الكاتب والناشر الذي لم يشح بنظره عن فلسطين: زياد منى مثقّف شجاع
أغمض الناشر الفلسطيني زياد منى (1950 ـــ 2022) عينيه في دمشق، وطنه الثاني، التي تمسّك بالإقامة فيها في عزّ الحرب رغم توافر الخيارات أمامه. انطفأ الناشر والمثقف النقي والكاتب والباحث في التاريخ القديم والدراسات التوراتية، في «مستشفى الأسد الجامعي» بعد مسيرة فكرية غزيرة، كانت بوصلتها دوماً فلسطين التي لم يشح بنظره عنها لحظةً واحدةً. مثقف موسوعي نال شهادة الدكتوراه في مجال الفلسفة من «جامعة لايبتزغ» الألمانية، ثم واصل أبحاثه في «جامعة هومبولت» في برلين في مجال الدراسات التوراتية، وكان صديق كبار الكتّاب والناشرين في العالم. مع عودته إلى دمشق، أسّس «دار قدمس»، في موازاة حضوره النوعي الكثيف فوق صفحات «الأخبار» خلال كل هذه السنوات ناقداً وقارئاً ومناقشاً. ورغم المرض وصعوبة العيش في بلد تحت نير الحرب والحصار، ظلّ صامداً بقوّة الإرادة وتفاؤلها، مواظباً على الإنتاج الفكري، أكان فوق صفحات الجريدة، أو في مشاريعه الكثيرة، التي كانت فلسطين شغلها الشاغل
انطفأ أمس في دمشق، زياد منى (1950- 2022)، بعد صراع مع المرض. وكان الباحث الفلسطيني الراحل أحد القلائل الذين اشتغلوا على تظهير صورة فلسطين القديمة، وتخليصها من الأوهام الاستشراقية، والأكاذيب الصهيونية، متكئاً على معرفته العميقة بعلم التاريخ القديم والدراسات التوراتية. إذ أنجز منذ منتصف تسعينيات القرن المنصرم مجموعة من الكتب الإشكالية المهمة، أبرزها «جغرافية التوراة: مصر وبنو إسرائيل في عسير» (1995)، و«مقدمة في تاريخ فلسطين القديم» (2000)، و«تلفيق صورة الآخر في التلمود» (2002). وقد أثارت معظم كتبه جدلاً واسعاً، خصوصاً كتابه الأول الذي تناول فيه جغرافية التوراة انطلاقاً من أطروحة كمال الصليبي «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، هذه الأطروحة التي زلزلت الأفكار المستقرة عن تاريخ فلسطين القديمة. فأرض التوراة ـــــ بحسب هذه الأطروحة ـــــ كانت في عسير وليس في فلسطين وأصل بني إسرائيل ليس اليهود، فهؤلاء شيء وبنو إسرائيل شيء آخر، معتمداً على منهج التحليل اللغوي، ودراسة النقوش القديمة، والبحث في معاني الكلمات وليس على الأسطورة، عن طريق قراءة النصوص الأصلية باللغة العبرية أو الآرامية. يقول زياد منى باطمئنان الباحث الرصين: «لا نحتاج إثباتات لتأكيد حق الفلسطينيين بأرضهم فلسطين، وعندما يتعلق النقاش بتاريخية هذه المنطقة من العالم، فإن موقع الدولة العبرية يكون بالضرورة خارج هذا النقاش، انطلاقاً من أن هذه المجموعة من الصهاينة أتت إلى فلسطين واغتصبت الأرض وهجرت الشعب الذي سيخرجهم منها في يوم من الأيام ويعيد لتاريخ المنطقة وجهه الحقيقي». هذه النظرة الراسخة، سوف تواكب اشتغالات صاحب «بلقيس لغز ملكة سبأ» مثل بوصلة لا تحيد عن جهة القدس، رغم محاولات ملفّقي التاريخ إزاحتها عن الهدف، لقناعته الأكيدة بأن روايات الآخرين محض تزوير لحقائق تاريخية وعلمية دامغة لا تمسها العواطف.
هكذا انخرط زياد منى في متاهة التاريخ، بعدما هجر دراسة إدارة الإعمال لمصلحة الفلسفة في «جامعة لايبتزغ» الألمانية، مقتفياً أثر كمال الصليبي في دراسة التوراة ضمن سلسلة من الحوارات التي أجراها معه، ورصانة جواد علي في قراءة التاريخ. «أنا حيادي اتجاه الحقائق العلمية» يقول. ولتمكين موقعه كباحث وناشر، أسس قبل نحو عقدين مع شريكه زياد أسرب «دار قدمس» التي اعتنت بتوثيق تاريخ المنطقة، وتفكيك أساطيرها برؤية نقدية رصينة. إلا أن صعوبات متعددة أدت إلى توقّف «قدمس» عن النشر أخيراً. عدا اعتنائه بقراءة التاريخ، خاض زياد منى سجالات كثيرة في محاولة منه لتصحيح الصورة المهتزّة للقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى قراءات معمّقة للكتب الإشكالية المكتوبة بلغة الآخر، فوق صفحات ملحق «كلمات» في «الأخبار». بغيابه سنخسر باحثاً نوعياً لطالما عمل على مواجهة المواقف المزيّفة والآراء السطحية والمراوغة التي تقع في باب الأذى لقضيته المركزية فلسطين بجرأة نادرة. لم يعد زياد منى إلى القدس كما كان يحلم، وشيّع جثمانه من مستشفى الأسد الجامعي، ليدفن في «مقبرة نجها» في ريف دمشق.
المنقِّب في حضارات المنطقة
يتحدّث صاحب «دار الفرات للنشر والتوزيع» في بيروت الباحث عبودي أبو جودة عن زياد منى، الذي جمعته به صداقة شخصية وتواطؤاً فكرياً. يقول أبو جودة: «زياد منى ولد في القدس، ولطالما كان يشدّد على هذه النقطة. والده كان يعمل في ليبيا بعد عام 1949. ذهب زياد إلى الأردن في أوائل السبعينيات حيث انتمى إلى حركة «فتح»، وشارك في الدفاع عن المقاومة. مع تأزّم الأوضاع في الأردن، انتقل إلى بيروت حيث واصل النضال، وكان مسؤولاً في المكتب الإعلامي المركزي حتى أواخر عام 1977 قبل أن ينتقل إلى ألمانيا لمواصلة دراسته الجامعية». يعدّد أبو جودة اشتغالات منى الفكرية التي كان هاجسها فلسطين: «درس اللاهوت المشرقي، ثم انتقل إلى الحضارات القديمة في المنطقة. في أوائل التسعينيات، عاد إلى دمشق ليتخذها مقرّ إقامته الدائمة وحضناً لمشروعه العزيز على قلبه. في عام 1999، أسس «دار قدمس» التي اهتمّت بالدراسات الحضارية والثقافية عن المنطقة، وإعادة توضيحها بشكل سليم وعلمي ودقيق. نشر منى باللغة العربية كتاب العالم توماس طومسون (الماضي الخرافي/ التوراة والتاريخ) الذي نقض النظرية التوراتية بالكامل. هذا ما كلّف زياد توقّف الجامعات التي كان يعلّم فيها، عن التعاون معه. نشر منى العديد من الدراسات الهامة من بينها دراسات كمال الصليبي عن حياة المسيح، والدراسات اللاهوتية القديمة، إلى جانب كتبه الخاصة عن الحضارات القديمة وتاريخ فلسطين.
مؤلفاته
أصدر الراحل العديد من المؤلفات في مجال التاريخ القديم، والدراسات التوراتية من بينها: «مقدمة في تاريخ فلسطين القديم» (2000)، و«تلفيق صورة الآخر في التلمود» (2002)، و«بلقيس امرأة الألغاز وشيطانة الجنس» (1997)، و«جغرافية التوراة: مصر وبنو إسرائيل في عسير» (1995)، و«الأبيونيون وورق بن نوفل» (2001)، و«بلقيس لغز ملكة سبأ» (2004). ومن الكتب التي ترجمها، نذكر «الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني – أمريكا اللاتينية جنوب إفريقية فلسطين» للأب مايكل برير، فيما راجع كتباً عدة من بينها: «النهايات: الهوس القيامي الألفي» لديتر تسمرلنغ، «المولوخ إله الشر – تاريخ الولايات المتحدة» لكارلهاينتس دشنر، و«معركة القادسية، معركة اليرموك، معركة هليوبوليس».