المذيعة ، وهي تتذكر قناة تلاقي المتوقفة: طفلة الإعلام السوري كشفت لي السر
خاص باب الشرق
كان ذاك اليوم، ثقيلاً، حزيناً، كئيباً، وقاتماً، هو يوم الأول من أيلول 2016، لا أدري كيف أعطى لنفسه حق ” اللعنة” ليدخل التاريخ، على نقيض أشقاء له اختاروا مناسبات تتسابق في جلب الفرح واستحضار العظمة على تنوعها.
في ذاك الخميس، انطفأت القناة التلفزيونية السورية (تلاقي)، هي لم “تنفخ” نار شمعتها “فرحا” لبلوغها السنة الرابعة!!! “طفلة الإعلام السوري” هكذا كانت تلقب، لم تقو بعد ذاك النهار الأيلولي على تنفيذ طموحها لا بل حلمها “نلتقي .. لنرتقي” ربما كثيرون لم يفهموا العبارة إلا بعد توقف قلب القناة عن النبض، تماما كما لم يستوعبوا للوهلة الأولى اللوحة المرسومة التي وضعها الدكتور ماهر خولي مدير القناة يومها في مكتبه وتقول( نحن .. أنتم)
إنها الحرب اللعينة على السوريين ككل وليست على تلاقي فقط، حرب جعلت أرض الاقتصاد السوري تميد على غير ثبات، المواجهة قرار، وإن ألمنا الثمن، ينتهي المطاف بإغلاق باب التلاقي والسبب المال..
تلاقي لمجرد الحديث عنها، تشعرك بالألفة، تتحسس بأيدي تحتضنك بمحبة، تداعبك بلطف، “تماما كأنها طفلة” وتشاغب وتعلي نبرة الصوت في وجهك إذا أذيتها بتصرف غير محسوب.. إدارتها كانت صارمة، ربما تحاول وضع القناة الصغيرة في العمر الكبيرة في المشروع والطموح على طريق له من التعافي لجروح السوريين الكثير، لذا الخطأ يقابل بحاجبين معقودين غضبا، وللإنجاز ينفرد الحاجبان إيذانا بابتسامة تشجيع.
تلاقي هي من قدمتني إلى الناس، وهي من كشف لي سر الدخول لبيوت السوريين وغيرهم، بعد اتفاق ضمني ما عليها فعله وما المتوجب عليّ فعله.. ليبرم الاتفاق وأظهر كمذيعة لقراءة الصحف ضمن برنامج سياسي “يحدث اليوم” كان يبث يوميا ويتعاقب عليه زملاء لهم من الخبرة ما أهلهم للحوار السياسي.. بعد أشهر قصيرة .. هاتفني مدير البرامج الأستاذ غسان محمد، لتكون الخطوة التالية تقديم الحوار السياسي لبرنامج “يحدث اليوم” شعور جميل ومسؤولية أكبر.. أتذكر وقتها ارتبكت، وقلت للأستاذ غسان محمد “أنا” أجابني بنعم مع ابتسامة عريضة وأرفقها بعبارة أنا واثق منك.. الكلام في وقته يشهر المرء انه أنجز.. دونما أن يدرك أن الرهان عليه كبر، وأن المسؤولية باتت مضاعفة.. اعتبرته تحدي” أعشق هذه المفردة” وقبلت.. حدد يوم لي، وفيه تعرفت أكثر على فريق عمل متعاون جدا، محب، مؤمن بما يفعله ويعرف لماذا يفعل ذلك، فريق من مذيعين ومعدين وفنيين ومخرجين وإدارة، وضع أمام عينه مشروع نلتقي لنرتقي .. دون استفزاز احد.. ، أشهر قليلة جدا، وعرض عليّ برنامج اليوم الثامن،” أسبوعي” لأقدمه أيضا ضمن الإطار السياسي، كان له من الجرأة الكثير، هذه الحالة تخيم على القناة بكل تفصيلات برامجها السياسية والمنوعة والاجتماعية والثقافية.. باختصار ارتقاء بكل مفصل في المجتمع لمرحلة تتلاقى فيها أرواح السوريين، كون الحرب اللعينة “نجحت” في رسم شرخ بين أخوة البيت الواحد فكيف ببلد.. هل تخيلتم المشهد.. عام 2012 كانت ذروة الحرب المقيتة، حصدت ما حصدته من أرواح سوريين على اختلاف الاصطفافات، وأخذت معها روح تلاقي.. ربما الحرب لم ترق لها تلاقي السوريين، وصدعت رأسها عبارة” نحن .. أنتم” ليكون ما كان من دم ودخان أسود والسبحة تطول..
بدقائق لا تتعدى الساعة، كانت تلاقي تجلب عظمة أوغاريت، وعمريت وتدمر وبصرى إلى مائدة المشاهد السوري لتقول له هذه سورية، كانت تزور محافظات ومدن وقرى والحواري، لتعكس بساطة السوري المجبولة بالرجولة، ولتؤكد أن سورية الوطن صورة مصغرة للجنة مغايرة تماما لتلك الجنة الممهد طريقها بالدم ..
بسلاسة مرت الأيام في تلاقي، كنت انتظر اليوم الذي أطل فيه على الناس وأحاور في شأن وطن أنا من صلبه.. بعد الانتهاء من الحلقة كنت اتصل بأمي لأخذ انطباعها في شكل الحوار، ليأتي الرد.. شعرك جميل، لبسك أنيق، الاسوارة لم تكن مناسبة، لماذا لم تستبدليها بساعة.. أضحك بمحبة لكلام أمي، فهي كأي أم تهتم لجماليات ابنتها ودون قصد تغفل التفاصيل الأخرى.. فأنا بطبعي بعد كل حلقة اسأل عن الملاحظات.. أحب النقد لأطور من مهارات التي اكسبها يوميا في العمل الإعلامي، فتلاقي صقلت شخصيتي وجعلت قدماي على أرض متينة وسلمتني مفاتيح الولوج إلى الاستديو إن في تلاقي وأن في غيرها.. استوديوهات هذه القناة كانت ابعد من ديكور خشبي وبعض الأواني ومزهريات الورد، وأعمق من مساحة تقاس بالأمتار لتحديد موقع الكاميرات.. هي كانت مكان ليشعر الشخص بمدى أدمية الإنسان ويتحد مع أخيه مهما اختلفت الرؤى، كمبدأ الاختلاف لا يعني الخلاف وإنما غنى وتنوع وهذا ما دأبت عليه تلاقي وهي تدب لأعوام أربعة حتى جاء اليوم الذي أتمنى حذفه من روزنامة التاريخ.. فاليوم كما بالأمس وكما في المستقبل أحوج لشعار تلاقي .. نحن أنتم ونرتقي لنرتقي.. أربع سنوات على فرط عقد تلاقي إلا أن صوتها ما زال حياً ينبض لا بد من التلاقي ولو بعد حين..