… القرطاس والقلم
بول شاوول
> قديماً، كانت هناك آلة كاتبة. لم تكن الشاشة موجودة بعد. الورق يتداخل مع الحديد والمعدن. كبار الأدباء، وبخاصة الروائيين، استخدموا الآلة الكاتبة، غير أنّ طبيعة الاستهلاك في العالم الجديد (العولمة) تعتمد في شكل أساسي على الإلغاء، وهنا تكمن المشكلة. الكمبيوتر ألغى الآلة الكاتبة مثلما ألغت المكواة الكهربائية مكواة الفحم مثلاً. هكذا بدأنا نفتقد الأشياء تباعاً، قلم الرصاص والممحاة والمبراة والدواة والكاسيت والفيديو… كأنّ العالم يُستبدل. إنه زمن الانقراض والزوال، والأدقّ قولاً زوال الجماليات. الكتابة على الشاشة تُفقد الكاتب جماليات الخط، لتصير الخطوط كلّها متشابهة، ولا تعبّر عن روح صاحبها، في وقت أن الخط العربي يعدّ من أجمل الخطوط العربية ويشكّل جزءاً من اللوحات والمنمنمات وما الى ذلك.
مع هذا، أنا لا أعترض على الكمبيوتر، وليس لي حقّ الاعتراض، وإنما أنا متمسّك بالورقة والقلم. لا أستطيع أن أكتب على الشاشة، لا الشعر ولا حتى المقالة. لا أتخيّل نفسي أكتب من دون أن أشطب وأضيف وأحذف. الشعر عندي يعني امّحاء، وأنا أحب أن أرى هذا الإمّحاء أمامي.
حين عملت في وكالة الأنباء الفرنسية، بدوام ثماني ساعات يومياً، كان مطلوباً منّا الكتابة على الكمبيوتر. تعلمّت عليه وصار جزءاً من عملي، لكنني لم أحبّه يوماً. كنت أطفئ سجائري في لوحة المفاتيح كمن يُطفئ غضبه، إلى أن قررت في صباح يوم باردٍ ومشمس أن أقدّم استقالتي من العمل بعدما رأيتُ رجلاً يتمشى بحرية مع كلبه على الكورنيش. كانت الطبيعة تدعو عينيّ الى التأمل وقدميّ الى المشي ورئتيّ الى التنفس. وبعدما دخلت قاعة العمل، وجدت، كما المعتاد، أربعين جهازاً أمامي، فأخذت أحدّق بها كأنني أتحداها. ومن ثم تناولت ورقة بيضاء وقدّمت استقالتي الى فؤاد نعيم، مدير الوكالة بفرعها العربي حينذاك، وكتبت له: «لعنة الله على الكونسول (الكلمة التي نستخدمها لجهاز الكمبيوتر)».
منذ سنوات طويلة وأنا أكتب على الورق الأبيض، وبالقلم ذاته. الورقة والقلم هما جزء من عالمي المحاصر بالحميميات: فنجان القهوة، السيجارة، الرصيف، المقهى… بصراحة، أنا لا أحتمل أن أمشي من دون كتب وصحف ومجلات. أن تطير مني الأوراق وألحق بها، أن تتبعثر كتبي وأعيد ترتيبها، أن أخاطب الورق وأشمّه، أن أتأمّل في بياضه وأغرق فيه… وعلى رغم ذلك، يظلّ الإنترنت وسيلة معرفية ولكن لا أجد نفسي فيها. وهذه ليست ايديولوجيا أدعو اليها انما مزاج خاص، تماماً مثلما أتمسّك بالسيجارة وإن كنت لا أدعو الى التدخين. لكنّ السيجارة هي سيرتي، تماماً مثلما الورقة هي ايضاً سيرتي الحقيقية.
سلوى بكر
> أنا من النمط القديم الذي تربطه علاقة قوية مع القلم، ولا يستطيع ممارسة الكتابة من دونه، على رغم أنّ الكتابة عبر الوسائط التكنولوجية الحديثة توفر وقتاً كبيراً، ولكني لا أمارس الكتابة عبرها. أنا أكتب حتى الآن على الورق وأظن أن الكتابة على الورق تتيح امام الكاتب فرصة التأني والتفكير، ذلك لأن رسم الكلمات بالقلم يعتبر أمراً مختلفاً. لذا فإنني لا أحب الوسائط الحديثة ولا أتعامل معها. أفضل أن أرسل خطاباً إلى أحدهم، ولكن في شكل ورقي، أما إرساله في شكل إيميل مثلاً، أو رسالة على فايسبوك، فلا يروق لي. طقوس الكتابة عندي أجمل بكثير عند التعامل مع الورق. أراها أكثر إمتاعاً للكاتب عموماً. أتخيل فكرة استقبال خطاب ورقي يبعث به أحدهم ولحظة فضّ الغلاف، والرغبة في الاحتفاظ به كذكرى جميلة تدل على شخص ما، ترجع الى قراءة ما خطَّت يداه في وقت سابق وكيف رسم كلماته على طريقته الخاصة. قد يرجع ذلك إلى كوني آتية من جيل بعيد. قد أكون مخطئة وقد أكون على صواب بسبب احتفاظي بموروثات قديمة شكلت وعيي.
علوية صبح
حتى الآن ليست لدي أية علاقة بالكمبيوتر وعالمه. مازالت طقوسي في الكتابة على ما هي عليه. حتى الدفتر الذي اختاره هو نفسه، والقلم ايضاً. أشعر بعدم الأمان إن تغيّر أي شيء في طقوسي اثناء الكتابة، فأنا من الناس الذين يألفون عاداتهم، ولا سيما في ما يخص طقس الكتابة. وحتى الآن، أحس بأنّ لديّ رهاباً من الإلكترونيات. أشتغل اليوم على رواية بالطريقة التي اعتدتها منذ زمن، أدوّن على الورق ثم أشطب وأحذف ثم أعيد الكتابة مرّة جديدة وهكذا. وأنا أعلم جيداً أنّ الكمبيوتر يوفّر علينا كثيراً من الوقت، من حيث نقل المقاطع أو تعديل الكلمات أو الإلغاء. لذا قد أتعلّم الكمبيوتر بعد الفراغ من هذه الرواية، عسى أن استخدمه في العمل المقبل. أما الآن فيصعب عليّ تغيير طقوسي قبل أن انتهي منها. أحياناً، أطرح هذا السؤال على نفسي. هل يمكن فعلاً أن أدخل هذا العالم؟ هل تسحرني الشاشة أكثر من الورقة؟ لا أعرف. ولكن ما أنا متيقنة منه تماماً أنني أحتاج أن أغرق في إلفة الأشياء كي أشعر بالأمان، وهو شعور أحتاجه كثيراً خلال رحلة الكتابة. فأنا أخاف التغيير. أعشق الورقة والحبر الذي ينسكب عليه من دون أي جدار أو مسافة. فالورقة البيضاء والقلم جزءآن من تفكيري وجسدي. هكذا أنا. ربما تقولين إنني مازلتُ على الحطب.
سعيد الكفراوي
> أنا من جيل ورقي. لم نعرف سوى الورق وبسبب علاقتنا الطويلة به أصبح أساساً لمهنتنا وعنواناً لها. شخصياً؛ أستخدم التقنيات الحديثة في إرسال رسالة أو إجابة عن سؤال، أما أن أجلس وأكتب نصاً أدبياً على تلك الوسيلة فلم يحدث بعد، وحتى الآن علاقتي بها مثل علاقتي بالرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب. أنا من جيل تربى على الورق وعلى قراءة الكتاب. أمضيت أكثر من نصف قرن على تلك الحال، ولهذا تصيبني التقنيات الحديثة بالرعب. نحن عجائز، والعجائز أبناء الماضي، والماضي لم يعرف تلك الوسائط التي نرى أنها تهمشنا وتهشمنا. أحياناً أكتب نصاً وأضعه على صفحتي ليقرأه الناس، وأدهش حين أجده متداولاً على صفحات أصدقاء فايسبوك، من دون تدخل مني، فأتركه كما هو، إلى أن أتحمس لكتابة نص آخر، بالطريقة ذاتها.
عبدالمنعم رمضان
> «لا علاقة تربطني بالتكنولوجيا على الإطلاق. أنا متخلف جداً في هذا الأمر، لا أعرفها ولا أجيدها ولا أتعامل معها مطلقاً. أنا عاشق للورق، فهناك ألفة وعلاقة حميمة تربطني بالورق وأخشى زواله، في الوقت الذي تستفحل الوسائط الحديثة. مثلاً، صار موقع فايسبوك مزرعة لإنتاج الفاشيين؛ أنت الآن تكتب رأيك على صفحتك الشخصية فتجد شخصاً لا يروق له ما كتبت ويختلف معه، فيقوم بعمل «بلوك» لك فلا تصبح في قائمة أصدقائه، هكذا ببساطة وفي يسر تام. في الأمر خطورة كبيرة لأن مثل هذا التصرف يشي بعدم تقبل الآخر وتعصب للرأي الواحد فمن ليس معي فهو ضدي بالتأكيد. الأمر يختلف عندما يتعلق بالكتابة في الصحف والنشر الورقي؛ فأنا أكتب مقالة مثلاً أهاجم فيها كاتباً ما، فينشر كاتب آخر في العدد التالي مقالة يفند فيها رأيي وينقده. هنا، لم أحرمه من إبداء رأيه كما أنه لم يفعل. النشر الورقي والكتابة الورقية تجعلك تتقبل الآخر تدريجياً. أجد كل يوم، شخصاً يخبرني أنه قام بعمل «بلوك» لآخر بسبب اختلاف في الرأي، فاستنتجت رأيي هذا، حيث صارت الوسائط التكنولوجية الحديثة وعلى رأسها الإنترنت بمثابة مزرعة للفاشيين. أنا أعتبر أن النشر الورقي والصحافة الورقية مكاناً لمنع الفاشية، في حال كونها صحافة حرة. في مجتمع فاشٍ مثل مجتمعنا تديره سلطة فاشية، لا بد أن ينعكس الأمر عليك كفرد محدود، فتصبح صورة للفاشية العامة التي تجتاح مجتمعك.
صحيفة الحياة اللندنية