومقاطعة مع حياة عائلته، وهو حبيس غرفته في انتظار حكمهم بإرساله إلى مَصحّة نفسيّة أو بمعالجته في البيت تحت إشراف زملاء أخيه محسن الطبيب، ساردًا بغنائية تتخلّلها تأمُّلات عبر التساؤلات لذاته وللقارئ عمَّا ودّ البطل من أحلام التحليق والطيران، وما تبع هذا من مغامرات التلصُّص على الآخر، فجاءت مرحلة المنظار الذي كان يتلصّص به على فتيات المدرسة ثمّ الجيران، إلى التلصّص على عالم نجوم السينما بعدما فتح له توفيق السّيد عالمًا جديدًا بمنحه هدية أصول الأفلام فصارت هديته تُعادل هدية الدَّرَاجة التي كانت نواة حُلم التحليق. لكن ثمّة مرحلة يلتقي فيها البطل مع ابتسام، وتصبح ابتسام هي المرفأ الذي يُلقي عليه بكل همومه، حتى أنه بعدما تخلَّص ممّا يثقله، عرف لأوّل مرة الطريق الذي لم يسلكه في حياته، وكان يساوره قلق وحيرة، عكسه تساؤله “ماذا يفعل لو تركته؟”.
لم تسلم خالته خضرة من أذى الآخر فكانت أزمتها بسبب ارتباطها بسومة التي قدمت من القرية وعملت على تعليمها حتى فجأة خرجت ولم تعد. أوهمت نفسها بأن البنت سوف تعود لكن كانت تخدع نفسها، وبعدها انتابه شعور بالقلق من الشقة بادعاء تهيّؤات فعادت إلى القرية.
بهذا الطرح كأنّ الرواية تدعو إلى الفردانيّة أو التحلّل من الجماعة، وإن كانت الفردانيّة كمذهب يرى وجوده داخل الجماعة فهو جزء، دون التضحية بالفرد في مقابل الجماعة. وهي فكرة وجد الكاتب أنها الحل والبديل لمشاكل وأزمات شخصياته الناتجة عن وجودها في الجماعة. لذا وجد الجميع الخلاص في التحرُّر،وأنّه الحل الأسهل للتحرُّر من هيمنة الجماعة وإلّا وقع الفرد فريسة لأوهامه وأمراضه على نحو ما حدث لبطل الرواية هنا، الذي تتعقد وتتأزم مشكلته ويصبح لا حلّ لها، حيث يتخيل نفسه يطير بعدما حلّ عليه الغراب في كل شيء من صوته إلى ملامحه الغريبة التي لاحظها الجميع، وسببت له رُعبًا بعدما أخبرته ابتسام بأنه شاخ.
على الرغم من أن ثمة أبويّة ظاهرة في النص حيث سيطرة الذكورية وهيمنتها على مصائر النساء، إلا أن النساء تمردن علي هذه الأبوية، فسعاد لم يمنعها ردع إخوتها عن الاستمرار في علاقتها بابن عامل الوكالة، واستمرت تخرج تقابله عند الخيّاطة الإغريقية، وأحيانا تخرج بملابس مكشوفة دون أن تأبه بأحد، وعندما حدثت الحادثة له وقفت أمام الجميع وأعلنت أنها تتهم أخاها صلاح بأنه قتل حبيبها.
وبالمثل مريم التي كان الجميع يخاف تشبيهها بسعاد استطاعت أن تقف للجميع بل وانتصرت لعمتها سعاد، فتمردت على قوانين العائلة وذهبت لتقدم في الإذاعة دون أن تأخذ إذنًا من أحد، وعندما أعلنت قرارها بالانتقال إلى القاهرة قامت ثورة في البيت، لكنها وقفت وتحدت حسن وكأنها تثأر للجميع.
وبالفعل غادرت البيت واستقلت في عملها. لكن الخطوة السابقة لهذا التمرد هو ما كتبته وكان أشبه بمذكرات لشخص مجهول، عن تاريخ العائلة وتعرية العائلة وسرد حكاية سعاد من جديد. هو بداية التمرُّد والمواجهة بدأتها على الورق إلا أنّها استطاعتْ أن تُطَبِّقَها فعليًّا، وقد كان. فصار حسن في النهاية يفتخر بأن له أختًا اسمها يَظهر في تحقيقات صحافيّة. في مقابل الشخصيات الذكورية كانت الشخصيات النسائية أكثر قدرة على المواجهة، وهو انتصار للمرأة، وإعادة المكانة للمرأة التي ترفض أن تكون التابع أو الظل، حتى لو كانت وسائل المقاومة والتمرد تقليدية إلا أنها في النهاية انتصرت وهذا هو المهم.
قدَّمت الرواية شخصيات نسائية غاية في الروعة والجمال، بدءًا من العمّة سعاد الغائبة بالموت والحاضرة بسيرتها التي كانت واحدة من التي أكسبت السرد تراجيديا وذروة وتصاعدًا، أو بانعكاساتها على الآخرين.
لعبة الحضور لشخصية سعاد في حكاية مريم جاءت لعبة ماهرة رغم تكرر الحدث، لكن تكرارية الحدث في حكاية تمرّد مريم أكسب الحكاية أبعادًا جديدة لم تكن واضحة في السرد الأول، والأهم أنها مرويّة من شخصية ستُعيد حكايتها من جديد وكأنّها كانت بمثابة الحافز على التمرد وهو ما كان وتكفي وقفتها أمام أخيها حسن ومواجهته بما فعل مع سعاد وهو ما عجز عنه الجميع.
مساحة مريم السردية كانت صغيرة إلا أن الكاتب استطاع عبر شخصيتها أن يؤكد المعنى الذي كان يبحث عنه الراوي وفشل واستسلم لحالته وكأنه استعذب هذه السلبية.
ثمة شخصيات حضرت ودورها انتهى من نصف الرواية كشخصية العمَّة وبالمثل سومة، وحالات الاندهاش التي بدت عليها بعد ما رأت المدينة وهي القادمة من القرية، ثمّ التطوُّر في شخصيتها وتمرّدها دون أن يعرف أحد إلى أين ذهبت، وهو ما سبَّب انكسارًا للخالة سعت لإخفائه إلا أنها لم تتمكن، فقرّرت العودة إلى القرية. وكذلك شخصية توفيق السيد الذي كان حالة هو الآخر للعيش مع ذاته دون أن يأبه بأيّ سلطة.
أما الشّخصية الأهمّ فكانت شخصية ابتسام التي حرّكت السّرد مِن الغنائية التي كانت مهيمنة عليه، ودفعت بالأحداث إلى قمة الإثارة سواء برسم شخصية ابتسام المُطلقة والمتحرِّرة، تلك التي تبحث عن نقطة الضوء داخلها. ابتسام على الرغم من أنها دخلت أحداث الرواية في منتصفها إلا أنَّها استطاعتْ أن تشغل النصف الأخير بحضورها وعلاقتها بالبطل، وإن كان الانفصال بينهما ميلودراميا، وربما كان مبرّره هو تفاقم حالة البطل النفسية، فبعدها دخل طور الانعزال.
ثمة بعض الشخصيات التي كان حضورها قويا ثم انقطع، مثل شخصية سومة كانت نموذجا للشخصية الإشكالية إلى أن انقطعت سيرتها بعد هروبها، وبالمثل توفيق السيد، وبالمثل شخصياته المُقرَّبَة منه إبراهيم الألفي الذي أحرز على الدكتوراه.
والشيء الذي لم أقبله أو أستسغه هو أن الراوي المصاب بالمرض هو الذي يسرد الأحداث، بل نراه يُعلِّق على كثير من المواقف في صورة تؤكد صحتها وسلامته، وهو ما يتنافى مع الحالة التي رسمها المؤلف للراوي.
قادتِ الفردانيّة الأشخاص للتحرّر من السّلطوية، ونجحَ البعض لكن يبقى عامل القدرة على التحرّر وكيفية التحرّر دون أن يؤثر على الجماعة هو الفيصل، وهو جوهر العمل. سومة تحرّرت وقادت العمّة إلى الضياع، ومريم تحرّرت وقادت حسن إلى الجنون، أما الجدُّ مندور البدوي فكانت سيرته في العائلة بمثابة الشرخ الذي يتوارى الجميع خوفا من إظهاره.
مجلة الجديد اللندنية