الكتابة السياسية الجديدة في سورية : خمس مقالات تصلح برنامجا لحزب سياسي !
قليلة هي الكتابات الصحفية في سورية، التي تطرح أفكاراً سياسية وتخرج عن طريقة الثناء على أفكار أخرى وإطراء مواقف سائدة، فالكتابة السياسة الناقدة والهادفة تكاد تنقرض، ليس بسبب الخوف من السلطات، فالسلطات لم تعد تهتم بهؤلاء، ولا حتى تضحك في وجوههم لكثرتهم، بل لأن الحكومة السورية وجدت أن من الضروري أعادة فتح مقر صحيفة ” الأيام ” بعد ساعات من قيام محافظة دمشق بختمه هذا المقر بالشمع الأحمر، رغم أن نسبة المقالات التي تنتقد الحكومة وتكشف عن مظاهر الفساد فيها كبيرة جدا.
ومنذ عدة أشهر، شرعت الكاتبة والصحفية ديانا جبور في كتابة زاوية أسبوعية لها في صحيفة الوطن السورية، وقد نأت بنفسها سريعا عن أجواء كتّاب الزوايا المعتادة ، وتناولت مقالاتها موضوعات ساخنة بجرأة وعمق، إلى الدرجة التي تدفع القارئ ليعيد تهجي الأفكار الواردة فيها والتأكد بأنها منشورة في صحف سورية..
إن العودة إلى مجموع ما نشرته ديانا جبور يدفعنا تلقائيا إلى تذكر البرامج السياسية التي طرحتها الأحزاب السياسية التي نشأت على هامش الحرب، فتلك أحزاب لم تأت بجديد على خطاب الجبهة الوطنية سوى أنها تريد أن ترفع عقيرتها تحت اسم (معارضة داخلية)، ولم تحدد مضمون البرنامج المعارض ولا أدوات الوصول إليه، إلى الدرجة أن هناك بعثيين يستغربون خطاب بعض هذه الأحزاب .
وتلك المقالات التي كتبتها ديانا جبور تؤسس لخطاب سياسي عميق يبني على فهم مرحلة كاملة تبدأ من مرحلة الرئيس الراحل (حافظ الأسد) باعتبارها مرحلة تحمل ملامح واضحة من السياسة السورية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، وتنتهي بقراءة جديدة للحرب، مستندة في ذلك إلى عنوان ورد في صحيفة النهار عن وفاة الرئيس حافظ الأسد في وقتها بأنه (الرئيس الذي لم يوقع)..
وفي المقال الأول الملفت للنظر والذي بدأته الكاتبة جبور بالقول : إن الاستسلام لا يضمن السلام.. بل إنني أجزم وأقول إن المهزوم سيطرّز لوحة انتقامه، وسيشحذ سكينه طويلاً، ولو أدى ذلك لأن يتناول وليمة ثأره باردة، وقد يكون هذا هو المطلوب، أي تناول وجبة الثأر باردة.”
وشرحت فكرتها على نحو واضح : ” الانتصار الناجز، لا يكون بالإقصاء بل بالاحتواء، وفيه ما فيه من تقليم أظافر النافرين وتدوير زوايا الحدّيين والحادين، كما تفرضها قوانين الدولة ودولة القانون..”
وفي مقال آخر تقول ديانا جبور: “القانون ولو كان جائراً، أفضل من مزاجية الفرد التي تحدد العقاب والثواب حسب ارتفاع الأدرينالين أو انخفاضه. مع النص القانوني تعرف الحدود، وإن كانت خانقة تستطيع أن تناضل لتعديلها أو حتى لإسقاطها…
البعض يقول دولة القانون، والحق أن لا دولة من دون قانون، وأي محاولة للعب بالقانون على أنه حبل يمكن أن نستخدمه كلعبة ننط فوقها أو تحتها، سينتهي به أنشوطة نعلق فيها مشنقة من لا يطابق أمزجتنا.” وتنتهي إلى القول : ” تحفل حياتنا بأمثلة عن محاولات اختزال الدولة بشخص المتنفذ… الأمثلة نوردها في «نحن البلد… ولاك» !
إن هذه القاعدة عن سيادة القانون التي تتحدث عنها ديانا جبور، مرفقة بوجهات نظر أخرى كما في المقال الذي عمقت فيه وجهة نظرها لهوية المجتمع الذي تطمح إليه، فقد أطلقت فيه تصريحا خطرا في إطار الحديث عن سياسة وزارة الأوقاف وقانون تنظيم عملها الذي أثار ضجة على وسائل التواصل وجرى تعديله قبل إصداره، ومن بين الرفض لذلك القانون هو تشريعه لوجود الداعيات المعروفات ب(القبيسيات)، فقالت أي ديانا جبور: ” من موقعي كعلمانية ومؤمنة بالديمقراطية سبيلا لحل الخلافات وفيصلا يحسم الاختلافات، أعلن أنني لست ضد وجود القبيسيات… أكثر من ذلك أصارحكم أنني معجبة بقدرة هذه المنظمة المدنية – الدينية على فرض الالتزام وتحقيق الانتشار، رغم كل الهالة السرية التي تحيط بعملها.”
ولأنها تعرف معنى ردود الفعل على ذلك، استدركت، بالقول: “قد يبدو الموقف بالنسبة للبعض تناقضا، وأراه انسجاما مع العلمانية، لأنها لا تعني مصادرة النشاط الديني – المدني، ولأن الديمقراطية التي ننشدها تعني مقارعة الحجة بالحجة، وليس اعتماد مبدأ التحريم والإلغاء، خاصةً وأن هذا المبدأ غالبا ما يتيح جاذبية رسولية تغطي على فساد مُمأسس.”
ونلاحظ في آليات التحليل عندها أنها تشير بإصبعها، وبشكل مباشر، إلى وجود عصي تعيق حركة المجتمع والدولة الناهضين بعد الحرب، وتورد مثلا على ذلك ” من يمتهن الكرامة، من يزدري الثقافة، من يسلّع الفن، من يخمد سلاح الإعلام، من يعيق التشارك ومن يحتكر… كلهم مؤدون في رقصة الموت الزاحف…”
وترى ديانا جبور في مقالاتها التي نشرتها صحيفة الأيام فقط أنه “خلال السبع سنوات التي مرت، حاولت تيارات معارضة عديدة أن تشخصن الحرب وتختزلها بأفراد، لكن أصواتا عاقلة أوزن كانت تدحض الادعاء بأن العداء لشخص لا يبرر تقويض المؤسسات، لأنها ملك للشعب ولفائدته.
وتوضح ديانا جبور أنه و“عندما يرفض مسؤول ثقافي، التنوع الثقافي والسياسي بحجة أن لا مكانا للرماديين من النخب الذين قد يتسللون، بعد انعقاد راية النصر خفاقة بفضل الدماء التي بذلت من عامة الشعب… يعني ببساطة أنه قد عجز عن إدراك، وبالتالي تقدير واحترام أن فئة عريضة ممن كانوا بحكم طبيعة الإبداع النقدية والمعارضة لكل ما هو سلبي، قد تساموا عن الاختلاف السياسي في سبيل مصلحة الدولة ومؤسساتها التي يتكفل هو الآن بتخريبها.”
عندما يختزل شخص في موقع التمثيل والمسؤولية السلوك الوطني للفنان أو المثقف بحضوره الفيزيائي داخل سورية ويمنح الصفة لكل من ظل على أراضيها طالما أنه هو شخصيا لم يغادر سورية… يعني إضافة إلى الابتسار والاختزال والتعسف، أنه يريد أن يضمن لنفسه بالإرهاب الفكري حصانة وطنية، تتيح له مواقع وفرص عمل تفوق إمكاناته، وهذا يشبه الابتزاز.”
وفي أبرز نموذج على وضوحها في تناول موضوعات تقض مضجع المواطن والمثقف الطامحين إلى إعادة بناء الوطن على أسس حضارية كشفت عن أن بعض السيدات والسادة الوزراء يستدعون شخصيات فاعلة وناقدة لحوار مفتوح تحت أنظار وسائل الإعلام، وذلك للإجابة عن هواجسهم، أو دحضا ودحرا لملاحظاتهم ومآخذهم.. لكن وقبل أن ينطلق السجال يعلن الوزير(ة)، أن استراتيجية الوزارة رُسمت وأن خطة عملها قد نُفذت بتوجيه من السيد الرئيس..”
وتشرح هذه المسألة ، فتسأل: ماذا تعني هذه الإحالة، وتجيب :
” 1 – إحراج الجموع ووأد الرأي المعارض، بالربط بين شخص المسؤول التنفيذي ومقام الرئاسة، رغم كونه رمزا يجب أن يظل بمنأى عن هذه التجاذبات اليومية.
2 – تحويل الهيئة الرئاسية إلى طرف، مع أنها حكم نحتكم إليه ليفصل في اختلافاتنا بما يخدم البلد بكل ولكل أبنائه.
3 – إن المسؤول لم يقم بما يتوجب لتنفيذ التوجيه بأحسن السبل وأنجاها من الانتقادات.
4 – التنصل من المسؤولية، إذ يفترض بالمؤسسات التنفيذية أنها تتلقى الإطار العام لاستراتيجية الدولة، ثم تضع الخطط الأكثر توفيقية لا تلك التلفيقية، التي تحقق مصالح شخصية أو مصالح فئة على حساب أخرى.
5 – تخفيف هيبة الموقع، إذ يتماهى المسؤول مع مرافقته، فكلاهما يتنصلان من المسؤولية بحجة التوجيهات التي تأتيهما من فوق.
من فوق… ثم يشير بإصبعه إلى أعلى ويرمي برأسه إلى الخلف كما لو أنه يستنجد بمظلة تحميه من المحاسبة والمساءلة”…