للمخرج الفلسطيني السوري المثنى صبح حكاية قديمة مع الوجع، حفرت في وجدانه وتركت أثرها في ذاكرته. تلقّى صفعة القدر الأولى، ولم يكن قد أكمل عامه العاشر، حين فقد شقيقه الوحيد. ثمّ تتالت سبحة القدر، ليفقد والده وهو في الثالثة عشرة من عمره، ثمّ خطف السرطان أخته الوحيدة، وأخيراً والدته التي لم يعرفها إلا متّشحة بالسواد. لم يفارقها لون الحزن حتى غادرت الحياة، بعد إصابتها بمرض عضال أفقدها صحّتها، وأدخلها في غيبوبة. فكّر صبح حينها في إنهاء حياته بالتوازي مع رحيل آخر فرد من أسرته، لكن فجأة استيقظت والدته من غيبوبة طويلة، وبطريقة دراماتيكية ثبّتت نظرها في عينيه، وقالت له بلكنتها الفلسطينية: «اسمع ولاه… أنا خلّفت رجال أوعك تخذلني». في اليوم نفسه، كان على صديقه الكاتب عثمان جحا أن يشقّ ظلام الليلة الماطرة لينجز مراسم جنازة الوالدة، بعدما كتبت نعيها بيدها، قبل أن ترحل، وأوصت بألا يُسقط النعي اسم أحد من أقاربها. هذه الصور الحياتية الموغلة في القسوة شكّلت جزءاً من وعيه وذاكرته، وبنت مخيّلة، سيُعاد تكرارها على مستوى اللغة البصرية التي يشتغل بها صاحب «على حافة الهاوية» (كتابة أمل حنّا)، فيخطف لبّ الجمهور، ويحصّل مكانة متمايزة عن غيره. كيف لا وقد سبق أن تدرّج في المهنة حتى تشرّبها، ثم تتلمذ على يدي «شيخ المخرجين السوريين» هيثم حقّي، وتشارك عديد الأعمال مع ألمع الأسماء السورية وهو الراحل حاتم علي! لكن منذ فترة، يعكف صبح على العمل خارج بلاده. صحيح أنّه حقق نجاحات عدة وأثار الجدل، ورمى حجراً في مياه الخليج الراكدة بأكثر من عمل على رأسها «العاصوف» و«من إلى شارع الهرم»، لكنّه كان يبتعد عن جمهوره المحلّي الذي لا تفارقه فكرة العودة لتقديم مواد له! جرّب إنجاز عمل لشريكته القديمة أمل حنّا، لكن الجهة الإنتاجية لم تف بالوعد! مع ذلك ظلّت عينه على دمشق، إلى أن اتفق أخيراً مع الجهة التي لم يشتغل في سوريا إلا معها تقريباً، وهي «سما الفن». هكذا، سينجز مسلسل «خريف عُمر» (كتابة حسام شرباتي ويزن مرتجى ــ معالجة درامية رانيا الجبّان ـــ بطولة: سلّوم حداد، باسم ياخور، عبد المنعم عمايري، قمر خلف، كارمن لبّس، أسامة الروماني، بلال مارتيني، إياد عيسى). اعتاد صبح سحب البساط الجماهيري نحوه في أي عمل يحمل توقيعه، بفضل عنايته بالصورة والمقومات الفنية الجذابة، والتعاطي مع الجمهور بلغة سهلة ممتنعة تجعله ينسجم مع النوع الذي يقدّمه. على سبيل المثال، سبق أن قدّم في «جلسات نسائية» (كتابة أمل حنّا) صيغة بصرية تنافس الدراما التركية، من دون تخلّيه نهائياً عن جوهر الحكاية، والسوية الأدائية لممثليه وتطعيم الدراما المحلية بوجوه عربية مرموقة مثل اللبناني رفيق علي أحمد، والجزائرية أمل بوشوشة. كذلك يُحسب له تبنّيه مواهب شابة في ظهورها الأوّل، ومنحها مساحات لتعزيز ثقتها بنفسها وإظهار مكامنها التجسيدية، خصوصاً أنه واظب على العمل في الشام خلال سنوات الحرب الأولى التي غادرت فيها البلاد طاقات كثيرة محسوبة على صناعة التلفزيون.
على أي حال، فإن مسلسل «خريف عُمر» الذي بدأ تصويره في دمشق قبل أيّام، سيدخل السباق الرمضاني 2023 متكئاً على مخرجه ومجموعة نجوم مكرّسين، وحكاية ملفتة للمحامي عمر الدالي الذي يستفيق ذات يوم على خبر مفصلي يجعله يعيد ترتيب أوراقه بسرعة قصوى، خصوصاً أن العمر لم يعد طويلاً مهما منحته الحياة فرصاً للبقاء. سيستفيد من أنّ وضعه الصحي بات على المحك، فيجري جردة حساب طويلة مع حياته المهنية التي قضاها في المحاكم من دون أن يتمكّن من بلوغ العدل في كثير من المطارح. هكذا، سيبدأ رحلة انتقام طويلة كأنه يريد القول: لقد فشلت مرّات في تطبيق القانون الذي يسري في البلاد، لذا ليس عليّ سوى الاحتكام إلى شريعة الغاب!