“المسألة الشرقية الجديدة” لجورج قرم: تاريخ يعيد نفسه بقساوة بالغة
كتاب جورج قرم الجديد هو إضافة جديدة للفكر اللبناني والعربي، يعالج فيه عودة المسألة الشرقية التي ظهرت في القرن التاسع عشر كمصطلح يصف ضعف السلطنة العثمانية والإمبراطورية الروسية وصعود القوى العظمى والعصر الاستعماري. وهو هنا يعتبرها مسألة شرقية جديدة يوضحها في الكتاب La Nouvelle Question d’Orient, Editions la Découverte, Paris, 2017.
يواصل جورج قرم في مؤلَّفه الجديد معالجة الأسئلة الكبرى التي يطرحها حول أوروبا والمشرق العربي والتي كتب حولها عدداً كبيراً من الكتب صدرت عن دار “لا ديكوفرت” الفرنسية، ونشرت بعضها مترجمة إلى العربية عن دار الفارابي بيروت. إذ منذ صدور كتابه “الشرق الأدنى المتفجّر” عام 1983، أنتج قرم سلسلة من الكتب تجري في نفس التوجّه الفكري المتنوّر، منها “أوروبا والشرق (1989) و”المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين” (2005) و”أوروبا وأسطورة الغرب” (2009)، وأخيراً صدر أيضاً كتابه المحوري “الفكر والسياسة في العالم العربي” (2015). ويتعمّق المفكّر قرم في كتبه هذه في الدراسة التاريخية ويفكك المصير المؤلم الذي وصل إليه المشرق العربي خصوصاً والعالم العربي عموماً، بمنهاج تحليلي استراتيجي وجيوبوليتيكي يكشف دور الدول الإمبريالية منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم.
لا شك في أنّ ثمّة مئات الكتب صدرت عن “المسألة الشرقية” القديمة وبخاصة صراع الدول الأوروبية على تقاسم أراضي الامبراطورية العثمانية والتي بات اسمها في صحف لندن وباريس “رجل أوروبا المريض” أو “رجل آسيا المريض”. ولكن في كتابه الجديد – الذي فاز بجائزة الأكاديمية الفرنسية عن العام 2018 – يؤكّد قرم أنّ “مسألة شرقية جديدة” قد ولدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) عندما تراجعت الدول الكبرى التقليدية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) وصعدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فيتقصّى دوامة العنف التي ضربت المنطقة العربية والتي لم تتوقف طوال 70 عاماً، بل هي في ذروتها اليوم في حروب سورية والعراق وليبيا وفلسطين واليمن.
يقع الكتاب في 322 صفحة ويضم مقدمة و8 فصول وخلاصة ويشتمل لائحة بالمراجع وجدولاً بالأحداث التاريخية الهامة منذ 1798 (الغزو النابليوني لمصر) حتى العام 2017. فيفنّد في الفصول الثلاثة الأولى الخطاب السائد لتوصيف المراحل منذ الحرب العالمية الثانية وخصوصاً في المنطقة العربية، ليعود في الفصل الرابع ليشرح تفاصيل المسألة الشرقية القديمة. وفي الفصل الخامس يشرح قرم معطيات ومعلومات المسألة الشرقية الجديدة حول زوال الاستعمار وعودة أزمة البلقان ثم الربيع العربي عام 2011. ويفسّر الفصل السادس استغلال الدين للشؤون الاستراتيجية وفي الفصل السابع يكشف أنّ الاقتصاد الريعي هو مصيبة العالم العربي. ثم يقدّم سيناريوهاً في الفصل الثامن عن “النبؤة التي تحقق ذاتها” حول “صراع الحضارات” المزعوم.
في مقدمة كتاب المسألة الشرقية الجديدة، يستعمل قرم مصطلح “الغطرسة hubris” أي الاعتزاز الزائد والإفراط بالفخر والثقة بالنفس. وهو ما تتصف به فعلاً القوى الغربية منذ زوال الاتحاد السوفياتي فاقتحمت الشرق الأدنى بشكل آحادي سافر. ويتصدى هذا الخطاب الغربي المتغطرس والعدائي الأديان الآسيوية العظيمة في الصين واليابان والهند والتي تقوم على الحكمة والأخلاق والتصوف الكوني، وكذلك ديانات التوحيد الثلاث في الشرق الأدنى التي لا تخلو من مبادىء سامية وإنسانية.
يندّد قرم في الكتاب بمنحى حب السيطرة الغالب على سلوك االغرب سواء من ناحية الهيمنة العسكرية (عبر الحلف الأطلسي “الناتو”) أو الاقتصادية عبر التجارة الحرّة وقوانين الاقتصاد الدولي السائد. وحب السيطرة خلق “فوضى ذهنية” في رؤوس أصحاب القرار في أوروبا وفي أميركا وكذلك في وسائل الإعلام الغربية التي باتت تسيطر على الرأي العام العالمي وتعمل دوماً على شرعنة التدخلات العسكرية والاقتصادية والسياسية للغرب في كيانات المشرق والعالم الثالث. وما هذه الاتجاهات الحالية إلا تموضع جديد للمسألة الشرقية القديمة تحت مسمّى جديد هو “صدام الحضارات” يخبّىء الإرث الاستعماري العنصري القديم تجاه المستعمرات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وإحدى نتائج هذه الفوضى الذهنية كانت استشراء دراماتيكياً للإرهاب في المنطقة العربية.
يذكّرنا قرم أنّ ما يحصل اليوم يشبه تطورات بلاد البلقان التي أشعلت الحرب العالمية الأولى عام 1914، في حين أنّ الخطاب الإيديولوجي الخبيث السائد منذ سقوط الاتحاد السوفياتي يبرّر الحملات العسكرية الأوروبية والأميركية. وهو يشبه ذلك الذي سبق الحرب العالمية الثانية عام 1939. فالأزمات المتفجرة في المشرق اليوم إنما تهدد الاستقرار وتنشر الفوضى في العالم. ويشير قرم إلى الغزو الأميركي للعراق واحتلاله لعدّة سنوات والذي قدّر الخبراء الأميركيون تكاليفه بثلاثة آلاف مليارات دولار، ويتساءل قرم لو تم تخصيص نسبة من هذا المبلغ – لنقل 500 مليار – لأمكن تجهيز قوى شرطة عادية كافية لمكافحة الإرهاب وهزيمته في أوروبا وأميركا والعالم الإسلامي. ولم يكن ضرورياً تدمير الأوطان وإرسال الجيوش وترسانات الأسلحة وقتل الشعوب وقمع الديموقراطية والحريات في الغرب نفسه. وعلى كل حال فكل هذه الحروب والنفقات أوصلتنا إلى نتائج مبهمة ولم تهزم الإرهاب فعلاً.
ثم يتساءل قرم كيف أنّ هؤلاء الإرهابيين الذين يرفعون الإسلام عقيدةً ويعلنون سعيهم لإقامة دولة الخلافة في كل المجتمعات الإسلامية، ولكنهم لا يقاومون الغرب “اليهودي – المسيحي” ولا يدافعون عن قضايا محقة بل يكتفون بتوبيخ الغرب على نفسية الحروب الصليبية في تعاطيها مع العالم الإسلامي. والحقيقة أنّ هذا الغرب قد شجّع صعود الدين في العالم العربي لاستخدامه وسيلة هدّامة تكتم حركات التحرّر العربي التي اندلعت عام 2011 وتدفع نحو الفوضى وبخاصة في سوريا. لقد جاء المقاتلون الإسلاميون إلى سوريا عبر أراضي تركيا، العضو في حلف الناتو، ما يفسّر التقاطع في المصالح بين أهداف الحلف الأطلسي والجماعات الإسلامية المسلّحة. كما فتحت تركيا حدودها على مصراعيها لاستيعاب ملايين اللاجئين السوريين ثم فسحت لهم المجال أن يدخلوا أوروبا بدون عائق عام 2015.
يحذر قرم من أنّ الثورات الشعبية التي اندلعت ضمن “الربيع العربي” في نهاية 2010 ومطلع 2011 قد صودرت كما حدث للثورة الإيرانية عام 1979 التي خطفها رجال الدين. ذلك أنّ النظام الذي سيطر في طهران باسم “جمهورية إسلامية” بقيادة آية الله الخميني إنّما سمح لرجال الدين بوضع اليد على السلطة السياسية. وهذه التركيبة كسرت الزخم الثوري الإيراني منذ عام 1979 وحافظت على استقرارها الداخلي لمدّة 38 سنة، ولكن الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل تحاولان دائماً تهديدها. وفي ظروف مشابهة، وقعت الدول العربية في فورة ثورية عام 2011 سمحت بصعود حكومات جديدة. ولكن الحراك السياسي لن يكون له أثر إيجابي طالما أنّه لا يتوجّه لكسر دوامة اقتصاد الريع وفساد الطبقة الحاكمة، ولا يضع حداً للتخلّف التكنولوجي، ولا يسعى لتوسيع قاعدة الأنشطة الاقتصادية نحو التنوّع بدل اقتصاد الريع الواحد (البترول والغاز) أو السياحة والعقارات والمصارف. وأخيراً على الحكومات الجديدة وقف إهدار الموارد الطبيعية للبلاد وحل مشكلة هجرة الأدمغة. وهنا يأسف قرم أنّ الحكومات العربية هي عاجزة عن مواجهة هذه التحديات الكبرى بسبب هيمنة العولمة الغربية والنيوليبرالية الاقتصادية التي تفرض التجارة الحرة المتوحشة.
يتصدى قرم أيضاً لمفهوم “صدمة الحضارات” الذي أشاعه صموئيل هانتنغتون، ويشبّه أفكار هانتنغتون الاعتباطية بما انتشر في القرن التاسع عشر في أوروبا عندما قسّم العالم إلى كيانين خياليين: الآريين والساميين، واستخدما في ما بعد في الممارسات العنصرية البغيضة. ويرى قرم ضرورة مقاومة الدول العربية للقالب الديني الذي وضعها فيه مفهوم “صراع الحضارات”، وأن يعود العرب إلى الحداثة والتطور ويرفضوا الفكرة الخبيثة عن عداء مفترض بين المسيحية واليهودية من جهة والإسلام من جهة أخرى. ويوافق قرم أنّ الإمبراطورية الرومانية قد بنت دولة مسيحية بوجه معارضة الديانات الوثنية واليهودية، ولكن وفق الظروف الحالية في القرن الحادي والعشرين لا يُعقل أن تقوم أنظمة سياسية في الغرب على أساس القيم اليهودية المسيحية. وبنفس المكيال، يشرح قرم أنه في الماضي كانت ثمّة حضارة عربية إسلامية متعددة الجنسيات ازدهرت في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى بين نهاية القرن السابع ومنتصف القرن الرابع عشر. وهذه الحضارة قد انتهت ولا يمكن اليوم الحديث عن قيام “دولة إسلامية” على أساس أنّها ستعيد مجد زمن غابر.
منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1989، أخذ الغرب يتوسّع في تفسير تطبيق القانون الدولي على هواه ويمارس هندسة متغيّرة خدمةً لمصالحه. ومثال على ذلك استغلال الغرب للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يسمح باستخدام القوة لتسوية الصراعات الجيوسياسية لخدمة السلم الدولي، لشن الحروب. ومن ناحية أخرى، يُتجاهل القانون الدولي عندما يتعلق الأمر بمسؤولية القادة الغربيين عن غزو العراق وإطالة أمد احتلاله وتدميره، فلا تحدث مساءلة ولا يجلب هؤلاء أمام القضاء لأن أنظمتهم السياسية تحميهم. إذ، ويا للأسف، فإنّ أنظمة الغرب الديموقراطية تسير في انحدار واضح منذ عقود. ويقول قرم إن آخر مرة شهدنا فيها ممارسة ديموقراطية لإزاحة رئيس أميركي كانت عام 1974 عندما مورست إجراءات عزل أجبرت الرئيس ريتشارد نيكسون على التنحي عن السلطة. ولو كانت الممارسات الديموقراطية الصحيحة سائدة لكان معظم القادة الغربيين في السجون لأنّهم تصرفوا في السنوات الأخيرة على أساس الادعاءات الكاذبة، وبخاصة في العراق، أو بشكل مشكوك فيه في المجتمعات التي لم تكن في الأصل معادية للغرب مثل سوريا وليبيا.
صحيفة النهار اللبنانية