القصة التي أخفيتها عنكم: حكاية الليرة التي سرقتُها!
القصة التي أخفيتها عنكم
“يجب أن أذهب إلى السينما مهما كلّف الأمر”
ذلك الهاجس شغلني كثيراً، وأنا قد تجاوزتُ العاشرة من عمري. والذهاب إلى السينما في ذلك الوقت كان يحتاج إلى (60 قرشاً) ثمن تذكرة الدخول، إضافة إلى (10 قروش) أجرة ركوب في باص الشيخ محي الدين ذهاباً وإياباً. وكان الفيلم الذي أود حضوره يعرض في سينما القاهرة، وتقع بجوار سينما أمير المغلقة حالياً، ولحسن الحظ خفضت سينما القاهرة تذكرة الدخول إلى (35 قرشاً). ومع ذلك من أين أحصل على هذا المبلغ الكبير؟
في الساعة الخامسة مساء، وصل إلى بيتنا عدد من أقاربنا، فجلسوا في قاعة الضيوف، وخلع أحدهم الـ(جاكيت)، وعلّقها خلف الباب، وعندما طلب أبي من ضيوفه، الخروج للجلوس بجوار البحرة تحت شجرة البرتقال الوارفة، راودتني نفسي على تفتيشها ، فوجدت فيها (ليرة فضية واحدة) ، وبعد تردد أخذتها، وارتديت ثيابي، وذهبت إلى السينما، فدخلت الفيلم، ثم تناولت نصف أوقية من الكنافة النابلسية الطيبة، وثمنها (40 قرشا)، واشتريت موالح بعشرة قروش، وعدت إلى البيت سيرا على الأقدام، وبقي في جيبي ثلاثة فرنكات.
كنت أعرف أن ما قمتُ به هو سرقة مع سبق الإصرار، وقد أوقعتني هذه القناعة بعقدة ذنب لم أتخلص منها إلى الآن!
في المدرسة، سمعت الأستاذ يتحدث عن السرقة، فأورد حديثا يقول :
ــ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .
وكنت قد سمعت عن صيحة ابي ذر الغفاري : عجبت لرجل جاع ولم يحمل يسيفه، فوقعت في حيرة، ففي هذه الصيحة لا يوجد حديث عن السينما، بل عن الجوع . فقررتُ: إذا يجب أن أعيد الليرة !
فكّرت بأكثر من طريقة لتجاوز المحنة، ومن بين تلك الطرق، أن أنتظر عودة ذلك الرجل الضيف، وأحكي له قصة مختلقة مفادها أنني وجدت ليرة فضية ذات يوم، في الغرفة التي علّق فيها الـ(جاكيت)، وأنني صرفتها دون أن أسأل عن صاحبها، وأسأله عما إذا كانت له، ثم أعيدها له، وبذلك أحقق هدفاً مهماً بالنسب لي هو أنني لم أقم بالسرقة ، لكني لم أفعل لأن الرجل لم يعد يأتي لزيارتنا!
مضت عدة أشهر والرجل انقطع عن زيارة أبي ، ثم مضت سنة ثانية ثم سنة ثالثة، وكنت قد بدأت العمل في العطلة الصيفية، وكان يمكن أن أحتفظ في جيبي بليرتين أو أكثر، أي أن بإمكاني إعادة الحق لصاحبه.
في السنة الثالثة، زارنا الضيف نفسه، وكان وحيداً، وانتظرت أن يخلع الـ(جاكيت) لأعيدَ الليرة التي سرقتُها إلى الجاكيت، فلم يفعل. ظل جالساً في غرفة الضيوف، ولم يدعه أبي للخروج إلى باحة البيت والجلوس بجوار البحرة كما حصل أول مرة.
وقعت في الحيرة، فأبي كان يكرر الترحيب به، وأنا أجلس بجواره ، أفكر في الحل، وفي الوقت نفسه أراقب الرجل، وأتمنى أن يقوم بخلع الـ(جاكيت) لأسارع فأعلقها بعيداً عن عينيه، لعلي أتمكن من رد الليرة إلى مكانها، ومع ذلك تشبث الرجل بملابسه، ولم يخلع حتى الحذاء الذي في قدمه!
خرجت من الغرفة، جلست عند البحرة، وقلت لأبي :
ــ لماذا لا تجلسون هنا عند البحرة؟
فرد أبي من داخل غرفة الضيوف التي كان بابها مفتوحاً :
ــ والله فكرة !
فجاء رد الضيف حازماً :
ــ كل مطارحكم بركة. لا بأس فالجلوس هنا يريحني أكثر!
ولم تنجح خطتي، فعدتُ إلى غرفة الضيوف، ورحت أنصت إلى الحديث الذي يدور بين أبي وضيفه، وأفكر في الأمر، لعلني أجد فرصة مناسبة لأقوم بما نويت فعله .
وفجأة نادتني أمي :
ــ تعال خذ القهوة !
نهضت بحماسة، وكأني وجدت الحل: “سأدلق القهوة على الضيف”.
حملتُ صينية القهوة، واقتربت منه، وافتعلت حركة تعثرت إثرها، فوقعت فناجين القهوة، لكن القهوة لم تصب ثياب ضيفنا، فخجلت، وأعدت الفناجين لأمي لتعيد إعداد قهوة جديدة.
بعد نحو ساعة ونصف همّ الضيف بالخروج، وحاول أبي إبقاءه، دون فائدة، وعندما وصل إلى الباب، لحقت به، وأخبرته أنني وجدت ليرتين في الكنبة التي كان يجلس عليها، وقدمتهما له، فجمدَ الرجل في مكانه، وكأنه استعاد الحادثة القديمة، فمن أين جاءت الليرتان إلى الكنبة، وربما لم يكن معه مثل هاتين الليرتين أصلاً، وبعد لحظات تصرف بذكاء، فمد يده إلى جيبه، وبحث قليلاً ، ثم قال:
ــ لا . أنا لم يكن معي سوى ليرة واحدة ، فمن أين جاءت الثانية؟!
وضحك فضحك أبي معه وهو يعلق مازحاً:
ــ زيادة الخير خير.
أعاد الرجل الليرتين لي، وقال والابتسامة على وجهه:
ــ ليرتي لك، والثانية لصاحبها!
ولم يأخذ مني شيئاً.
ومنذ ذلك الوقت، عادت زياراته إلى بيتنا تزداد، وصار يعلق الـ(جاكيت) في الغرفة دون خوف، ويقول لأبي : ما رأيك بالجلوس عند البحرة؟!