«المسجد الأموي»… تاريخ دمشق وتحولاتها العمرانية
ثمة أسباب عديدة ــ كل منها قائم بذاته ــ لاختيار كتاب طلال العقيلي «الجامع الأموي في دمشق» (دار كتب للنشر، بيروت ــ 332 صفحة من الحجم الكبير تحوي مجموعة كبيرة من المصورات الفنية والصور الضوئية) للعرض المسهب. هو الأول الذي تقع عليه يداي، يحوي رسوماً تفصيلية احترافية لمختلف أقسام الجامع، مذ كان معبد الإله الآرامي حدد، ومن ثم تحوله إلى معبد جوبيتر في العصر الروماني، ومن ثم إلى كنيسة يوحنا المعمدان، وأخيراً الجامع الأموي. ومن الجدير بالذكر أنّ رأس يوحنا المعمدان كان محفوظاً في كنيسة في مدينة حمص، فأقامت السلطة المسيحية كنيسة فوق أنقاضه جزئياً وأعطتها الاسم تكريماً له.
السبب الآخر لاختياري عرض هذا المؤلف المهم والثمين هو أنّ تاريخ تطور المسجد الأموي منذ العصور الإغريقية ومن ثم السلوقي، ومن بعدها العصور الرومانية الوثنية ثم المسيحية الغربية، ومن ثم إلى العصور المسيحية المشرقية وأخيراً الإسلامية، يعكس تاريخ مدينة دمشق، والتحولات التي طرأت على تخطيط شوارعها وأبنيتها، بسبب تغير النمط المعماري وفق مخططات الإمبراطورية المختلفة التي مرت في المدينة وتركت آثارها بعضها قائم إلى يومنا هذا.
الكاتب، العالم الكبير طلال العقيلي، أستاذ الهندسة في جامعة دمشق، يوضح عبر استعراضه المسهب لتاريخ المعبد/ الجامع/ المسجد، التغيرات التي حصلت فيه وفي مدينة دمشق (القديمة)، عبر مختلف العصور بسبب تغير النمط المعماري المستمر، وكذلك بسبب الدمار الذي لحق بالمدينة التي تعد أقدم مستقر بشري مأهول من دون انقطاع.
دمار ناتج عن الحرائق والزلازل التي ضربت المدينة، إضافة إلى تدمير الغزاة الفرس الجزء الأكبر منها وتهجير معظم سكانها إلى ما وراء النهر عام 613 ت س.
هذا التاريخ الثري ترك آثاره في المدينة وفي بعض بنيانها، وتحديداً في منطقة المعبد الإله الآرامي حدد، والمناطق المحيطة به لأنّ لكل ديانة ــ وثنية كانت أو غير ذلك ـــ طقوسها الخاصة وطريقة البناء واتجاهات مختلف قطاعاتها. على سبيل المثال، نعلم أنّ محراب الجامع يجب أن يكون متجهاً نحو مدينة مكة. أما بناء الكنيسة ومحرابها، فيجب أن يكونا شرق – غرب وهكذا، وهو ما يوضحه الكاتب بالتفصيل الشيِّق. هنا وجب تأكيد أنّه رغم كون المؤلف متخصصاً في مسألة الهندسة المعمارية في قسمه الأكبر، إلا أنه مكتوب بلغة سهلة تمكن كل قارئ من متابعة التفاصيل التي سنستعرض بعضها لاحقاً.
احترافية هذا المؤلف وعمق معارف الكاتب، شجّعاه على طرح آراء مختلف العلماء الغربيين الذين درسوا مدينة دمشق القديمة ومكان المعبد، ومن ثم الكنيسة وأخيراً الجامع، ومنهم سوفاجييه، والألمانية دوروتي سالك، وفولتسنجر فاتسنجر، ودوسو، والإنكليزيان بورتر وديكي وكرزول، وناقشها على نحو أكاديمي مسهب، مبيناً مختلف نقاط اتفاقه مع بعضهم، وكذلك نقاط الاختلاف في الرأي، مع ذكر الأسباب على نحو علمي رزين.
من الأمور الجديرة بالذكر أيضاً مقارنة الكاتب النمط المعماري المتوقع لمعبد حدد، ومن ثم جوبيتر بالمعابد الأخرى في بلاد الشام والعراق، ومنها معبد بل في مدينة تدمر، ومعبد حصن سليمان بالقرب من صافيتا شمال مدينة طرطوس واسمه الأصلي بيت خيخه، ومعبد أرثميس في جرش وغيرها من المعابد الوثنية.
هذا كله وغيره من المعلومات المثيرة عن مختلف المراحل التاريخية التي مرت على دمشق، نعثر عليه في الفصل الأول «صورة دمشق قبل الفتح العربي-الإسلامي›، الثري بكافة المصورات التفصيلية المذكورة في العرض، افتتحها برسم مقطعي ثلاثي الأبعاد للجامع كما هو الآن، ثم ألحقه برسم مفصل لواجهة الجدار الشمالي الخارجي للمجاز المعترض (المصور 1). علماً بأنّ الكاتب لم يهمل ما ورد في كتابات بعض الإخبار العرب عن المادة ومنهم ابن عساكر.
الأمر الجدير بالذكر هنا أنّ أهل دمشق رفضوا التصميم المعماري الإغريقي الذي يشبه رقعة الشطرنج (المصور 2). ولذا فقد عملوا، بعد استعادتهم السيادة على مدينتهم، على إعادة تصميم بناء المدينة وفق النمط الشرقي، أي الآرامي.
كما أشار الكاتب إلى بعض الكتابات اليونانية التي كانت منقوشة في بعض جدران المعبد/ الكنيسة ومنها ما ذكره دوسو بعد حريق عام 1893، المأخوذة من الترنيمة الثامنة من المزمور 88 .
الكاتب ينتقل بعد ذلك إلى صورة دمشق إبان الفتح العربي – الإسلامي عام 636 ت س، حيث كانت قد تخلصت من النمط المعماري الهلنستي الروماني، وعادت مدينة مشرقية، فاختفت الشوارع العريضة بالأروقة الظليلة، إضافة إلى غياب المنشآت العمرانية الهلنستية مثل الساحة العامة والمسرح والمدرج والملعب الرياضي.
عندما احتل العرب مدينة دمشق، بحثوا عن مكان لإقامة جامع لهم، علماً بأنهم لم يملكوا المعارف العلمية اللازمة للبناء، فعمدوا بداية إلى الصلاة في جانب من بقايا معبد حدد قرب الكنيسة المقامة فيه، واستعملوا بقايا البرج الجنوبي (المصور 4) للدعوة إلى الصلاة. أما المسيحيون، فقد استعملوا البرج الجنوبي الغربي لقرع نواقيس الكنيسة الداعية للصلاة.
المهندسون الذين أحضرهم الوليد بن عبد الملك لبناء جامع يليق بدمشق، التي كانت عاصمة العالم في ذلك الوقت، امتلكوا خبرة في بناء جوامع المدينة والقدس والبصرة والكوفة والفسطاط. لكن الكاتب يؤكد أن تصميم الجامع الأموي اختلف عنها من ناحية الحجم، إضافة إلى المركزية والتوضع على محاور السير الرئيسة وتنفيذه بيسر. وقد تم إنجاز ذلك عبر مراحل خمس.
الكتاب ينتقل بعد ذلك إلى وصف الجامع وصفاً مفصلاً يضم الحديث عن الجدران الخارجية والأبراج كل على حدة، منوهاً إلى حقيقة أن الجنوبي الغربي منها هو الوحيد المتبقي من الأبراج الأربعة التي كانت قائمة عند زوايا المعبد الكلاسيكي (حافظ على شكله المعماري) الذي بقي قائماً في العصر البيزنطي بسبب ارتباطه بمبنى الكنيسة. ومن الجدير بالذكر أنّ أبي حامد الغزالي اعتكف في القاعة العلوية منه. وبعد ذلك، ينتقل الكاتب لوصف الجدار الجنوبي، وثم القسم السفلي الذي تعرض للتشويه بسبب تعدي أصحاب الحوانيت على أحجاره، وصف بقية الأقسام تفصيلاً مع ذكر الكتابتين في الجدار الشمالي اللتين تؤرخان لتجديده.
أثرى الكاتب هذا القسم برسوم غاية في الجمال والدقة المنقوشة على أبواب الجامع ومنها باب البريد وباب النوفرة وباب العمارة وباب الزيادة، ثم ينتقل لوصف الدهليزين والمشاهد ومنها مشهد أبي بكر، ومشهد عمر، ومشهد عثمان، ومشهد علي، مبيناً تفاصيلها وتفاصيل القباب في رسوم تفصيلية مسقطية ثلاثية الأبعاد وصور لكل منها.
من الأمور الأخرى الجديرة بالذكر وضع صور الدعامات التي كانت قائمة في بدايات القرن العشرين، والتي شوهها الترميم الحديث، وهذا الرأي لنا. بعدها ينتقل الكاتب لوصف حرم الجامع وما يحويه من قباب وموجودات الحرم والمحراب الرئيس والمحراب المضاف وزخارفهم.
خصص الكاتب قسماً من عمله لوصف مآذن الجامع الثلاث، الشمالية والشرقية والغربية، علماً بأنها تعرف باسم مئذنة الوليد، وهي تعد أولى المآذن التي بنيت في العالم الإسلامي. ويشدد الكاتب على أن مئذنة الوليد عربية المنشأ والفكرة والأساس، وهي طراز عمّ بلاد الشام وتأثرت به أبراج الكنائس الغوطية الأوروبية ومآذن مشابهة منها جامع القيروان ومراكش وجامع القرويين والجامع الكبير في صنعاء. ومن الممكن أن مئذنة المسجد الجامع في إشبيلية المسماة الجيرالدا (المصور 7) على الطراز ذاته، إذ يتبين ذلك عند مقارنة طرازها بمئذنة العروس.
ينهي الكاتب عرضه التفصيلي الجميل بالحديث في تفاصيل الفسيفساء في الجامع. ويخصّ لوحة بردى (المصور 9 ــ يبلغ عرضها 34,5 مت وارتفاعها 7,2 متر، ويعود القسم الأكبر منها إلى عصر الوليد) على رواق الصحن الغربي، بعرض تفاصيل كل قسم منها، شارحاً محتوياتها ومنها قصر وبيوت جميلة على ضفة نهر بردى، ورواق يشبه ميدان المبارزة والسباق، وأشجار غاية في الجمال وقرية وقعت على ضفاف النهر، ومجموعة عمرانية متكاملة مؤلفة من ثلاثة بيوت. علماً بأن هذه اللوحة الفسيفسائية تعد من أجمل اللوحات في العالم. وقد تغنى النابغة الشيباني بالجامع في أبيات سجّلها الكاتب في مؤلفه.
المؤلف ينتقل من بعد إلى عرض الكتابات والنصوص التاريخية في الجامع ومنها العائدة إلى قيتباي وقانصو اليحياوي وغيرهما. ويُختتم العمل بعرض الأسماء والوثائق والمخططات ذات العلاقة بعمارة الجامع، مع صور لها، ومن ثم وضع جدول زمني بأحداث الجامع بدءاً من إنشاء معبد حدد الآرامي في القرن العاشر ق ت س، وانتهاءً بمتابعة إصلاح الفسيفساء في عام 1958.
أهمية إضافية تعكس مكانة هذا المؤلف، الذي يجب أن يكون في كل مكتبة، هي ترجمته وصدوره بالإنكليزية والألمانية واليابانية، وما لا شك فيه أنه سيترجم إلى لغات أخرى.
كلمة أخيرة، هذا العرض المختصر لا يمكن أن يعكس أهمية هذا المؤلف الذي يعد إثراء خاصاً للمكتبة العربية، آخذين في الاعتبار أنه يحوي أكثر من مئتي مصور، ما أجبرنا على اختيار قلة قليلة منها رأينا أنها تسهم في توضيح محتواه وأهميته وجمالياته.
هذا المؤلف يحفظ لنا صورة أحد أهم أوابد العالم مؤرخاً له ولأهميته، مما يكسبه مكانة خاصة لمكتباتنا خصوصاً في عصر السعار المذهبي التكفيري الوهابي الأعرابي الوحشي الذي يجتاح المنطقة ولا يعرف سوى الغزو والقتل والغنيمة، ولا علاقة له بعقل ولا بأي من صفات البشر والإنسانية الأخرى.
صحيفة الأخبار اللبنانية