الفكر الفلسفيّ المُعاصِر في لبنان
مُبادَرة فلسفيّة تستحقّ كلّ التنويه والتقدير، تلك التي أقدَم عليها المفكّر اللّبناني الدكتور مشير باسيل عون، في المصنّف الذي أَشرف على إعداده وتنسيق مَحاوره، والذي خصّ به الفكر الفلسفيّ المُعاصر في لبنان.
يضمّ المصنّف مجموعةً من الدراسات القيّمة، تناولت روّاد الفكر الفلسفيّ المُعاصِر في لبنان، ونخصّ بالذكر: شارل مالك، حسين مروّة، جيروم غيث، رينيه حبشي، كمال يوسف الحاج، بولس الخوري، فريد جبر، ماجد فخري، الأب إتيان صقر، جوزف أبو رزق، أنطون حميد موراني، بشارة صارجي، مهدي عامل، عادل ضاهر، علي حرب، ناصيف نصّار، موسى وهبة، جاد حاتم، جان قلام، مشير باسيل عون. وهي أسماء أغنت المتن الفلسفي عربيّاً ولبنانيّاً، بإنتاجاتها وإسهاماتها المتفرّدة، التي دلّت على حنكة وكفاءة عاليتَين على مستوى البحث والإنتاج الفلسفي.
يتناول مشير عون وزملاؤه ممَّن شاركوا معه في هذا المصنّف (أنطوان سيف، باسل صالح، باسم الراعي، باسكال لحّود، جان بيار نخلة، جمال نعيم، جورج يرق، جوزف معلوف، جيرار جهامي، سايد مطر، شارل شرتوني، فريد غيث، لطيف إلياس لطيف، نادر البزري، ناصيف قزّي، هدى نعمة، وجيه قانصو) الجيل الأوّل من الفلاسفة اللّبنانيّين المُعاصرين لأوّل مرّة، سعياً منهم إلى الكشف عن حقيقة إسهامهم الفلسفي الأصيل، الذي اتّخذ من فعل المُجادلة الفلسفيّة غاية، أدّت إلى ازدهار المجال الفلسفي العربي واللّبناني في ستينيّات القرن العشرين.
في إشارة لبيبة من مشير عون، أثناء التقديم الذي أفرده لهذا المصنّف، يُبرز أنّ أول سؤال سيتبادر إلى ذهن قارئ الكِتاب، يرتبط بقابليّة الفلسفة للانتماء القومي أو الاجتماعي أو الديني أو السياسي، إلى بلدٍ من البلدان. ويوضِح أنّ تركيزه على الفكر الفلسفي في لبنان يرتبط بأسبابٍ عدّة. أوّلاً لا أحد يستطيع أن يجزم أنّ الفلسفة، بما هي تفكرُّ نقدي وهّاب للمعنى، تطيق الانتماء إلى قَومٍ دون قوم، أو إلى منطقة دون منطقة، أو إلى حقل اختباري دون حقل أخر. ثانياً، يُجمع أهل المعرفة على القول إنّ الفلسفة تنطوي على مُكتسبَين اثنَين: المُكتسب الأوّل يقوم على ابتداع المفاهيم وتشييد عمارة فلسفيّة أو أنظومة فلسفيّة مُتناسِقة مُتجانِسة مُتماسِكة، جامِعة مانِعة، خليقة باستنطاق جميع قابليّات المعيش الإنساني والوعي الإنساني والفَهم الإنساني. أمّا المُكتسب الثاني فيتحقّق في الإفصاح الأصيل عن اختبارات الوجود الإنساني في رحابة انبساطه. لذلك لا يُمكن لمرء أن يجزم أنّ الفلاسفة اللّبنانيّين بنوا بناءً فلسفيّاً يتّصف بمثل هذه الخصائص، وأبدعوا مفاهيم جديدة يستخدمها الفكر الفلسفي العالَمي، ما خلا بعض التخريجات المُبتكرة التي ظلّت أسيرة مولّديها. وهي تخريجات انبثقت في أصلها من اجتهادٍ لبناني محمود في استلهام الاصطلاحات الفلسفيّة الهادِية التي ابتكرها كِبار الفلاسفة على تراخي الحقب. غير أنّ ذلك لا يعني أنّ الفلاسفة اللّبنانيّين لم ينجحوا في التعبير الأمين عن الاختبارات اللّبنانيّة الفرديّة والجماعيّة التي انتابتهم في صميم انتمائهم إلى الاجتماع اللّبناني. ثالثاً إرجاء الحُكم على لبنانيّة الفلسفة، وربط هذا الحُكم بما يُجمع عليه أهل التبصّر الفلسفي حين يحسمون أمر الحديث عن فلسفة إغريقيّة، وفلسفة ألمانيّة، وفلسفة فرنسيّة، وفلسفة إنكليزيّة، وفلسفة أميركيّة، وفلسفة صينيّة. وفي ظنّي أنّ مثل هذا الحديث، حين يدلّ على ما أنتجه الفلاسفة الإغريق أو الألمان أو الفرنسيّون أو الإنكليز أو الأميركيّون أو الصينيّون في زمن من الأزمنة، يصحّ نسبه أيضاً إلى الفلاسفة اللّبنانيّين، من غير الوقوع في أيّ ضربٍ من ضروب الاستصغار أو الاستكبار. أمّا حين تسمو الفلسفة، فتتعالى على جزئيّات الاختبارات المحلّية لتتدبّر بنى الوجود الأساسيّة، فإنّ “الحديث عن فلسفة لبنانيّة، على غرار الحديث عن فلسفة إغريقيّة أو ألمانيّة، يبطل بطلاناً، ويتيه في دهاليز الانتماءات الضيّقة” (الفكر الفلسفيّ في لبنان، تحرير مشير باسيل عون،مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2017).
الفلسفة والخصوصيّة
لا تخرج الدراسات المنضوية في هذا المصنّف عن هذا السجال، بيد أنّ هناك من بين الفلاسفة اللّبنانيّين مَن يرفض فكرة انتماء الفلسفة إلى خصوصيّة الاجتماع اللّبناني، وهناك مَن يُدافع عنها. “فبعض الفلاسفة اللبنانيّين عاشوا في خارج لبنان في أغلب أوقاتهم (رينيه حبشي، ماجد فخري، عادل ضاهر، جان قلام)، ولكنّ انتماءهم الأصلي كان انتماءً لبنانيّاً بلا أدنى شكّ. يُضاف إلى ذلك الاستفسار عن لغة التعبير، إذ ثمّة فلاسفة كتبوا حصراً باللّغات الأجنبيّة، ولاسيّما الفرنسيّة(رينه حبشي، جوزف أبو رزق، جاد حاتم، جان قلام)، ومنهم مَن كتبوا بالإنكليزيّة والعربيّة( شارل مالك، ماجد فخري، عادل ضاهر)، ومنهم بالفرنسيّة والعربيّة(جيروم غيث، بولس الخوري، فريد جبر، إتيان صقر، بشارة صارجي، مهدي عامل، مشير عون)، ومنهم بالألمانيّة والعربيّة(أنطون حميد موراني)، ومنهم من قرَّر كتابة الفلسفة بالعربيّة دون سواها على الرّغم من تضلّعهم الرّاسخ من اللّغات الأجنبيّة(كمال يوسف الحاج، ناصيف نصّار، موسى وهبة). والجدير بالذكر أنّ جميع هؤلاء الفلاسفة اللّبنانيّين المُعاصرين كتبوا أطروحاتهم في الدكتوراه باللّغة الأجنبيّة، ما عدا جوزف أبو رزق وعلي حرب اللذَين لم يُنجزا أطروحتيهما بحسب معايير التدرّج الأكاديمي المعتمدة. ” ذلك أنّ مسرى التخصّص في بحث الدكتوراه جرى، بالنسبة إلى جميع هؤلاء الفلاسفة اللّبنانيّين، في سياق التفاعل مع الفكر الغربي في الجامعات الغربيّة”( الفكر الفلسفيّ في لبنان).
يُمكن أن نصنّف الفكر الفلسفي المُعاصِر في لبنان، من جهة، انطلاقاً من الانتماء المَعرفي الأصلي لروّاده، فضلاً عن المنهج المتَّبع، ومن جهة أخرى، انطلاقاً من الغرض الفلسفي ومَقاصده القصوى والمَضامين والخلاصات. “في محور الانتماء المَعرفي الأصلي النّاظم والمَنهج المُعتمَد يُمكن تصنيف الإسهامات الفلسفيّة اللبنانيّة بحسب استلهامها للتراثات الفلسفيّة الكبرى أو الأنظومات الفلسفيّة العالميّة الأساسية. بعض الفلاسفة اللّبنانيّين ينطلقون في مسعاهم الفلسفي من تدبّرهم الأصلي للتراث الفلسفي العربي (حسين مروّة، فريد جبر، ماجد فخري، ناصيف نصّار)، وبعضهم الآخر ينطلق من التبصّر في التراث الفلسفي الغربي(شارل مالك، جيروم غيث، رينيه حبشي، كمال يوسف الحاج، بولس الخوري، إتيان صقر، جوزيف أبر رزق، حميد موراني، بشارة صارجي، مهدي عامل، عادل ضاهر، علي حرب، موسى وهبة، جاد حاتم، جان قلام، مشير عون). بيد أنّ هذا التصنيف لا يعني بتاتاً أنّ الفريقَين كليهما لا يبتغيان الاستناد إلى التراثَين العربي والغربي في تطلّبٍ حثيث للتمكّن المعرفي، والإفادة الأشمل، والاجتهاد المُبتكر. جلّ ما في الأمر أنّ المُنطلقين من التراث العربي صرفوا جهداً عظيماً في استنطاق هذا التراث، والإلمام بمسائله ودقائقه، من دون أن يتغافلوا عن إسهامات التراث الفلسفي الغربي. وكذلك القول في أحوال الفلاسفة المُنطلقين من التراث الغربي، ولئن غفل بعض هؤلاء عن الاعتناء الدقيق بالنصوص الأصليّة التي يزدان بها التراث الفلسفي العربي. وقد يكون من الأمانة العِلمية القول ” إنّ جميع الفلاسفة اللبنانيّين المُعاصرين اعتنوا اعتناءً رصيناً بالتراث الفلسفي العربي واستجلاء إشكاليّاته وآفاقه”( الفكر الفلسفيّ في لبنان).
تلتقي معظم إسهامات الفلاسفة اللّبنانيّين – بحسب مشير عون- على تنوّع مَشاربهم ومَعارفهم، ومَناهجهم، في حقولٍ ثلاثة:
تأصيل الاختبار التعايُشي: تختلف سُبل تأصيل المعايشة من فيلسوف إلى آخر، ويُمكن تصنيف هذه السبل في أنماط ثلاثة متقابلة. النمط الأوّل يستخرج أسباب التأصيل من معين التراثات الدينيّة، على نحو ما يأتي به رينيه حبشي وكمال يوسف الحاج، بينما يعتمد النمط الثاني في التأصيل على مشروعيّة الاختلاف الثقافي في تأويل الوجود التاريخي والأعمال الإنسانيّة ومنجزات الاختيار الفكري الذاتي الفردي والجماعي (إتيان صقر، أنطون حميد موراني). أمّا النمط الثالث، فينشب التأصيل إمّا في تربة الكينونة التشاركيّة المفطورة على التكامل (بشارة صارجي)، وإمّا في تربة التنوّع اللّصيق بطبيعة الوجود التاريخي (بولس الخوري، مشير عون). في جميع الأحوال، تقوم بين هذه الأنماط الثلاثة روابط شتّى من القربى والتضمين تجعل كلّ نمط من الأنماط يستعين بعناصر الإسعاف المعرفي التي يُمكن استثمارها في كلّ نمط على حدة.
مسائل الإصلاح: في حقل الإصلاح، تتنوّع إسهامات الفلاسفة اللّبنانييّن المُعاصرين بتنوّع موضوع الإصلاح. منهم مَن يروم إصلاح الفكر العربي في المقام الأوّل(بولس الخوري، فريد جبر، ماجد فخري، ناصيف نصّار). ومنهم مَن يسعى في المرتبة الأولى إلى إصلاح الاجتماع الإنساني، ولاسيّما في المجتمعات العربيّة (حسين مروة، جيروم غيث، مهدي عامل، عادل ضاهر). ومنهم من يبتغي في صدارة اعتناءاته إصلاح المعطوبيّة الإنسانيّة الفرديّة(شارل مالك، جوزيف أبو رزق، جاد حاتم، جان قلام). بيد أنّ مثل هذا لا يعني أنّ التصنيف محصور في كتابات هذا الفيلسوف أو ذاك في نطاق موضوع واحد. المراد القول إنّ الجهد الفلسفي عند هذا الفيلسوف أو ذاك قد انصبّ كلّه على تدبّر موضوع واحد من موضوعات الإصلاح الثلاثة المذكورة، فآثره واعتنى به من دون أن يهمل سواه من الموضوعات. إنّ مَسالك الاصلاح تنوّعت في الفكر الفلسفي المُعاصر في لبنان. فكان لإصلاح الاجتماع العربي إسهام، وكان لإصلاح المعطوبيّة الإنسانيّة اجتهاد. تناول فلاسفة إصلاح الفكر العربي بالتأويل والنقد والتجديد إمّا بنية التراث العربي المفطور على مسلّمة التسامي(بولس الخوري)، وإمّا المُمارسة التاريخيّة الممهورة بالإخراجات اللّغوية المحضة(ماجد فخري)، وإمّا البنية المعرفيّة للاصطلاح العربي وإمكانات التعبير التي يختزنها(فريد جبر)، وإمّا شروط الاستقلال الفكري والانعتاق من كلا التراثَين العربي والغربي وابتكار مَعالِم النهضة الثانية (ناصيف نصّار). واعتنى فلاسفة إصلاح الاجتماع العربي إمّا بافتضاح بنى الإنتاج الرأسمالي الكولونيالي المُهيمِنة على الوعي الاجتماعي العربي (حسين مروّة، مهدي عامل)، وإمّا بالتوفيق بين مستلزمات السموّ الروحي ومقتضيات النضال الاجتماعي التي تستتليها قيمة الحرّية الناشبة في عمق الوجود التاريخي (جيروم غيث)، وإمّا باستدخال التمايز الشديد التطلّب الذي يفصل بين حقلَين واضحَي المَعالِم، ألا وهُما حقل الصلاحيّات المعرفيّة المعياريّة المُنبثقة من بنية العقل المستقلّة، وحقل الاختبارات الإيمانيّة الوثوقيّة المُقترنة بأحوال الوجدان الفردي التائق إلى الإيمان بالغَيب واستحضار قوى العناية الإلهيّة. أمّا فلاسفة إصلاح المعطوبيّة الإنسانيّة، فمنهم من آثر ربط الحرّية الكيانيّة بمثال السيّد المسيح صورة لاكتمال إنسانيّة الإنسان في جميع أبعادها (شارل مالك)، ومنهم من سبر أغوار التعاطف الإنساني وأقامه في أصل الوجود الفردي السليم (جوزف أبو رزق)، ومنهم من جعل الحبّ التشاركي ضَمانة الخلاص للذات (بشارة صارجي)، ومنهم من واجَه مَعاثر الشرّ بفَيض العطاء المُنبعث من الجود الكياني الذي يختزنه السيّد المسيح(جاد حاتم)، ومنهم من ربط هناء الذّات الإنسانيّة بقدرتها على الاضطلاع الهني بمُفارقات التحقّق التاريخي التي تفرج عنها الحياة في خضمّ الالتباسات التي تغلّف بنى السيرورة الاجتماعيّة المتقلّبة من طور إلى طور في زمنِ ما بعد الحداثة (جان قلام).
نظريّات المَعرفة: يشتمل الحقل الثالث على الاجتهادات التي أنشأها الفلاسفة اللبنانيّون الذين اعتنوا، على وجه الخصوص، بتأصيل المعرفة الإنسانيّة(موسى وهبة، علي حرب، أنطون حميد موراني، مشير عون). يميل هؤلاء الفلاسفة اللبنانيّون إلى اعتماد التاريخانيّة والنسبيّة والانفتاحيّة . فالحقيقة لا يفوز بها الناس في منعزلاتهم المعرفيّة، وصَوامعهم الاختباريّة، ومنزويّاتهم الثقافيّة. فالتاريخانيّة هي السمة الحاسمة التي تمهر كلّ مسعىً لتدبّر الكيانات والموجودات والأشياء والوقائع. وما من سبيل إلى التأصيل المعرفيّ الرصين إلّا سبيل الاعتراف بالمحدوديّة الذاتيّة وسبيل الإقرار بوعود التقابس العِلمي الرصين والتلاقُح الفكري الصادق.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)