نوافذ

القصّةُ تُكتَب قبل أن تُروَى

اليمامة كوسى

بخطٍّ عريض، وبوضوحٍ لا تشوبهُ ذرّةُ غباشة، تجهّزُ الأقدارُ ما ستكتبهُ على أغلفةِ قصصنا التي لم تُروَ بعد، لتكون جاهزةً للطّباعة والنّشر قبل أن نولد.

أفكّر في كلّ مرّة أفتحُ فيها حبّةَ مشمش بتلك البذرةِ الصغيرةِ التي تقبع داخلها، هل تستطيعُ أن تعي يا تُرى مسار رحلةِ حياتها الكامل، منذ أن كانت تصارعُ الظّلمة في أعماق الأرض إلى أن أصبحت بين يديّ الآن؟!

تبدأُ تلك الرحلة في أحضان تربةٍ ما، قد تكون خصبة وقد لا تكون، يبذرها فيها شخصٌ ما، قد يكون مؤمناً بأنّها ستصبح شجرة كبيرة، وقد لا يكون. لكنها في جميع الأحوال تبدأُ بتشكيل جذورها مع مرور الأيام وتأخذ بالتمدّد في عمق الأرض شيئاً فشيئاً، تتشابكُ مع بعضها البعض ومع ما حولها من كلّ الجهات، قد يكونون من ذات نوعها، وقد لا يكونون. تغذّي نفسها من مغذّيات تلك التربة التي قد تحمل لها رسائل حبّات المطر الحنونة، وقد لا تفعل.

ثمّ يأتي ذلك اليوم الذي قد تكون قد فكّرت فيه وانتظرته طويلاً، وقد لا تكون. ذلك اليوم الذي تشعرُ فيه بدفءِ أشعة الشمس وهي تُخرِج رأسها من تحت الأرض إلى النّور، وقد لا تشعر. يبدأُ حينها فصلٌ جديد من حكايتها الخاصّة التي تشبهُ حكايات كل البذور التي مرّت على الأرض، لكنّها لا تشبهها في ذات الوقت.

ها هي تبدأ بالتحوّل إلى شجرة، تكون أغصانها رقيقة في البداية ثمّ تقسو يوماً بعد يوم، يأخذ طولها بالازدياد تدريجياً فتستطيع أن ترى ما حولها بصورة أفضل، وقد لا تستطيع. تجدُ من يسقيها ويعتني بها ويحدّثها كل يوم، وقد لا تجد. لكنها في كلّ الأحوال ستنمو وتكبر.

يوماً بعد آخر، تكتشف بأنّ العالم من حولها يتحرّك وليس كما اعتقدت من قبل، هي تشعر بتحرّكه كما تشعر بتحرّكها أيضاً، أغصانها تهتزّ وتمتدّ في الفضاء وجذورها تضرب عمق الأرض بقوّة.

ها هي الآن أصبحت شجرة، شجرة كبيرة بعد أن كانت بذرة صغيرة، قد تشعر عندها بأنها جزء من هذا الكون الشاسع، وقد لا تشعر. ومع مرور الوقت تأخذ ثمارها بالنمو إلى أن تصبح ناضجة تحملُ في داخلها جزءاً من نسخةِ الحكاية. تلك الثمار قد تكون حُلوة ومتناسقة في شكلها ولونها، وقد لا تكون. لكنها في جميع الأحوال تمثل تجارب مميّزة في الإيناع ولا ثمرة تتطابق مع جارتها تماماً.

وفي النهاية، كل ثمرة ستتنقّل بين أيادي عدة أشخاص، وقد تتنقّل بين يدي شخص واحد. سيقطفونها ويبعدونها عن شجرتها، قد يتمّ ذلك بلطف، وقد لا يفعل. قد يحملونها إلى مكان آخر يبعد كيلومترات عن مكان بدء رحلتها، وقد لا يفعلون. لكنّها في نهاية المطاف ستكون بين يدي شخصٍ واحد، واحد فقط سيفتحها وينزعُ بذرتها. قد يفكّر في مدى إذهال الحكاية وبأنّ تلك البذرة الصغيرة بدأت في كفّ مَن بذرها وانتهت الآن في كفّه، وقد لا يفعل. لكنه في حميع الأحوال سيأكلها، وسيستمتع بتجربة مذاقها.

وأمّا تلك الثمرة فقد تفهم بأنّ في داخلها بحرٌ هائل من الإمكانيّات، وقد لا تفهم. وقد تفكّر بأنّها تقدّم لأحد آخر شيئاً جميلاً يحملُ طاقةً وحبّاً، وقد لا تفكّر. لكنّها في جميع الأحوال ستعودُ يوماً ما إلى تلك التربة، لتكون بذرةً صغيرة من جديد، تزرعها الأقدار بعناية، وتكتبُ لها قصّتها التي لم تُروَ بعد، حتّى قبل أن تُولَد!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى