المستحيل مُمكن…
يقول ألبرت أنشتاين إنّه إذا لم تبدُ الفكرة عبثيّة فلا أمل فيها. هذا القول يضع حدّاً فاصلاً بين الإبداع والتقليد. التقليد لا يأتي بجديد ولا يُفاجئ ويؤكِّد المؤكَّد، أمّا الإبداع فيأتيك من حيث تنتظر أو لا تنتظر ويضيف جديداً إلى العالَم. قد لا تكون هذه الإضافة مجرّد إضافة بل قد تؤدّي إلى إعادة النَّظر بمجمل الإنجازات الإنسانيّة وتُعيد صياغة الوجود صياغة جديدة…
ألم يكُن الأمر على هذه الحال منذ أقدم العصور: اكتشاف النار، الذي يُعتبَر بداية الحضارة، نَقَل الإنسان من حالةٍ تشبه حياة الحيوان لا همّ له فيها سوى تأمين عيشه واستمرار حياته متّخذاً موقفاً دفاعيّاً إزاء الظروف الطبيعيّة، إلى موقف المُبادِر والفاعِل، وذلك من خلال استخدام النار كسلاحٍ يخيف به الحيوان وكنورٍ يستضيء به في الظلام، إلى ما هنالك من استخدامات عديدة. ثمّ تتالت العصور من العصر الحجري إلى عصر اكتشاف المعادن إلى اختراع اللّغة مع ما رافق كلّ عصر من تطوّرات. ثمّ ارتقت الإنسانية بقفزات متتالية، طوّع فيها الإنسان الطبيعة فخاض في البرّ ثمّ في البحر ثمّ في الجوّ إلى أن تجاوز كوكبه إلى كواكب قريبة أو بعيدة.
هل في القول إنّ في الأمر سحراً هو افتئات على العِلم؟ هل إنّ العلم والسحر أقنومان لا رابط بينهما أو ثمّة خيط رفيع يربط بينهما؟ لا شكّ أنّ هذه الأسئلة تُعيدنا إلى استهلالنا الكلام بقول أنتشاين إنّ الفكرة إذا لم تبدُ عبثيّة فلا أمل فيها.
هل العلماء هُم علماء حقّاً أم سَحَرة؟ وإذا كانوا علماء، وهُم كذلك حقّاً، أيّة علاقة تربطهم بالسحر أو بما يشبه السحر؟
إنّ المسافة التي تفصل الإنجازات العلمية عمّا يبدو غير قابل للإنجاز إلاّ بالسحر هو ما كان يُسمّى بالخيال العِلمي Science fiction إلى أن استُبدلت التسمية بتوقّعات العلوم Anticipation des sciences. هل مجرّد أن يكون شيء ما مستحيلاً اليوم، يعني أنّه سيبقى كذلك بعد قرون أو بعد ملايين السنين؟
نسبيّة المستحيل
لو استعرضنا الاكتشافات العلمية والاختراعات لبدا لنا أنّ المستحيل نسبيّ. كان معلّمو الجغرافيا ينظرون إلى خريطة الأرض فيلحظون أنّ شواطئ أميركا وأفريقيا متطابقة مثل أحجية الصورة المقطّعة Puzzle ثمّ يحكمون بأنّ ذلك من قبيل المصادفة. وكان ثمّة اعتقاد يُنظر إليه باستخفاف بأنّ الديناصورات كانت تُهيمن على الأرض لملايين السنين ثمّ اختفت فجأة. لكنّنا نعلم اليوم أنّ القارّات تستمرّ في التحرّك من خلال الصفائح التكتونيّة، وأنّ شهاباً ضخماً قطره ستّة أميال ضرب الأرض منذ 65 مليون سنة فأباد الديناصورات ومعظم الحياة على الأرض.
لو عدنا بتفكيرنا حوالى 150 عاماً إلى الوراء عندما كتب “جول فيرن” في العام 1863 رواية “باريس في القرن العشرين” وتنبّأ فيها بما ستكون عليه باريس في العام 1960. لقد حشد في روايته تقانة اعتُبرت شيئاً يشبه السحر ومستحيلة التحقّق مثل آلات الفاكس وشبكة اتّصال عالمية وناطحات سحاب من الزجاج وسيّارات تعمل على البنزين وقطارات سريعة جدّاً. لم يكُن غريباً أن يقوم فيرن بمثل هذه التنبّؤات الدقيقة جدّاً لأنّه كان مُنخرطاً في عالَم العِلم، مطّلعاً على عقول العلماء حوله، فسمح له تقديره العميق لمبادئ العِلم أن يقدّم مثل هذه التنبّؤات المُدهشة.
حماقة العالِم غودارد
كان روبرت غودارد مؤسِّس عِلم الصواريخ الحديث في العشرينيّات والثلاثينيّات موضوعاً لسخرية شديدة من أولئك الذين اعتقدوا أنّه لا يُمكن للصواريخ أبداً أن تسافر في الفضاء الخارجي. لقد أطلقوا على محاولته بتهكّم “حماقة غودارد”. وفي العام 1921 شَجَب محرّرو مجلّة “نيويورك تايمز” عمل غودارد بالقول: “لا يعرف البروفسور غودارد العلاقة بين الفعل وردّ الفعل، وهو يجهل المعرفة الأساسية التي تُعطى كلّ يوم في المدارس الثانوية”؛ لكنّ هتلر وعى معاني صواريخ غودارد “المستحيلة” وأمطر خلال الحرب العالمية الثانية وابلاً من صواريخ V-2 على لندن ما جعلها تجثو على ركبتيها تقريباً.
وإذا كانت العامّة نظرت إلى مثل هذه التنبّؤات في حينها على أنّها من قبيل السحر، فإنّ ثمّة بعض علماء ذلك الزمن اعتبرها للأسف مستحيلة تماماً. لقد أعلن اللّورد كلفن، أحد أهمّ فيزيائيّي الحقبة الفيكتورية – وقد دُفن بالقرب من إسحق نيوتن – أنّ الآلات ” الأثقل من الهواء” مثل الطائرة، مستحيلة. واعتقد أن أشعّة إكس خرافة، وأنّه لا مستقبل للمذياع. واستبعد اللّورد رذرفورد الذي اكتشف نواة الذرّة احتمال بناء قنبلة ذرّية مُقارِناً إيّاها بالسراب.
عند نهاية القرن التاسع عشر رأى العلماء أنّ من المستحيل أن يكون عمر الأرض مليارات السنين. وصرَّح اللّورد كالفن بأنّ الأرض المنصهرة تحتاج من 20 إلى 40 مليون سنة لتبرد، مُعارضاً في ذلك الجيولوجيّين وعلماء الأحياء الداروينيّين الذين زعموا أنّ عمر الأرض يُمكن أن يكون مليارات السنين. وقد بُرهن أخيراً على أنّ المستحيل مُمكن باكتشاف القوّة النووية على يد السيّدة كوري وآخرين وبأنّ مركز الأرض المسخّن بالتفكّك الإشعاعي، يُمكن أن يبقى منصهراً لمليارات السنين.
تحويل الرصاص إلى ذهب
وقد أعلن كيميائيّون من القرن التاسع عشر أنّ البحث عن حجر الفلاسفة وهو مادّة خرافية يُمكن بواسطتها تحويل الرصاص إلى ذهب مستحيل علميّاً، كما أُسِّست كيمياء القرن التاسع عشر على مبدأ عدم تحويل المواد مثل الرصاص. ولكن باستخدام محطّمات الذرّة نستطيع اليوم من حيث المبدأ أن نحوِّل ذرّات الرصاص إلى ذهب. وهكذا كما بدا أنّ مستحيلات الأمس أصبحت إنجازات اليوم فكذلك إنّ مستحيلات اليوم ستصبح إنجازات الغد.
*كاتب ومُترجِم لبناني
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)