البعض يراه عبقريا وآخرون يجدونه مشعوذا أو نصاباً سياسياً، وكثيرون يرون أنه مجرم حرب أفلت من العقاب. ورغم كل ذلك، فإنه وهو يتقدم بالعمر من المائة سنة وعلى حافة موته فكر وبحث وكتب في موضوع مهم لمستقبل للإنسانية ألا وهو الذكاء الاصطناعي. انه هنري كيسنجر الذي لم يرض أن يموت الا بعد أن ينهي أخر كتبه الذي يدرس فيه مستقبل الإنسانية في ظل الذكاء الاصطناعي، والذي يصدر في هذه الأيام. هل يمكننا أن نسمي ما فعله في حياته وطيلة عمره بأنه (حكم العالم من خلال الكتابة)؟؟ أم علينا فقط أن نعتبر أنه مثال للتصميم على (الكتابة حتى الموت)؟؟ وكم في الكتابة والتفكير من قوة سيطرة وتحكم في مسار العالم؟؟ وكم يمكننا أن نفهم ونتعلم من هذا المعنى للكتابة الفاعلة حتى بعد الموت؟؟؟
هنري كيسنجر عنون الكتاب بـ (جينيسس: الأمل والروح الإنسانية). جينيسس تعني (التكوين). وكأنه أراد أن يقول في العنوان أن الذكاء الاصطناعي سيكون بداية عصر جديد وربما سيشكل (التكوين المتجدد للإنسانية). وعندما يربطها بالأمل والروح الإنسانية كأنه يخبرنا أنه وضع بحثه ليساعدنا على جعل الذكاء الاصطناعي أمل جديد للروح الإنسانية. وهذا ما دفعه لبحث التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي والأعمال التي يحققها للإنسانية كي نتلمس طريقنا مع هذه التقنية المكونة للعصر الجديد وفق كيسنجر.
يرى كيسنجر في الكتاب أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعمل على تحسين الحياة الإنسانية عبر الإسهام في تطوير الطب والمعالجات وعبر تسهيل وتحسين أساليب الزراعة وتطوير الصناعات. كما يمكن أن يكون أداة لتعزيز الإبداع البشري في كافة المجالات وفي اكتشاف أفكار جديدة، خاصة إذا عرف الإنسان توظيف التعاون بين الجهد البشري وبين التقدم التقني. كما يمكن أن يحد من انطلاق الإنسان ويضيق أفقه ويلجم تطلعاته إذا ركن هذا الإنسان إلى الكسل في الاعتماد على التقنية كليا.
من جهة أخرى فإن المخاطر والتحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي كبيرة. حيث يمكنه أن يتحول إلى أداة قوية في الهجمات السيبرانية، ويزيد من مخاطر التصعيد في النزاعات والحروب. وخطره هائل إذا استحوذت عليه جماعات إرهابية. كما يمكن للهجمات الإلكترونية أن تعطل اقتصاديات الدول، وأنظمتها الأمنية، بشكل سريع. وأبشع مخاطره، انه يمكن أن يعطي للحكام بعض القرارات غير المفهومة فيدفعهم للتسبب في نتائج كارثية. وهكذا فقد يكون له تأثير سيئ على الديمقراطية، وعلى سيادة البشر على قراراتهم. ويمكن أن يهيئ لتراجع الفكر النقدي والبحث الجدلي. كل هذه المخاطر والتحديات تجعل من الضروري توفر ذكاء إنساني قادر على التعامل مع تقنية هذا الذكاء الاصطناعي كي يعمل في إطار خلق وتحقيق وتوفير الأمل للروح الإنسانية بحق حسب كتاب كيسنجر.
استعان كيسنجر لتأليف كتابه بتقنيين اثنين هما: اريك شميدت و كريج موندي. ساعداه في المسائل التقنية والاقتصادية، ووفرا له كل المعلومات والحقائق التي ساعدته على بحثه الفلسفي السياسي والاستشرافي للذكاء الاصطناعي كسلاح تكوين للإنسانية في قادمات الأيام. يبدو ان كيسنجر لم يمت وهو يكتب فقط. بل مات وهو يحاول أن يتحكم ويحكم العالم عبر وضع استراتيجيته للذكاء الاصطناعي الذي يقوم بتكوين وربما بحكم العالم. من هنا يمكننا فهم معنى الكتابة التي مارسها كيسنجر ومات وهو متمسك باستمراره بممارستها حتى بعد موته.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة