المعارضة السورية ومشكلة القيادة (يزيد الصايغ)
يزيد الصايغ
لاتزال المعارضة السورية تفتقر إلى وجود قيادة سياسية بعد عامين على بدء الانتفاضة في البلاد. في المنفى، يزعم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية (الائتلاف الوطني) بأنه يوفّر إطاراً تمثيلياً للمجالس المدنية والمجموعات المسلّحة المختلفة العاملة داخل الحدود السورية، لكنه لايقودها. ولذا يتعيّن على الائتلاف تمكين الهياكل القاعدية الأساسية كي تصبح قيادة سياسية حقيقية للمعارضة داخل سورية، ويحوّل تركيزه باتجاه التعامل صراحةً مع الأطياف السياسية ومؤسّسات الدولة الرئيسة بغرض فصلها عن النظام، إذا كان يأمل في تحقيق التغيير الديمقراطي الدائم.
الأفكار الرئيسة
استجاب المجلس الوطني السوري، الذي كان أول إطار يمثل المعارضة في المنفى، للمبادرات الدبلوماسية بدلاً من صياغتها، وتبنّى عسكرة الانتفاضة من دون أن يتمكّن من توجيهها أو دعمها، وفشل في إدماج القادة المحليين داخل سورية. تنافست الشخصيات والفصائل المعارضة في المنفى على المكانة والموارد بدلاً من أن تتوحّد تحت راية مشتركة، حيث كانت تتوقّع الحصول على التمويل والاعتراف السياسي من المجتمع الدولي.
أثبت الائتلاف الوطني، الذي حلّ محلّ المجلس الوطني السوري، أنه ليس أكثر منه فعالية في توفير قيادة سياسية استراتيجية، وتمكين الإدارة المدنية المحلية، وتأكيد السلطة الموثوقة على الثوار المسلحين، وتقديم الإغاثة الإنسانية، ووضع استراتيجية سياسية لتقسيم النظام. وقد وضعت استقالة رئيس الائتلاف، معاذ الخطيب، في 24 آذار/مارس 2013، مستقبل الائتلاف موضع شكّ، حتى لو تراجع عنه.
لايمكن للمجالس المحلية المدنية والعسكرية داخل سورية تأكيد سلطتها الفعلية على الأرض في ظل غياب القيادة السياسية الموثوقة.
أدّى التنافس بين الجماعات المتمردة والمتشدّدين الإسلاميين إلى ملء الفراغ، والتعاطي مع الاحتياجات المتزايدة لتوفير الأمن، وتسوية المنازعات، وتوفير إمدادات الغذاء والوقود والمأوى.
توصيات للائتلاف الوطني
ممارسة القيادة السياسية للعمليات العسكرية. يجب أن يحدّد الائتلاف الوطني موقفاً واضحاً من سير العمليات القتالية الرئيسة في المدن السورية، ولاسيما معركة دمشق الوشيكة، بهدف تأكيد الإدارة والسلطة السياسية على عملية اتّخاذ القرارات العسكرية.
حكم المناطق المحرّرة وتمكين القيادة السياسية المحلية. ينبغي على الائتلاف تمكين الحكومة المؤقتة التي أعلنها في المناطق المحررة من اتّخاذ القرارات السياسية الاستراتيجية، وإلا ستفشل الحكومة في توفير الإدارة الفعّالة والخدمات والمساعدات الإنسانية أو في تأكيد السيطرة المدنية على الثوار المسلحين.
وضع استراتيجية سياسية والاستعداد للمفاوضات. ينبغي على قيادة الائتلاف اقتراح إطار ملموس يوفّر الفرصة للجهات الفاعلة السياسية والمؤسّسية الرئيسة الداعمة للنظام حالياً، ماعدا الرئيس بشار الأسد والحلقة التي حوله، للاضطلاع بدور رسمي ومباشر في المفاوضات الخاصة بالعملية الانتقالية الديمقراطية في سورية.
القيادة المفقودة للمعارضة
بعد مرور عامين على بدء الانتفاضة السورية، لاتزال المعارضة تفتقر إلى قيادة سياسية فعّالة. وتتمتّع أطر المعارضة الرئيسة المتمثّلة بالمجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة (الائتلاف الوطني)، بشرعية محلية كبيرة واعتراف دولي واسع. بيد أنها تقوم حقيقةً بتمثيل المعارضة بدل أن تقودها. وقد عبّر هذان الإطاران عن الأخلاقيات والأهداف السياسية للانتفاضة بصورة صادقة، لكن أياً منهما لم يحدّد فعلياً أجندة الانتفاضة، أو يقرّر استراتيجيتها على الأرض، أو يتّخذ قرارات بشأن قضايا الحرب والسلم ذات الأهمية الحاسمة. فهما لازالا يقيمان في المنفى ويفتقران إلى قاعدة تنظيمية داخل سورية، مايشكّل عقبة إضافية مهمة.
لقد عرقل الافتقار إلى القيادة تعزيز المبادرات التي قام بها "الداخل"، أي الناشطون المدنيون والضباط المتمرّدون داخل سورية. وقد أسفر ذلك عن تبديد الآمال باستنساخ النماذج التنظيمية الناجحة في جميع أنحاء البلاد، وهو ماجعل الهياكل العاملة محلية وعرضة إلى الاهتزاز بل إلى الانعكاس. كما عزّز ذلك دور البنى الاجتماعية الفعلية أو "التقليدية" – القائمة على العرق أو العقيدة أو المذهب أو العشيرة – التي تؤثّر بدورها تأثيراً شديداً على الأجندات السياسية وأساليب العمل، وتطغى عليها في بعض الأحيان.
برز احتمال حدوث تحوّل كبير في الديناميكيات يوم 18 آذار/مارس 2013، عندما عيّن الائتلاف الوطني خبير تكنولوجيا المعلومات والناشط غسان هيتو، المقيم في الولايات المتحدة حتى أواخر العام 2012، لرئاسة حكومة مؤقّتة تستقرّ بصورة أوّلية في المناطق المحرّرة من سورية. وتواجه الحكومة مهمة ربط الهياكل القاعدية المحلية بنظام حكم فعّال وممارسة سلطة جادّة على أغلبية الجماعات المتمرّدة على الأرض. ولكي تنجز الحكومة المؤقّتة تلك المهمة، يجب أن تكون مخوّلة باتّخاذ قرارات سياسية استراتيجية، لا أن تعمل فقط كملحق إداري للائتلاف الوطني. وإذا مانجحت في ذلك، فستصبح الحكومة المؤقتة بمثابة القيادة السياسية الفعلية للمعارضة.
سيشكّل إنجاز هذه المهمة نجاحاً كبيراً، بيد أن احتمال أن تصبح الحكومة المؤقّتة منافساً على القيادة السياسية هي بالضبط مايخشاه الائتلاف الوطني. فقد بذل الائتلاف، الذي أعلن عن الحكومة المؤقتة على مضض بعد أن تعرّض لضغوط شديدة من مؤيّديه العرب للقيام بذلك، جهوداً مضنية لتأكيد طبيعتها "التكنوقراطية". فقد عاش المرشحون العشرة الذين قُدِّموا إلى منصب رئيس الوزراء جميعاً في المنفى لسنوات عدة، كما أن أغلبهم عمل في مِهَن حرة غير سياسية حتى بدء انتفاضة العام 2011، وجرى تحديد المهمّة الرئيسة للحكومة في أضيق نطاق الإشراف على الخدمات في المناطق المحرّرة. ومن خلال إضعاف الحكومة المؤقّتة سياسياً، عرّض الائتلاف الوطني دورها الإداري وسلطتها الأخلاقية إلى الخطر، مايزيد في صعوبة التحدّيات التي تواجه الحراك الشعبي ويعيد المعارضة إلى المربّع الأول.
لن يستمر المشهد إلى ما لانهاية. فتثبيت الهياكل القاعدية يسير بطريقة جزئية ومتردّدة، وسط تضارب الاتجاهات نحو مزيد من التشرذم والاستقطاب الطائفي وجعل العنف أمراً روتينياً. ويمكن للحكومة المؤقّتة تغيير الصورة، بيد أنها كانت معوَّقة منذ ولادتها. لقد وضع إعلان رئيس الائتلاف الوطني، أحمد معاذ الخطيب، عن استقالته في 24 آذار/مارس 2013، مستقبل الائتلاف موضع شكٍّ، على الرغم من تراجعه عنها لاحقاً. ولعل المعارضة ستواصل طريقها المتعثّر، ولكنها إذا لم تحلّ مشكلة القيادة التي تعاني منها في غضون العام 2013، فإن التمرّد قد يتشرذم إلى كانتونات مسلّحة متناحرة، وقد تتوقّف عملية التحوّل الثوري الأعمق التي تجري الآن في المجتمع السوري.
نظرة عامة
تبدو المشاكل التي تعانيها المعارضة السورية عميقة. إذ إن عقوداً من الحكم الاستبدادي قضت تقريباً على النشاط السياسي والاجتماعي المستقل في سورية بحلول العام 2011. وبالتالي تم حرمان معارضي الرئيس بشار الأسد من الشبكات التنظيمية الموجودة مسبقاً، ومن مجموعة جاهزة من الكوادر ذوي الخبرة القادرين على اقتناص اللحظة الثورية التي أوجدتها الانتفاضة العفوية في آذار/مارس 2011 والبناء عليها بسرعة. ونتيجة لذلك، لم يتمكّن ائتلاف جماعات المعارضة المتباينة والشخصيات المستقلّة ونشطاء الحراك الشعبي الذين شكّلوا المجلس الوطني السوري في أكتوبر 2011 من القبض على المجريات على الأرض، مادفعهم إلى اتّخاذ موقف تميّز برّد الفعل منذ البداية. فتبنّى المجلس الوطني السوري أي مواقف تحظى بالتأييد الشعبي بين المتظاهرين والنشطاء داخل سورية ولم يقدّم القيادة السياسية.
فشل المجلس الوطني السوري مراراً وتكراراً على مدى العام التالي في التنبّؤ بالتطوّرات الميدانية في سورية وكذلك في المجال الدبلوماسي، ناهيك عن التأثير في اتّجاهها. فضلاً عن ذلك، كافح المجلس لتأكيد سلطته على ألوية وكتائب الثوار والمجالس العسكرية التي تكاثرت باستمرار مع اكتساب التمرد المسلّح زخماً خلال العام 2012. وقد أضاع المجلس كل فرصة لتطوير ودمج القادة المحليين داخل سورية في صفوفه، الأمر الذي لم يجعل صراعات المعارضة الداخلية على المكانة والتمثيل أكثر من مجرّد وسيلة لمداولة النخبة ضمن دوائر متشابهة من المعارضين المخضرمين والمثقفين والمنفيين.
إن مطالبة المجلس الوطني السوري، الذي شُكّل حديثاً ولم يختبر بعد، بتوفير القيادة الفعّالة والموحّدة لثورة عفويّة ولامركزية يرفع السقف كثيراً. لكن لم يكن متاحاً للمجلس أن يكون دائماً وراء الأحداث، طالما أن الآخرين يخلقون حقائق على الأرض ويحفّزون الدبلوماسية الإقليمية والدولية. وفي سياق الهرولة لتعزيز مكانته، ركّز المجلس الوطني على ضمان الحصول على اعتراف خارجي به بوصفه يمثّل إطار المعارضة الرئيس. وقد كان هذا أسلوب المجلس الوطني المفضل لإثبات وجوده أمام جمهوره داخل سورية، وتأمين تدفّق التمويل والتسليح اللذين يمكن أن يعزّزا شرعيته بين جميع معارضي النظام.
لكن كلما ازداد اعتماد المجلس الوطني على الدعم الخارجي، قلّت قدرته على تطوير قيادة فعّالة. فقد اعترفت مجموعة أصدقاء سورية من الدول والمنظمات المتعدّدة الأطراف – وضمنها معظم أعضاء جامعة الدول العربية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا – بالمجلس الوطني بوصفه الإطار الرئيس للمعارضة وممثلاً شرعياً (لا أوحداً) للشعب السوري في الأول من نيسان/أبريل 2012. غير أنه لم يمرّ سوى ثمانية أشهر حتى نقلت مجموعة أصدقاء سورية الاعتراف إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وباركته بوصفه الممثّل الشرعي الوحيد للشعب السوري في 12 كانون الأول/ديسمبر.
منذ ذلك الوقت صارع الائتلاف الوطني لكسر الأنماط التي حدّدها المجلس الوطني، والذي لايزال قوة مهيمنة في إطار المظلة الأحدث. في نهاية كانون الثاني/يناير 2013 ظهرت بارقة بوجود قيادة حقيقية عندما اقترح رئيس الائتلاف الخطيب إجراء حوار مع النظام السوري من دون أن يجعل رحيل الرئيس الأسد شرطاً مسبقاً. وقد قوبلت مبادرة الخطيب بقدر كبير من الدعم الشعبي. وأشاد به ياسين الحاج صالح، الذي يُعَدّ واحداً من أكثر مفكّري الانتفاضة إثارة للإعجاب، على خلفية "إعادة كلمة (السياسة) إلى التداول"، "لتملأ مكاناً شاغراً، ولتفتح، لأول مرة منذ بداية الثورة، باباً لمقاربة ديناميكية تستند إلى فعل الثورة على الأرض، وعمل المقاومة المسلحة الذي يواجه النظام… ومحاصرة النظام سياسياً".
في المقابل، انتقد المجلس الوطني السوري الخطيب بشدّة لاتّخاذه خطوات أحاديّة تتناقض مع المبادئ الأساسية للائتلاف من دون استشارة هيئات صنع القرار، وحذّره من مغبّة القيام بتصرّفات وإطلاق تصريحات أخرى من دون تفويض من شأنها أن تعمّق "الهوة داخله". وفوق هذا كله، وصف المجلس اللقاء الذي عقده الخطيب مع وزير الخارجية الإيراني بأنه يمثّل "طعنة للثورة السورية وشهدائها".
ربما كانت محاولة الخطيب "استعادة السياسة" حالة من الحالات القليلة والمتأخّرة جداً لتغيّر الحظوظ السياسية للائتلاف الوطني، الذي يبدو غارقاً في الخلافات بالطريقة نفسها مثلما كان المجلس الوطني قبله، وللأسباب نفسها تقريباً. لقد لعبت الأطر السياسية المعارضة في المنفى دوراً حيوياً في التعبير عن الرغبة في إحداث التغيير الديمقراطي الجذري وإقامة الدولة السورية المدنية، وفي إعطاء المعارضة صوتاً في الخارج. لكن ربما ينبغي أن يتلاشى ادّعاؤها بأنها توفّر القيادة السياسية للمعارضة، قبل أن تتمكّن الهياكل المدنية والعسكرية التي تنبثق بشكل مؤلم وبطيء على الأرض داخل سورية من القيام بذلك الدور، مايفضي إلى تعزيز آفاق التحوّل الديمقراطي.
الإقحام في المقدمة
يحكم سورية منذ العام 1972، من الناحية الرسمية، تحالف من الأحزاب السياسية، هو الجبهة الوطنية التقدمية، غير أن حزب البعث هو الذي احتكر السلطة. فالحزب لم يسمح لشركائه في التحالف بتنسيب أفراد القوات المسلحة أو طلاب الجامعات من بين فئات أخرى إلى أحزابهم –يقتصر ذلك الحق على حزب البعث وحده – ولا بإصدار صحفهم الخاصة حتى أوائل العقد الماضي. وقد هيمن حزب البعث على جميع النقابات المهنية والعمالية والسلطات البلدية، وعمل بشكل وثيق مع الأجهزة الأمنية لاختراق وتحييد هيئات المجتمع المدني مثل الشبكات الدينية والجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية التي تعمل في ميادين التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
كان من شبه الحتمي أن تتعاضد المعارضة السورية حول قوتين من خارج النظام الحزبي الرسمي بعد بدء انتفاضة العام 2011. كانت إحداهما تتكوّن من منابر سياسية عامة أطلقها مثقفون مهنيون ورجال أعمال مستقلون. وكان من أبرزها "ربيع دمشق" الذي انطلق بعد وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في العام 2000، و"منتدى جمال الأتاسي" الذي أُسِّس في العام 2001 وأغلقه النظام في العام 2005، ومنبر "إعلان دمشق"، الذي شكّلته في العام 2005 جماعات المعارضة وأفراد مطالبون بديمقراطية تعدّدية. وتمثّلت القوة الأخرى بجماعة الإخوان المسلمين في سورية، التي كانت قد حظرت في العام 1980 وتم القضاء عليها تماماً بعد مجزرة حماه في شباط/فبراير 1982، والتي قمع فيها النظام بوحشيّة تمرّداً قادته جماعة الإخوان. فأُرغِمَت الجماعة على اللجوء إلى المنفى لكنها ظلّت أكبر قوة في المعارضة. كما تم حظر أحزاب المعارضة القليلة الأخرى التي بقيت في سورية، والتي تمتلك مهارات سياسية وتنظيمية حقيقية – مثل حزب الشعب بزعامة رياض الترك، الذي يلقّب بـ"مانديلا سورية" – وأرغمت على ممارسة العمل السري.
لم يكن أي من هذه القوى قادراً على مواجهة المهمة الناشئة.
كانت المنابر العامة بمثابة نقطة التقاء لمطالب الإصلاح السلمي في العقد الأول من حكم بشار الأسد، لكنها كانت تفتقر إلى التنظيم السياسي للقيام بدور قيادي في المواجهة التي وقعت في العام 2011. وتمثّل إسهامها في المعارضة، وفقاً لشخصية رئيسة فيها، "بأفراد ذوي خلفية إيديولوجية لم تواجه تحدّيات عملية قطّ، ولم تضطرّ للتصرّف بطريقة مسؤولة لأنها لم تجد نفسها يوماً في موقف يوجب عليها وضع استراتيجية للوصول إلى السلطة… أو بناء ائتلافات".
احتفظت جماعة الإخوان المسلمين بجزء كبير من هيكلها التنظيمي وخبرتها لكنها كانت تقيم في المنفى حصراً وتعاني من الشيخوخة، إذ اتّجه أبناء قادتها وأعضائها إلى ممارسة أشكال بديلة من النشاط السياسي والاجتماعي، سعياً إلى الاستقلال عن الجيل القديم.5
ظهر مرشّحون محتملون آخرون لقيادة المعارضة بعد بدء الانتفاضة. فقد انبثقت هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي بزعامة حسن عبدالعظيم، من المنتديات العامة التي نشطت في الفترة بين العامين 2000 و2005. حافظت الهيئة، التي شُكِّلَت في سبتمبر 2011 من ثلاثة عشر حزباً ذات توجهات يسارية وأربعة أحزاب كردية وعدد من الشخصيات المستقلة والناشطين الشباب، على وجود حذر في سورية بالرغم من تعرّضها للتهديد المستمر بالقمع من قبل النظام.
تشكّل هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي، جنباً إلى جنب مع المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني في المنفى، والتجمعات الأخرى داخل سورية والتي ظهرت مع استمرار الانتفاضة مثل تيار بناء الدولة السورية بقيادة لؤي حسين، مايمكن اعتبارها المعارضة "الرسمية". غير أن المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني هما اللذان هيمنا على مظهر أول سنتين من الانتفاضة السورية، بفضل القدر الأكبر من الحرية الذي توفّر لهما للانتقال إلى المعارضة الشاملة للنظام وتبنّي التمرّد المسلح علناً.
المجلس الوطني السوري
أُعلِن عن إنشاء المجلس الوطني السوري في اسطنبول في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2011، في أعقاب عدة محاولات فاشلة لتشكيل إطار موحّد للمعارضة استجابة لبدء الانتفاضة. تشكّل التحالف من الموقّعين على إعلان دمشق والإخوان المسلمين في سورية، وفصائل كردية مختلفة، وممثّلين عن لجان التنسيق المحلية التي أسّسها ناشطون سلميون ممن كانوا رأس حربة في الاستخدام الثوري لوسائل الإعلام الاجتماعية في العشرات من المدن والبلدات، وأحزاب سياسية ومنتديات أخرى بما في ذلك ربيع دمشق والكتلة الوطنية. كما انضمّ إلى المجلس ممثلون عن الطائفتين العلوية والآشورية وشخصيات مستقلة. ومنذ البداية اعتبر الكثيرون أن جماعة الإخوان المسلمين تهيمن على المجلس الوطني السوري، مع أنها بذلت جهوداً مضنية لنفي ذلك.
سرعان ماوُضِعت قدرة المجلس الوطني السوري الوليد على قيادة المعارضة على المحكّ. فقد طرح تصعيد عنف النظام في أوائل العام 2012 والعواقب الإنسانية والسياسية المتزايدة تحدّياً خطيراً، وهو ماردّ عليه المجلس الوطني السوري بطريقتين. أولاً، مارس المجلس لعبة "المواكبة"، حيث تبنّى مواقف في بعض القضايا السياسة أو التفَّ على قضايا أخرى بما يتماشى مع المشاعر السائدة بين الناشطين والثوار في سورية. كان المجلس الوطني يأمل من خلال ذلك أن يحافظ على الاعتراف به قيادةً وبتعزيز شرعيته السياسية. ثانياً، سعى المجلس إلى إقناع الأطراف الإقليمية والدولية بأنه يمثّل الأغلبية الساحقة من المعارضة السورية، على أمل الحصول على التمويل وسواه من الدعم المادي والدبلوماسي الذي من شأنه أن يساعد الانتفاضة ويساعده هو نفسه في تأكيد مكانته القيادية.
في كلتا الحالتين، عكست استجابة المجلس الوطني السوري حقيقة افتقاره إلى استراتيجية مدروسة لهزيمة نظام الأسد، ومعالجة الأزمة الإنسانية التي انبثقت في البلاد مع اتّساع رقعة القتال، وتوفير إطار بديل للحكم. بدلاً من ذلك، استثمر المجلس جُلَّ طاقته السياسية في الحصول على الاعتراف به ممثلاً رئيساً للمعارضة – وللشعب السوري في نهاية المطاف – وفي الدفاع عن ذلك. وفي وقت لاحق زعمت المتحدثة السابقة باسم المجلس الوطني السوري بسمة قضماني أن هذا يعكس القناعة بأن "الدعم المالي – الخارجي – سيتم توجيهه من خلال سلطة سياسية لها تمثيل ذو مصداقية… في الداخل والخارج". وكانت معظم أطياف المعارضة تتوقع أن توجيه الدعم المالي والإنساني والعسكري الخارجي من خلال إطار واحد مُعتَمَد "هو ماسيوحّد الجماعات على الأرض".
بيد أن هذه التضافر الحميد لم يتحقّق. على العكس من ذلك، عانت المعارضة من دينامية تنافسية منهكة. فقد حفّزت التوقعات بالحصول على تمويل خارجي – وإمدادات أسلحة في بعض الحالات – تكاثر الأحزاب السياسية والائتلافات ومجالس القيادة المدنية والعسكرية المتنوّعة بدلاً من تشجيع عمليات الدمج والتوحيد في تشكيلات أكبر. انتقد الناشط المخضرم كمال اللبواني، الذي انشقّ عن المجلس الوطني في شباط/فبراير 2012 بسبب شعوره بالإحباط إزاء ما اعتبره التزام المجلس غير الكافي بدعم الانتفاضة داخل سورية، هذا التنافس على الموارد الخارجية بوصفه سعياً وراء "السراب"، وقال: "يجب أن نعمل على التنفيذ لا التمثيل".
الافتقار إلى استراتيجية عسكرية
أدّت ممارسة لعبة "المواكبة" إلى حصول انقلاب مفاجئ مهم في مواقف المجلس. فمنذ تأسيسه كان المجلس الوطني السوري يعارض التدخل العسكري الخارجي في سورية وتسليح المعارضة، ولكن في شباط/فبراير 2012 تراجع المجلس عن موقفه. في العلن اعتبر قادة المجلس الوطني هذا مطلبهم الرئيس، ولكنهم أقرّوا، بعيداً عن الأنظار، بأن التدخّل العسكري لن يحدث.
كانت هناك أدلة متزايدة على أن الحكومات التي تمتلك القدرات المطلوبة لاتنوي القيام بعمل عسكري أو إرسال أسلحة. في 29 شباط/فبراير، على سبيل المثال، صرح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) أندرس فوغ راسموسن أن الحلف لن يتدخّل في سورية أو يسلّح المتمردين، أو حتى يستخدم موارده لتقديم المساعدات الإنسانية أو الطبية. وفي السادس من آذار/مارس أكّد قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جيمس ماتيس أيضاً أن وزارة الدفاع الأميركية لاتخطّط للقيام بعمل عسكري، وهو الخيار الذي استبعده الرئيس باراك أوباما بشكل محدّد بعد يوم واحد.
وعند مراجعة الرئيس السابق للمجلس الوطني، برهان غليون، لتلك الحقبة بعد مرور عام عليه، كشف في شباط/فبراير 2013 أن بعض أعضاء المكتب التنفيذي للمجلس الوطني عارضوا الحديث عن تدخّل "لعدم خلق أوهام حول أمر لن يتحقّق في المدى المنظور".لكن غليون وعبدالباسط سيدا (الذي انتُخِب رئيساً للمجلس الوطني في حزيران/يونيو 2012)، وجورج صبرا (الذي خلف سيدا في نوفمبر)، استمروا في الدعوة إلى التدخّل طيلة العام 2012 وفي العام 2013.
وبسبب عدم قدرة المجلس الوطني السوري على وضع مقاربة بديلة، تبنّى في آذار/مارس 2012 ما أطلق عليه أعضاء بارزون، مثل نائب الرئيس محمد فاروق طيفور، وهو أيضاً نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين، والمتحدّث باسم المجلس جورج صبرا، "التوازن العسكري" مع نظام الأسد. لكن المجلس الوطني كان يعاني أصلاً كي يُظهِر سلطة مُقنِعة على الجماعات المسلّحة المتنافسة التي ظلّت تظهر على الأرض. ومع ذلك، كان لديه حافز للقيام بذلك. فقد قدمت مجموعة أصدقاء سورية وعداً بتوفير التمويل – وبإمدادات الأسلحة في حالة قطر والمملكة العربية السعودية – إذا ماتمكّن المجلس الوطني من توحيد الثوار في قيادة واحدة، مُظهِراً بذلك سيطرته الفعلية وتأكيداً لادّعائه تمثيل السواد الأعظم من المعارضة.
كان الجيش السوري الحر هو أكبر هذه الجماعات المتمرّدة في البداية، ولكن أيضاً الأقل تنظيماً أو تماسكاً، والذي كان قد أعلن عن تأسيسه العقيد في سلاح الجو المنشقّ، رياض الأسعد، في تموز/يوليو 2011. لم يكن الجيش السوري الحر تابعاً رسمياً إلى أي طيف في المعارضة السورية، غير أن المجلس الوطني سعى مراراً إلى فرض سيطرته عليه وعلى غيره من الجماعات المسلّحة التي استمرّت في الظهور.
وفي مسعًى إلى تحقيق هذا الهدف، أعلن غليون في 1 آذار/مارس 2012 عن إنشاء مكتب عسكري داخل المجلس الوطني لدعم الجيش الحر والإشراف عليه. كان المكتب، الذي لم يعمل أبداً، الأول ضمن سلسلة من القيادات "المشتركة" العابرة التي أُعلِن عنها من جانب مجموعة أو أخرى من ألوية وكتائب الجيش الحر والمجالس العسكرية والجماعات الإسلامية أو المستقلّة، على مدى الأشهر السبعة التالية. كانت الرغبة في استقطاب التمويل الخارجي والتسليح هي العامل الذي يحرّكها كلها، أو يفرّقها.
وفي مواجهة تجدّد الضغوط من جانب مجموعة أصدقاء سورية لإظهار جبهة موحّدة للثوار، رعى المجلس الوطني مجدداً قيادة عسكرية مشتركة للمجالس العسكرية الثورية في نهاية أيلول/سبتمبر. وقد زعم نائب رئيس المجلس الوطني طيفور، أن هذه القيادة تضمّ "جميع" المجالس العسكرية والثورية داخل سورية. ووفقاً لمسؤول الارتباط مع الجيش الحر في المجلس الوطني، كانت القيادة المشتركة الجديدة تسيطر على "مابين 75 و80 في المئة من الجماعات المسلحة على الأرض". لكن قادة ذوي مصداقية، مثل العقيدين قاسم سعدالدين وعبدالجبار العكيدي، رئيسا المجلسين العسكريين في حمص وحلب على التوالي، كانا غائبين. كما غابت عن صفوف القيادة المذكورة الكتائب الإسلامية المختلفة التي نمت من حيث القوة والمكانة منذ بدء معركة حلب، ثاني أكبر المدن السورية، في 20 تموز/يوليو. وفي نهاية المطاف كانت هذه القيادة المشتركة عابرةً كما سابقاتها.
كان المجلس الوطني يأمل بتثبيت ادّعائه بالقيادة وتعزيز مكانته لدى الحراك الشعبي للمعارضة في سورية من خلال تبنّي عسكرة الصراع ضد نظام الأسد. بيد أنه سعى إلى الاعتراف بصدارته السياسية من جانب قوى لم يأتِ بها إلى حيّز الوجود وليس قادراً على دعمها بالسلاح والإمدادات والرواتب. فكان المجلس يأمل أن يكتسب السيطرة الجادة بعد تعهّد أصدقاء سورية في نيسان/أبريل بتوجيه التمويل من خلال مكتبه العسكري لدفع رواتب عناصر الجيش الحر، ولكن لم تصل الأموال المخصّصة لدفع الرواتب سوى مرة واحدة، في تشرين الأول/أكتوبر، وبشكل جزئي فقط.
في نهاية المطاف، لم يتمكن المجلس الوطني من تحقيق قدر أكبر من التماسك أو الهيكلة في صفوف التمرّد المسلح. في الواقع، ساهم المجلس الوطني من حيث لايقصد في استمرار الانقسام وتكاثر الجماعات المتمرّدة، من خلال ترقية القيمة السياسية للعمل العسكري إلى المقام الأول، في حين يفتقر إلى الوسائل اللازمة لتوجيهه أو دعمه، وأضفى الشرعية على منافسيه الإسلاميين الذين أثبتوا أنهم أكثر فعالية.
كانت لدى المجلس الوطني خيارات أخرى. ففي ورشة عمل مغلقة لتقييم أدائه عُقِدَت في شباط/فبراير 2012، درس المجلس مشروع خطة عمل للبدء بمقاطعة اقتصادية داخلية للنظام، وعصيان مدني تدريجي، وإعداد الحراك الشعبي المدني المحلي لتولّي مهام الإدارة العامة بعد سقوط النظام. بيد أنه جرى التخلّي عن هذه الخطة بسرعة، فيما ألقى أغلبية أعضاء المكتب التنفيذي بثقلهم وراء السعي إلى تحقيق التوازن العسكري مع النظام.
كانت عملية تغيير الاتجاه لمواجهة عنف النظام مفهومة ومشروعة. لكن المجلس الوطني سمح لعسكرة الأزمة السورية بأن تحرفه عن التصدّي للتحدّيات الصعبة الأخرى التي كان لابدّ من التغلّب عليها لوضع استراتيجية ثورية عملية وقابلة للتحقيق. شملت هذه التحدّيات بناء تحالفات سياسية واسعة وتمكين المنظمات القاعدية، وكذلك تطوير هياكل محلية قادرة على توفير مستوى أوّلي من الخدمات الأساسية – بما في ذلك إنفاذ القانون – والإغاثة الإنسانية للمدنيين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الثوار وللعدد المتزايد من المهجّرين في الداخل. وقد أدّى تكثيف العنف الذي يمارسه النظام إلى جعل هذا أمراً ملحّاً.
فضلاً عن ذلك، تطلّبت محاولة وضع مقاربة ثورية قدراً كبيراً من التعاون مع جماعات المعارضة الأخرى داخل سورية. إحدى هذه الجماعات كانت هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي التي تتّخذ من دمشق مقراً لها، والتي توخّت أيضاً دعوة السوريين إلى رفض العمل أو دفع الضرائب، وتصعيد الاحتجاجات السلمية لتتحوّل إلى عصيان مدني شامل. ولكن المجلس الوطني اعترض على التعاون، ماحوّله إلى تنظيم يقيم في المنفى بالدرجة الأولى. وقد أثقل هذا الإرث على المجلس بشكل كبير.
مشكلة ثقة
كانت الأحزاب والمنابر السياسية التي تشكّل المجلس الوطني تفتقر إلى عضوية تمتدّ إلى كل حي مدني وبلدة وقرية في سورية، وهو ما يعدّ مشكلة بالنسبة للمعارضة عموماً. وربما كان في وسع المجلس الوطني التعويض عن ذلك من خلال العمل على إعداد هياكل إدارية محلية أو هيئات تمثيلية أو حكومة مؤقتة أولية حيث أمكن ذلك في أنحاء البلاد. وقد دعت بعض الأصوات داخل المجلس الوطني إلى تحويل الموارد المادية والطاقة السياسية نحو بناء هياكل فاعلة على الأرض في مرحلة مبكّرة. في شباط/فبراير 2012، دعا اللبواني المجلس الوطني إلى أن يتحوّل من هيئة تمثيلية كبيرة في المنفى إلى هيئة تنفيذية أصغر حجماً داخل البلاد. عندئذ يمكنه أن يقود الانتفاضة حتى "سقوط النظام وانعقاد المجلس الوطني الموسَّع في الداخل". وفي آذار/مارس اقترح اللبواني تبعاً لذلك تشكيل جمعية وطنية انتقالية من شأنها أن تشكّل بدورها حكومة في المنفى كذراع تنفيذية لها "مسؤولة عن تنظيم كل الفعاليات في الخارج والداخل".
إلا أن المجلس الوطني لم يقم بمحاولة الانتقال إلى داخل سورية. فقد تردّد تماماً إزاء تشكيل سلطة انتقالية خشية أن تحلّ هذه السلطة محلّه كممثل للمعارضة السورية. كان تردّد المجلس مفهوماً، إلا هذا كان يعني بأنه غير قادر على تطوير نفسه إلى ماهو أكثر من مجرد هيكل تمثيلي يفتقر إلى القدرات القيادية الحقيقية والقدرة التنفيذية. وكان المجلس قد أعلن عن تأسيس قائمة طويلة من "المكاتب التنفيذية" أضفت عليه مظهر حكومة في المنفى في أوائل آذار/مارس 2012، لكن لم يتم تفعيل أي منها تقريباً أو توفير طواقم العاملين لتعمل بكامل طاقتها. الاستثناء الوحيد كان مكتب الإغاثة والتنمية، والذي استفاد من رئاسة طيفور المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين له، وعمل إلى حدّ ما كغطاء لشبكات الجماعة نفسها.
وقد كشفت الحسابات المالية المنشورة للمجلس الوطني عن مدى افتقاره إلى القدرة التنفيذية. وفقاً للبيان الذي صدر عنه في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، أنفق المجلس مبلغ 26.4 ملايين دولار على أعمال الإغاثة الإنسانية، أو 65 في المئة من أصل 40.4 ملايين دولار هي قيمة التبرعات الرسمية التي تلقاها من ليبيا وقطر والإمارات العربية المتحدة خلال العام المنصرم. كان هذا أمراً محموداً، ولكنه كشف عن عدم رغبة مجموعة أصدقاء سورية في تخصيص الموارد بحجم أكبر لهيئة غير مختبرة ومضطربة سياسياً. وكانت مجموعة أصدقاء سورية قد حدّدت المجلس الوطني كقناة رئيسة لتقديم المساعدة الإنسانية في الأول من نيسان/أبريل، ولكن الجهات المانحة الرئيسة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، واللتان تبرعتا بنحو 200 مليون دولار في تلك الفترة، لم تظهرا ثقة كبيرة في قدرة المجلس على إدارة وتوزيع المساعدات على نطاق واسع على نحو فعّال. وفضّلت الدولتان بدلاً من ذلك توجيه مساهماتهما من خلال المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
الحال نفسها تنطبق على المساعدات الأميركية والبريطانية غير القتالية إلى المعارضة، التي وصلت قيمتها إلى نحو 50 مليون دولار، والتي أنفقت على معدات الاتصالات وتدريب الناشطين المدنيين من سورية. أمكن للمجلس الوطني السوري، أو بالأحرى بعض الفصائل المكوّنة له، التأثير في اختيار المجالس المحلية أو اللجان القاعدية التي ستتلقّى التدريب، لكنه لم يتعامل مع الأموال أو إدارة البرامج. وفي بعض الحالات أرسلت الجهات المانحة ممثّلين عنها إلى المناطق المحرّرة لتقديم الأموال نقداً مباشرة إلى المجالس المحلية لاستخدامها في شراء احتياجاتها مثل مولّدات الكهرباء.
بل كانت فصائل المجلس الوطني نفسها تفضّل أيضاً جمع وصرف الأموال خارج إطاره. وكان هذا الأمر ملحوظاً بصفة خاصة في حالة الإخوان المسلمين، وهو ما أتاح لأعضائها وشبكات المتعاطفين معها بتوجيه التبرعات مباشرة إلى لجان الرعاية الاجتماعية والإغاثة التي يفضلونها داخل سورية. الأمر نفسه كان ينطبق إلى حدّ كبير على المنتدى السوري للأعمال، الذي دخل حظيرة المجلس الوطني في أيار/مايو 2012. كان الهدف المعلن للمنتدى هو إنشاء صندوق دعم للمعارضة بقيمة 300 مليون دولار، لكن استعراض أنشطته المعلنة، وكذلك حسابات المجلس الوطني، يبيّن أنه إما لم يكن فعّالاً في جمع التبرعات أو أنه اختار عدم صرف الأموال من خلال المجلس الوطني.
لعبة التمثيل ومشكلاتها السياسية
عدم قدرة المجلس الوطني أو عدم رغبته في تكريس نفسه لإنجاز هذه المهام عرّضه لانتقادات متزايدة داخل صفوفه وإلى تنامي خيبة الأمل بين الناشطين والثوار وعامة الناس في سورية. وقد تمثّل ردّه المألوف على ذلك – وللتطورات الدبلوماسية غير المتوقعة التي تشكّل تهديداً محتملاً– في تأكيد صفته التمثيلية. جاء هذا على شكل الإعلان المتكرّر عن مراجعات تنظيمية وإعادة هيكلة داخلية، كان الهدف المعلن لها جعل المجلس أكثر فعالية وشمولاً. ولكن لم يتغير سوى القليل في الواقع، ما أسفر عن اعتراضات مستمرة وانقسامات متكرّرة.
أعطى المجلس الوطني السوري مؤشراً مبكراً على "لعبة التمثيل" التي يمارسها عندما أعلن عن عملية إعادة تنظيم وشيكة "للبيت الداخلي" في منتصف شباط/فبراير 2012. كان هذا يهدف في الظاهر إلى إدراج جماعات المعارضة الإضافية في صفوفه، ولكن كان من الواضح أن توقيت الإعلان ارتبط بتوقّع المجلس الحصول على الاعتراف الدولي في الاجتماع الأول لمجموعة أصدقاء سورية، المُقرَّر عقده في 24 شباط/فبراير. وراء الستار، بدا من الواضح أنه ليس لدى المجلس مايكفي من السيطرة لتولّي إدارة عملية إعادة هيكلة من هذا النوع. وتزامن الإعلان مع انشقاق ضارّ، حيث انفصلت كتلة كبيرة من المنشقين بقيادة ناشط حقوق الإنسان المخضرم، هيثم المالح، في 19 شباط/فبراير لتشكل مجموعة العمل الوطني السوري. وبحلول منتصف مارس كان المجلس الوطني قد خسر مايقرب من ثلث أعضائه الـ270.
كان المجلس الوطني السوري لايزال يترنّح عندما أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بياناً رئاسياً يؤيّد خطة السلام الخاصة بسورية المؤلفة من ست نقاط والتي اقترحها المبعوث الخاص المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، كوفي أنان. وقد دعا البيان إلى بدء "عملية سياسية شاملة بقيادة سورية" من دون استبعاد الأسد أو اشتراط رحيله كما طالب المجلس الوطني السوري. وعلى الفور وصف المجلس الوطني خطة أنان بأنها تقدّم للنظام "فرصة للمضيّ قُدُماً في أعمال القمع الهادفة إلى سحق ثورة الشعب السوري". بيد أن مجلس الأمن صوّت على الخطة بالإجماع وبدعم من الأعضاء الرئيسيين في مجموعة أصدقاء سورية، ولذلك أيّد المجلس الوطني الخطة على مضض.
وفي سلوك نمطي، ردّ المجلس الوطني على هذه الانتكاسة الدبلوماسية بدعوة بقية أطياف المعارضة إلى اسطنبول لبحث إصدار "ميثاق وطني لسورية جديدة" في نهاية آذار/مارس. كانت مسألة توحيد المعارضة مهمّة بالتأكيد، ولكن المجلس الوطني كان يهدف إلى إثبات وجوده ووحدته قبل الاجتماع الثاني لمجموعة أصدقاء سورية في الأول من نيسان/أبريل. لم تتم استشارة فصائل المعارضة في دمشق، ولذلك رفضت الحضور كما هو متوقّع. حضر المجلس الوطني الكردي في سورية، والذي كان يضم يومها اثني عشر حزباً، ولكنه انسحب بعد ذلك احتجاجاً على "تهميشه وإقصائه" بسبب مطالبته بالاعتراف على نحو لا لبس فيه بالحقوق القومية الكردية والدولة اللامركزية في سورية مابعد الأسد.
من الواضح أن المجلس الوطني لم يَرْقَ إلى مستوى ادّعاء رياض الشقفة، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين الذي هو أيضاً عضو في المكتب التنفيذي للمجلس الوطني، بأن "90 في المئة من أحزاب المعارضة ستكون موحّدة بحلول الأول من نيسان/أبريل، تحت مظلة المجلس الوطني". ومع ذلك فقد اعترفت به مجموعة أصدقاء سورية بوصفه "ممثلاً شرعياً لجميع السوريين والمظلة للمنظمات المعارضة الموجودة فيه"، وعيّنته القناة التي تمرّ من خلالها المشاورات السياسية والدبلوماسية الدولية، إضافة إلى جعل المجلس الوطني قناة المساعدات الإنسانية.
لم يأتِ الاعتراف المتزايد من دون ثمن، حيث تعرّض المجلس الوطني لضغوط متجدّدة لتوسيع دائرة القوى المشاركة فيه. وقد ردّ المجلس مرة أخرى بالوعد بإعادة هيكلة نفسه لاستيعاب أطياف أوسع من المعارضة. تبعت ذلك أسابيع عدة من المحادثات تحت إشراف جامعة الدول العربية، لكنها تعثّرت بسبب المنازعات المألوفة حول مكانة الشخصيات القيادية وحصص تمثيل الفصائل المختلفة.
لم يتمكّن المجلس الوطني أيضاً من مواجهة التحدّي الحرج المتعلّق بما يجب فعله حيال أفراد نظام الأسد. في يونيو، رفض رئيس المجلس الوطني آنذاك سيدا الحوار مع الأسد "أو جماعته"، لكنه شدّد على أن المجلس الوطني لايريد اجتثاث حزب البعث تماماً. بعدها سلك المجلس الوطني مساراً معاكساً، حيث وافق في الاجتماع الموسَّع للمعارضة في القاهرة في 3 تموز/يوليو، على العهد الوطني الذي أكّد المبادئ التي ستقوم عليها سورية الديمقراطية، وعلى "الرؤية السياسية المشتركة"، التي تعهّدت بحلّ حزب البعث في بداية المرحلة الانتقالية. وبعد مايزيد عن شهر فقط، غيّر سيدا المسار مرة أخرى، حيث كرر التأكيد أنه بالرغم من عدم إمكانية إجراء حوار مع "من تلطّخت أيديهم بالدماء"، فإن "البقية، سواء في حزب البعث أو الحكومة أو غيرها من المؤسسات… يمكن أن يؤدّوا دوراً في مستقبل سورية".
كان من المفترض أن تشكّل وثائق القاهرة منبراً سياسياً مشتركاً، غير أن المعارضة ظلت مفكّكة كما كانت من قبل. وكان السبب الغالب في هذا أن "الرؤية السياسية المشتركة"، خصوصاً، تركت المعارضة من دون برنامج عمل مفصّل يمكن من خلاله اختبار قدرة الفصائل المتنافسة على القيادة وقياس أدائها. بدل ذلك، ظلت المعارضة الرسمية بصفة عامة، والتي تتكون من منابر وشخصيات معروفة مثل هيئة التنسيق الوطنية، والمجلس الوطني على وجه الخصوص، غارقة في حلقة لاتنتهي من التنافس على المكانة الشخصية والتمثيل الفصائلي الذي أدام عدم الاستقرار التنظيمي والعجز السياسي .
الأهم من ذلك هو أن وثائق القاهرة لم تتضمّن مطالب ومقترحات محدّدة بشأن العملية الانتقالية. كما لم تَسْعَ المعارضة إلى شقّ النظام من خلال عرض دور رسمي في التفاوض على العملية الانتقالية أو شكل سورية مابعد الأسد على الجهات المؤسّسية الفاعلة الرئيسة والقوى الاجتماعية المتحالفة معه.
أعقبت دورة مماثلة من الخطوات السياسية الشكلية صدور بيان جنيف يوم 30 حزيران/يونيو عن "مجموعة العمل الخاصة بسورية"، التي تضمّ الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي وتركيا والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. دعا البيان إلى تشكيل "حكومة انتقالية تملك كامل الصلاحيات التنفيذية"، ويمكن "أن تضمّ أعضاء من الحكومة السورية الحالية وآخرين من المعارضة". إضافة إلى ذلك، أثارت التوقّعات بوجوب تشكيل الحكومة على "قاعدة التفاهم المتبادل" بين الطرفين، احتمال إجراء مفاوضات مع النظام، ماجعل لزاماً على المجلس الوطني أن يثبت قدرته على قيادة معارضة موحّدة.
مرة أخرى، ردّ المجلس الوطني على تطوّر دبلوماسي حرج بعقد محادثات وحدة مع فصائل معارضة أخرى، ولكن هذه المحادثات توقفت كما هو متوقّع بحلول نهاية تموز/يوليو. وتعمّق إحراج المجلس الوطني عندما ضغطت فرنسا وتركيا عليه بغية تشكيل حكومة انتقالية في آب/أغسطس. ردّ المجلس بالإعلان عن خطط لتوسيع عضويته، وهي العملية التي تم تأجيلها مرتين. بحلول ذلك الوقت، كان الناشطون السوريون يتحدثون بصراحة عمّا اعتبره البعض "فشلاً قيادياً ذريعاً" لدى المجلس الوطني السوري.23 في الوقت نفسه، كرّر قادة في المجلس الوطني مثل طيفور بكل ثقة القول إن المجلس سيمثل 90 في المئة من المعارضة بعد إدخال المزيد من الجماعات إلى صفوفه.
توقّف هذا التردّد بصورة مفاجئة عندما صرّحت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون علناً في 31 تشرين الأول/أكتوبر أنه "لم يعد من الممكن النظر إلى المجلس الوطني السوري على أنه القيادة الظاهرة للمعارضة". شجب المتحدثون باسم المجلس الوطني ماوصفوه بـ"الوصاية المباشرة" من جانب الولايات المتحدة، والتي قالوا إنها "تحاول التعويض عن تقصيرها وعجزها عن وقف أعمال القتل والمجازر في سورية". وبشكل أكثر تحديداً، عقد المجلس الوطني على عجل اجتماعاً لكامل أعضائه في الفترة بين 4 و8 تشرين الثاني/نوفمبر. لكن بحلول ذلك الوقت، كانت الولايات المتحدة وقطر، على وجه الخصوص، مصمّمتين على تشجيع تشكيل هيكل جديد يوفّر قدراً أكبر من التمثيل للحراك الثوري ومجالس المدن أو المحافظات في المناطق المحرّرة من سورية. كانت خطتهما تستند إلى "المبادرة الوطنية السورية" التي اقترحها عضو المكتب التنفيذي في المجلس الوطني السوري رياض سيف.
الائتلاف الوطني: فاصل قصير؟
نشر سيف اقتراحه في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 2012، ولكنه كان قد ناقشه مع المقربين والمسؤولين الأميركيين منذ أوائل آب/أغسطس. قدم اقتراحه إلى المكتب التنفيذي في المجلس الوطني في أيلول/سبتمبر، بيد أن انقساماً حادّاً حدث بين زملائه فتمّ تأجيل اتّخاذ قرار. كان امتناعهم معقولاً، إذ لم تكن المبادرة الوطنية السورية تتميز في الواقع عن المجلس الوطني السوري في أغراضها وأهدافها السياسية وهياكلها وعضويتها المقترحة. وقد استنسخ "الائتلاف الوطني"، وهو الهيئة التي كانت المبادرة الوطنية السبب في إنشائها، الديناميات السياسية والتنظيمية للمجلس الوطني.
سياسياً، لم يتضمّن اتفاق الإطار المكوّن من إحدى عشرة نقطة والذي أسفر عن تأسيس الائتلاف الوطني أي مفاجآت. إذ تعهّد بالعمل على إسقاط نظام الأسد بشكل كامل، ورفض الحوار أو التفاوض معه، وأعاد التأكيد على البرنامج السياسي الذي صدر عن المعارضة في اجتماع القاهرة يوم 3 تموز/يوليو. وعد الائتلاف الوطني بتشكيل حكومة مؤقّتة بمجرّد حصوله على اعتراف دولي، وهذا قد يفسح المجال، بعد سقوط النظام، أمام تشكيل حكومة انتقالية يجري اختيارها بواسطة "مؤتمر وطني عام". لم تكن وثيقة التأسيس تتميز عن "المبادرة الوطنية" الأخرى التي كان المجلس العام للمجلس الوطني قد وافق عليها قبل أربعة أيام، إلا في بعض التفاصيل الصغيرة.
تنظيمياً، كانت أوجه التشابه بين المجلس الوطني والائتلاف الوطني قوية كذلك. فقد شكّل الائتلاف الوطني مكتباً رئاسياً وهيئة عامة وهيئة سياسية وسيطة بينهما، وهو مايعدّ صورة طبق الأصل عن هيكلية المجلس الوطني. كان من المفترض أن يكون للائتلاف ثلاثة مكاتب رئيسة – مكتب الإغاثة الإنسانية والمكتب العسكري ومكتب الشؤون القضائية – وثلاث عشرة من اللجان الفنية والمختصّة، تُماثِل المكاتب التنفيذية في المجلس الوطني. وكما هو حال المجلس، ظلت معظم مكاتب ولجان الائتلاف الوطني عموماً مجرد حبر على ورق، باستثناء وحدة تنسيق المساعدات لدولية، وبدرجة أقلّ، لجنتَي الإغاثة ومجالس المحافظات. وعبر تشكيل سبع لجان "طارئة" لمعالجة المهام الدبلوماسية والسياسية واللوجستية الملحّة في 21 كانون الثاني/يناير 2013، استنسخ الائتلاف أيضاً توجّه المجلس الوطني للعمل من خلال لجان ارتجالية بدلاً من تفعيل أجهزته الرسمية تفعيلاً كاملاً.
الائتلاف الوطني ليس مجرّد نسخة عن المجلس الوطني، لكنه نسخ فعلياً لعبة التمثيل التي مارسها المجلس الوطني ومجموعة أصدقاء سورية خلال السنة المنصرمة. تمثّلت إحدى النقاط الرئيسة في نقد كلينتون للمجلس الوطني السوري في أنه لايمثّل معارضي نظام الأسد بالشكل الكافي. ويدّعي الائتلاف الوطني أنه يمثّل المعارضة السورية بشكل أوسع من المجلس الوطني، لكن في ذلك الادّعاء بعض المبالغة.
فيشكّل الأعضاء الحاليون أو السابقون في المجلس الوطني والمقرّبون منه مايصل إلى نصف أعضاء الائتلاف الوطني، من دون احتساب المنشقّين عنه مثل المالح وسيف. إلا أن المجلس الوطني لم يذُب في الائتلاف الجديد. فهو لايزال موجوداً بالتوازي معه. وبقيت عناصر أخرى من المعارضة الرسمية، مثل هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي وتيار بناء الدولة السورية، خارج الائتلاف الجديد أيضاً. وقد مارست الأطر الرئيسة في المعارضة باستمرار لعبة تبديل الكراسي، حيث أعادت تنظيم عضويتها من دون تغيير دينامياتها الداخلية. وحضر نحو 85 في المئة من أعضاء الائتلاف الوطني معظم اجتماعات المعارضة الكبرى، إن لم يكن كلها، منذ حزيران/يونيو 2011.
فضلاً عن ذلك، لايمثّل الائتلاف الوطني المعارضة داخل سورية بدرجة أكبر بكثير مما كان يمثّلها المجلس الوطني. يشغل الحراك الشعبي 35 في المئة من المقاعد الـ41 في هيئة القيادة الوسيطة في المجلس الوطني، أي الأمانة العامة، مقارنة بنحو 20 في المئة من المقاعد في هيئة صنع القرار المقابلة في الائتلاف الوطني، أي الهيئة العامة.
قيل الكثير عن تخصيص أربعة عشر مقعداً في الائتلاف الوطني لمجالس المحافظات في سورية، لكن جميع ممثّليه باستثناء اثنين موجودون في المنفى، بمَن فيهم رئيس الائتلاف، معاذ الخطيب. ويُقال إن اثنتين من أهم شبكات الحراك الثوري المدني، أي لجان التنسيق المحلية والهيئة العامة للثورة السورية، اللتان انضمّتا إلى الائتلاف الوطني في تشرين الثاني/نوفمبر، اعترضتا خطياً لدى المكتب التنفيذي للائتلاف بشأن الاختيار غير المتوازن لممثّلي المحافظات.
وقد سار الائتلاف الوطني أيضاً على خطى المجلس الوطني في عدم تمثيل أحزاب المعارضة السورية الكردية. فقد اتّسعت الفجوة بين جناحي المعارضة بعد أن قطع المجلس الوطني الكردي في سورية محادثات الوحدة مع المجلس الوطني السوري في نيسان/أبريل 2012. وأدّى ذلك إلى انضمام المجلس الوطني الكردي إلى مجلس شعب غربي كردستان في تشكيل المجلس الكردي الأعلى كإطار كردي منفصل في 11 حزيران/يونيو. وكان مجلس شعب غربي كردستان واجهة لحزب الاتحاد الديمقراطي، أكبر حركة كردية في سورية، والذي يرتبط بعلاقات تاريخية وثيقة مع حزب العمال الكردستاني في تركيا، ويجدر الذكر أن حزب الاتحاد عضو في الائتلاف المنافس للمجلس الوطني السوري داخل سورية، هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي. وعلى الرغم من انضمام ثلاثة أحزاب صغيرة في المجلس الوطني الكردي إلى الائتلاف الوطني في تشرين الثاني/نوفمبر، فقد بقيت أغلبية الأحزاب داخل المجلس الكردي الأعلى. في ديسمبر، أعلن الائتلاف إنشاء منصب النائب الثالث للرئيس لتمثيل المعارضة الكردية، لكن المنصب ظل شاغراً. وكان تعيين رئيس مجلس القبائل السورية، سالم المسلط، في المنصب في 20 آذار/مارس 2013، بمثابة مؤشّر على أن الائتلاف الوطني، على غرار المجلس الوطني قبله، قد تخلّى عن الأمل في إدخال التحالفات الكردية في إطار سياسي مشترك.
سرعان ما اضطلع المجلس الوطني وفصيله الأساسي، جماعة الإخوان المسلمين، بدور قيادي في شؤون الائتلاف الوطني، وتبعه التجمع الرئيس الآخر في المجلس الوطني، الكتلة الوطنية. وقد أبرز ذلك عدم الكفاءة السياسية والضعف التنظيمي لغالبية أعضاء الائتلاف الآخرين. فعندما اجتمعت الهيئة العامة للائتلاف في القاهرة، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، لتفعيل لجانه التنفيذية والإدارية واعتماد نظامه الأساسي، على سبيل المثال، بلغت نسبة أعضاء المجلس الوطني والمقرّبين منه 60 في المئة من الحضور. وقد مثلوا الائتلاف الوطني في إعداد ورش العمل الخاصة بالمرحلة الانتقالية، وفي المناقشات حول المسألة الكردية، وفي اللجنة التي قادت المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار بين الجيش السوري الحر والميليشيات الكردية التي تقاتل للسيطرة على بلدة رأس العين الحدودية الاستراتيجية في شباط/فبراير 2013. وعندما عيّن الائتلاف الوطني لجنة للتشاور مع مجموعة أصدقاء سورية بشأن تشكيل حكومة مؤقّتة في 21 كانون الثاني/يناير، كان أربعة من أعضائها الخمسة من المكتب التنفيذي للمجلس الوطني.
لذلك، كان ثمّة قدر كبير من التظاهر عندما منحت مجموعة أصدقاء سورية صفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري للائتلاف الوطني في 12 كانون الأول/ديسمبر 2012، بعد أن حرمت المجلس الوطني السوري منها في السابق.
مواجهة التحدّيات
تتوقّف استمرارية الائتلاف الوطني كمنافس على القيادة على قدرته على تولّي إدارة ردّ المعارضة على ثلاثة تحديات رئيسة، إذ يتعيّن عليه أن يقرّر فيما إذا ومتى وكيف ينقل المعركة إلى المدن السورية الرئيسة أو المراكز السكانية الأخرى. وعليه أن يثبت قدرته على توفير الإغاثة الإنسانية والإدارة المدنية في المناطق التي يسيطر عليها الثوار. ويجب عليه التعامل مع المبادرات الدبلوماسية أو المقترحات السياسية التي قد تنتج أشكالاً من الحكم الانتقالي أو تقاسم السلطة التي لاترقى إلى تغيير النظام بصورة كاملة.
لقد أخفق المجلس الوطني السوري في التغلّب على هذه التحديات. فهو لم يلعب أي دور في نقل المعركة إلى المدن، ولم يُولِ جهود الإغاثة العناية الكافية، كما أن فكرة التعامل مع النظام أم مع الجماعات الموالية له وضعته في موقف دفاعي واضح. وإذا لم يثبت الائتلاف الوطني قدراً أكبر من النجاح في مواجهة هذه التحديات، فإن قيادة الانتفاضة الشعبية والتمرّد المسلح ستنتقل إلى مجموعة متنوّعة من الجهات الفاعلة الأخرى داخل سورية. لكن من غير الواضح ما إذا كانت عصا القيادة ستنتقل إلى هيكل موحّد أو تبقى القيادة موزّعة في ميدان مشرذم.
نقل الحرب إلى المدن
إن قرار الشروع في معركة كبيرة، وخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، ليس قراراً عسكرياً أو تكتيكياً بحتاً، وإنما هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، وله تبعات أخلاقية كبيرة. فالقتال في المناطق الحضرية يؤدّي حتماً إلى حدوث أضرار مادية شديدة، وتفكّك اقتصادي، وتشريد جماعي. ويثقل كواهل المقاتلين بوجوب توفير مقوّمات الإدارة الأساسية والإمداد الغذائي لأعداد كبيرة من المدنيين، ويولّد مشاعر الاستياء عندما يفشلون في الارتقاء إلى مستوى التوقّعات. النظام السوري بدأ بلا شك أعمال العنف على نطاق واسع، مادفع المعارضة لحمل السلاح لحماية المتظاهرين السلميين. لكن، كما يعترف بعض الناشطين، "صحيح أن خيار التسليح لم يكن خيارنا، ولكن الحدّ من نتائجه السلبية مسؤوليتنا الأخلاقية".
بدأت هجمات المعارضة في تموز/يوليو 2012، بيد أنه لم يتم اتّخاذ قرار بنقل الحرب إلى قلب المدن السورية من جانب أي إطار مظلة سياسي في المعارضة، بل اتُّخِذ القرار مراراً من جانب مجموعات مسلحة متباينة، أغلبها يدين بالولاء الإسمي فحسب للجيش السوري الحر، ناهيك عن للائتلاف الوطني أو المجلس الوطني. ويعتبر هجوم الثوار في حلب، الذي بدأ يوم 20 تموز/يوليو، مثالاً على ذلك. فقد عارض رئيس المجلس العسكري المحلي، العقيد في الجيش السوري الحر عبدالجبار العكيدي، بدء معركة كبيرة في المدينة، التي يبلغ عدد سكانها 2.5 ملايين نسمة، وهي المحرّك للاقتصاد السوري. لكن العكيدي شعر بأنه غير قادر على اعتراض طريق لواء التوحيد، وهو جماعة إسلامية مسلّحة شُكِّلَت قبل ثمانية أيام فقط، الذي أصرّ على شنّ الهجوم. غير أن مشاركة الجيش السوري الحر في المعركة بعد بدئها كان يعني تنازله عن زمام المبادرة إلى لواء التوحيد وغيره من الجماعات المسلّحة، غالباً الإسلامية، التي تبعته في وقت لاحق، مثل جبهة النصرة الجهادية. وتسيطر هذه المجموعات مجتمعة على العديد من المناطق المحرّرة في المدينة.
أفاد مَن زار حلب حتى أواخر تشرين الثاني/نوفمبر بأن المنطقة الصناعية الكبيرة في المدينة نجت من عمليات القصف التي قام بها النظام، ولكن تم تجريد مصانع بأكملها أو تفكيكها عندما اجتاحتها مجموعات الثوار بعد ذلك. ووفقاً لتقييم تم تقديمه إلى وزارة الخارجية الأميركية من مصادر سورية تعمل مع الجيش السوري الحر، لم يذكر اسمها، في مطلع كانون الثاني/يناير 2013، فإن "هناك المئات من المجموعات الصغيرة (تضم مابين 10 و20 مقاتلاً) تنتشر في جميع أنحاء منطقة حلب… لقد تحوّل الجيش السوري الحر إلى جماعات متمردة غير منظمة، تخترقها أعداد كبيرة من المجرمين". وأوضح التقييم أن "انتهاكات المتمردين أصبحت ظاهرة طبيعية يومية، وخاصة ضد المدنيين، بما في ذلك نهب المصانع العامة والخاصة والمستودعات والمنازل والسيارات".
من المُسلَّم به على نطاق واسع في أوساط المعارضة أن الثوار يرتكبون انتهاكات من هذا النوع. فقد اعترضت جبهة علماء حلب، في كانون الثاني/يناير 2013، على "الاستيلاء على المخزون الاستراتيجي من القمح والسكر والقطن والنفط والاحتياجات الأساسية للناس"، الذي بيع جزء منه عبر الحدود في تركيا بأسعار بخسة. من ناحية أخرى، وصفت مركز فكر معارض الكثير من عمليات نهب المنشآت الصناعية وتدمير البنية التحتية العامة بأنها "تدمير من أجل التدمير".
بحلول كانون الثاني/يناير 2013، عزا بعض الناشطين المحليين نزوح المدنيين من مناطق محررة معينة إلى أعمال السرقة وفرض الخوّة وانتزاع الأرباح الاستغلالية من جانب الثوار، لا إلى الأعمال القتالية أو الظروف الإنسانية الصعبة.30 وكان قادة الجيش السوري الحر على بيّنة من تأثير ذلك على التأييد الشعبي، وخاصة بين سكان المدن. وفي مقابلة أجريت في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2012، اعترف العقيد قاسم سعدالدين، رئيس المجلس العسكري في حمص، بأسى بأن "الناس في حلب يشعرون بنقمةٍ تجاه الجيش السوري الحر، كما هو حال أهل حمص [المدينة]".
كان واضحاً أنه لا المجلس الوطني ولا الائتلاف الوطني ولا الجيش السوري الحر يمكنه السيطرة على المجموعات المسلّحة المختلفة. وترك ذلك عملية اتخاذ القرار حول كيفية خوض المعركة كلياً في أيدي الثوار المحليين، الذين عملوا وفق خليط من الدوافع ذات النتائج العكسية في كثير من الأحيان. كان أحد هذه الدوافع هو أن الكثير من المدنيين الذين حملوا السلاح والذين جاءوا أساساً من المناطق الريفية المحيطة كانوا يعتبرون أن سكان المدن أبطأوا في الانضمام إلى الانتفاضة. وقد كان هذا مبنياً على مشاعر الغبن السابقة إزاء المكاسب التي حقّقها رجال الأعمال والطبقات الوسطى الحضرية خلال العقد السابق من تحرير الاقتصاد. وبالمثل، دفع الاعتقاد بوجوب أن تتحمّل كل المناطق عبء محاربة النظام على قدم المساواة بتحالف للثوار الإسلاميين لبدء العمليات القتالية في محافظة الرقة في أواخر تشرين الأول/أكتوبر2012. ولأن الرقة كانت هادئة نسبياً، فقد لجأت أعداد كبيرة من المدنيين الذين شرّدهم العنف في حلب إلى هناك، وقدّرت وحدة تنسيق المساعدات الدولية في الائتلاف الوطني عددهم بأكثر من 900 ألف بحلول كانون الثاني/يناير 2013. لذلك هدّد فتح الجبهة الجديدة – والاستيلاء في نهاية المطاف على عاصمة المحافظة في أوائل آذار/مارس – بتهجير النازحين مرة أخرى وزاد من صعوبة إيصال مواد الإغاثة.
لكن على الرغم من التبعات المصاحبة لهذه الأعمال، فشل المجلس الوطني السوري، وفيما بعده الائتلاف الوطني، في صياغة موقف واضح من نقل المعركة إلى المدن السورية. كما لم يؤكد المجلس أو الائتلاف زعامتهما السياسية في مايتعلق بالاشتباكات بين ثوار المعارضة والمقاتلين الأكراد في حلب في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2012، والاشتباكات المتكرّرة في بلدة رأس العين الحدودية بين تشرين الثاني/نوفمبر وشباط/فبراير 2013، بالرغم من أن هذه الاشتباكات كانت تشكّل تهديداً مباشراً لتحالفات المعارضة السياسية.
ولعلّ الأمر الخطر بالنسبة إلى المسار المستقبلي للصراع هو فقدان القيادة الاستراتيجية في المعركة المقبلة العاصمة السورية. فمعركة "بركان دمشق"، التي شُنَّت في منتصف تموز/يوليو 2012، كانت عملاً مرتجلاً أطلقته جماعات محلية تنتمي بصورة هلامية فقط إلى الجيش السوري الحر، وأسفرت عن خسائر جسيمة في صفوف الثوار. واتَّبعت "معركة دمشق" التي تصاعدت منذ أواخر تشرين الأول/أكتوبر، نمطاً مماثلاً. فقد أخذ الثوار المحليون وفي طليعتهم كتائب أحرار الشام الجهادية، زمام المبادرة، لكنهم تلاشوا في نهاية الأمر عندما ألحقت قوات النظام بهم خسائر فادحة واستعادت السيطرة في منتصف كانون الثاني/يناير 2013.
تشكّل دمشق تحدّياً خاصاً بالنسبة للائتلاف الوطني. فإذا لم يتمكّن من فرض سيطرته على توقيت ووتيرة وإدارة معركة العاصمة – إذا ماقرّر خوضها أصلاً – فمن المؤكد عندها أنه لن يكون سوى واحد من بين العديد من المتنافسين على السيطرة السياسية في أعقاب هزيمة النظام أو انسحابه من المدينة. بيد أنه ليست هناك أدلّة تذكر على أي قدرة أو إرادة لدى الائتلاف الوطني لممارسة مثل هذه السلطة، ولا وعي حتى لديه بأن ثمّة حاجة إلى ذلك. في الواقع، عندما اشتدّ القتال في دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2012، بادرت لجان التنسيق المحلية، لا الائتلاف الوطني، إلى دعوة مقاتلي المعارضة إلى ضمان تجنيب العاصمة المصير المدمّر "في جميع المدن السورية الأخرى".
الإغاثة الإنسانية
تواجه الحركات الثورية المسلحة دائماً تحدّيا كبيراً في توفير الإدارة المدنية الفعّالة والإمداد الموثوق من السلع الأساسية كالغذاء والوقود والدواء للسكان المدنيين الخاضعين إلى سيطرتها. ويكون مصير الحركات التي تفشل في توفير ذلك الانعتاق حتماً. وهذا يتطلّب جهداً وتنظيماً لاينقطعان، مثلما هو الحال بالنسبة لإيصال المساعدات الدولية، الأمر الذي يتطلب أيضاً إدارة وشبكات توزيع فعّالة.
كانت مجموعات الثوار الإسلامية أو المستقلة في سورية هي الأسرع حتى الآن في كثير من الأحيان من الائتلاف أو المجلس الوطني في التعرّف على الاحتياجات وتلبيتها. وكان لواء التوحيد السلفي أول من عالج الحاجة إلى إيجاد أجهزة أمنية ونظام قضائي فاعل في حلب، على سبيل المثال. وقادت جبهة النصرة الجهادية الجهود، منذ أواخر العام 2012، لتوفير الغذاء والوقود، والفصل في المنازعات، ومنع النهب في أحياء مدينة حلب والقرى الواقعة تحت سيطرتها. وفي 10 آذار/مارس 2013، شكّلت الجماعات الإسلامية، بما فيها جبهة النصرة، "هيئة شرعية في المنطقة الشرقية في سورية" لإدارة شؤون الحياة اليومية في دير الزور، تضم مكاتب خاصة بأعمال الإغاثة الإنسانية والخدمات والمصالحة وتسوية المنازعات، وكذلك الدعوة الدينية والفتاوى إضافة إلى قوة شرطة تنفيذية.
في المقابل، لم يكرّس المجلس الوطني السوري نفسه بما فيه الكفاية للقيام بهذه المهمة. فقد وفّر بعضاً مما لديه من تمويل لأفراد أو لجان داخل سورية لاستخدامه في عمليات الإغاثة، لكن المجلس فشل، كما أشار ناشطون بمرارة، في إنشاء قاعدة دعم لوجستي مهمة في جنوب شرق تركيا. كانت الفرصة سانحة للقيام بذلك. فقد كان المجلس الوطني السوري يتمتّع بعلاقات عمل جيدة مع السلطات التركية، والتي سمحت بالانتقال إلى سورية من دون قيود تقريباً منذ أن انتزع الثوار السيطرة على المعابر الحدودية في تموز/يوليو 2012. ومع ذلك، بحلول تشرين الثاني/نوفمبر، أي بعد مرور ثمانية عشر شهراً من نزوح الموجة الأولى من اللاجئين من مدينة جسر الشغور في شمال غرب سورية، لم يكن المجلس الوطني السوري قد أنشأ بعد مكاتب دائمة للمعونة أو نظام إمداد لإيصال أهم المواد الضرورية إلى المناطق المحرّرة، كوقود تشغيل مولدات الكهرباء للمستشفيات الميدانية والمخابز ومضخات المياه والتدفئة. كذلك، لم يحاول القيام بعملية مسح منظّمة للاحتياجات وجمع البيانات.
جاهد الائتلاف الوطني للإمساك بالأمور منذ تشكيله في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. فقد تم تسليط الضوء على حجم التحدي وتعقيداته السياسية عندما أَذِنَت الحكومة السورية لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في منتصف كانون الثاني/يناير 2013 بالعمل مع المنظمات غير الحكومية المحلية لتوزيع معونات غذائية بقيمة 519 مليون دولار. كان البرنامج يقدم المساعدات بالفعل لما يصل إلى 1.5 ملايين سوري شهرياً عن طريق الهلال الأحمر العربي السوري الخاضع لسيطرة الحكومة، لكن الاتفاق الجديد سمح له بالوصول إلى مليون شخص إضافي من السوريين المحتاجين. احتجّ الائتلاف الوطني بقوة على تقديم المساعدة، معتبراً أنه لا "يعقل أن يقوم النظام بتهديم المدن وقصف المستشفيات والمخابز وتهجير السكان ثم تقدَّم له المساعدات ليعالج بها ما اقترفت يداه".34 وقدّمت وحدة تنسيق المساعدات الدولية في الائتلاف نفسها على أنها بديل أكثر فعّالية وإنصافاً لتوزيع المساعدات، مشيرةً إلى "أن مايزيد عن عشرة ملايين مواطن يقطنون هذه المناطق [المحرّرة]، أي مايقرب من نصف عدد سكان سورية"، ولكن تتلقى هذه المناطق 10 في المئة فقط من حاجتها.
يقرّ الناشطون السوريون بأن مجموعة أصدقاء سورية لاتثق في القدرة العمليانية للائتلاف الوطني لتوزيع المساعدات الدولية على نطاق واسع، وهم يشعرون بالاستياء من ذلك. وتشكّل قدرة الائتلاف على توفير الأمن مصدر قلق إضافياً، حيث تعرّضت قوافل الغذاء والوقود التابعة للأمم المتحدة أحياناً إلى الهجوم من جانب الثوار. في أواخر شهر كانون الثاني/يناير، أقرّ رئيس الائتلاف الوطني الخطيب بأن "كثيراً من مواد الإغاثة قد سُرِقَت أو نُهِبَت من قبل عصابات تستغل الانفلات الأمني".
ونتيجة لذلك، ظلت المساعدات المباشرة المقدمة للائتلاف الوطني ضئيلة. وقد تم تخصيص كل المساعدات الإنسانية الدولية حتى منتصف شباط/فبراير – بما في ذلك مبلغ 230 مليون دولار و477 مليون دولار من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على التوالي، بحلول بداية العام 2013، والتزامات جديدة تبلغ 1.5 مليارات دولار تم التعهد بها في مؤتمر المانحين في الكويت في كانون الثاني/يناير – كي يتم صرفها من خلال الأمم المتحدة ووكالاتها. وحتى يوم 19 كانون الثاني/يناير، لم يكن الائتلاف الوطني قد تلقّى سوى مبلغ 8 ملايين دولار من قطر، وزّعه على مجالس المحافظات الأربع عشرة في سورية، ومبالغ أصغر من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لإغاثة اللاجئين.
لكن وحدة تنسيق المساعدات في الائتلاف الوطني تلقّت مساعدة مالية وفنية من المملكة المتحدة ومنظمات دولية غير حكومية مكّنتها من إنجاز أول دراسة مفصّلة للاحتياجات الإنسانية في كل منطقة شمال سورية في أوائل العام 2013. بدا إعلان قطر في 20 شباط/فبراير بأنها ساهمت بمبلغ 100 مليون دولار لمساعدة وحدة التنسيق وكأنّه مؤشّر على حدوث تحوّل كبير، مع أن أعضاء بارزين في الائتلاف نفوا أن يكون قد تم استلام شيء من ذلك بحلول منتصف آذار/مارس. وأعقب ذلك تعهّد الولايات المتحدة، في اجتماع أصدقاء سورية في 28 شباط/فبراير، بتقديم ماقيمته 60 مليون دولار من المساعدات المدنية للمعارضة، إلى جانب زيادة المساعدات الإنسانية.
زعم الائتلاف الوطني مراراً وتكراراً، على غرار المجلس الوطني قبله، أن في وسعه أن يكون أكثر فعّالية من الناحية العمليانية، ويمكن أن يثبت قدرته على القيادة، إذا ماقدمت له الجهات المانحة مساعدات كبيرة. لقد قدمت الزيادة في مساعدات أصدقاء سورية بُشرى جيدة، غير أنها أكّدت في الوقت نفسه على الحاجة إلى البُنى المدنية المحلية المُمكَّنة والقادرة على إدارة المساعدات واستخدامها بشكل فعّال. والائتلاف الوطني يواجه مهمّة شاقّة في هذا المجال.
التحدّيات السياسية
من المرجّح أن تواجه المعارضة السورية احتمال التعاطي مع بعض أعضاء النظام. وكان ميشال كيلو، الكاتب المستقل وأحد مؤسّسي المنبر الديمقراطي السوري، من بين مَن أدركوا حاجة الائتلاف الوطني إلى أن يخطّط لحلٍّ عبر التفاوض، لكي يكون في موقع أفضل لفرض شروطه، "وإلا وجدت [المعارضة] نفسها مجبرة على الاستسلام لما يُعرَض عليها من الخارج".
من غير المحتمل أن يشبه انهيار النظام القائم هروب الدبلوماسيين ومشاة البحرية الأميركيين على عجل عند سقوط العاصمة سايغون في يد القوات الفيتنامية في نيسان/أبريل 1975، فلن يهرب آخر مستشار روسي من دمشق وهو يتعلق بمزالق طائرة هليكوبتر تقلع من سطح السفارة. بل الأرجح هو أن تتم عملية إعادة اصطفاف وترتيب داخل النظام – عندما لايعود في وسع الرئيس السوري الحيلولة دون حدوث ذلك أو ردعه – بحيث تدفع قطاعات مهمة من جهاز الدولة وحزب البعث والجيش باتجاه تحوّل حاسم للتوصّل إلى حلٍّ تفاوضي للصراع.
أشار نائب الرئيس السوري فاروق الشرع إلى وجود "قوة ثالثة" من هذا النوع خلال مقابلة أجريت معه في منتصف كانون الاأول/ديسمبر 2012، قال فيها إن "كثيرين في الحزب [البعث] والجبهة [الوطنية الحاكمة] والقوات المسلحة يعتقدون منذ بداية الأزمة وحتى الآن أنه لابديل عن الحل السياسي، ولاعودة إلى الوراء". وقد يمكن لمثل هذه "القوة الثالثة" تامين استقرار العملية الانتقالية من خلال إدارة البلاد وضبط الأسلحة الكيماوية، وقطع الطريق أمام مزيد من النمو للجناح الجهادي في الثورة المسلّحة.
معظم الحكومات التي لديها مصلحة في نتيجة الصراع السوري- وخاصة الولايات المتحدة وروسيا، ولكن أيضاً القوى الإقليمية بما فيها إيران – سترحّب بمثل هذا التطوّر. وسوف تضغط على الائتلاف الوطني للتعامل بشكل كامل مع القوة الثالثة، ماسيُلقي بعبء كبير على تماسك جسم المعارضة ووحدتها.
وحتى لو لم تظهر قوة ثالثة أو تأخذ زمام المبادرة، لايزال الائتلاف الوطني يواجه المسألة الشائكة المتعلقة بكيفية إقناع قطاعات كبيرة من الموظفين المدنيين الذين يتراوح عددهم بين 1 و1.5 ملايين، وأعضاء حزب البعث الحاكم البالغ عددهم 2-2.5 ملايين، والطائفة العلوية البالغة 2.5-3 ملايين، الذين يشكّلون العمود الفقري للأجهزة الأمنية والقوات المسلحة، بالتخلّي عن نظام الأسد. وكما قال أحد نشطاء المعارضة في نهاية شباط/فبراير 2013، فإن على الائتلاف الوطني:
"مخاطبة شريحة كبيرة من المجتمع السوري لاتزال تنضوي في مؤسّسات الدولة، ويتساءل أفرادها ببساطة عمّا سيكون مصيرهم ومصير مؤسّساتهم. وينطبق الأمر على شرائح في الجيش، وحزب البعث، والنقابات، والاتحادات… إلخ. كل هذا يأتي ضمن برنامج سياسي هادف لتفكيك النظام عبر تقسيم صفوفه وعزله عن سنده الاجتماعي، وعزل الدولة ومؤسساتها عنه".
تهرّب المجلس الوطني السوري في السابق من مواجهة هذا التحدي، ولم يواجهه الائتلاف الوطني بشكل مباشر إلى الآن. وضعت المعارضة خطط "اليوم التالي" الجديرة بالثناء لإعادة الخدمات الأساسية والمؤسسات الحكومية، وتوفير العدالة الانتقالية، وبناء نظام ديمقراطي حين يسقط النظام. ولكنها فشلت في وضع استراتيجية سياسية لهزيمة النظام أولاً.
قيادة بديلة على الأرض؟
أثار فشل المعارضة الرسمية في توفير قيادة قوية للانتفاضة إمكانية أن يوفّرها الناشطون والثوار داخل سورية. فكانت مجالس بدائية للمعارضة ولجان قاعدية بدأت في بعض المدن السورية، بحلول آذار/مارس 2012، بمواجهة التحدّيات اليومية المتمثّلة في توفير الإغاثة الإنسانية، وتنظيم الخدمات الأساسية، والردّ على عنف النظام. وظهر المزيد من الهيئات على مستوى المدن والمحافظات والبلدات والقرى في الأشهر التالية. وقد وفّرت هذه الهيئات على الرغم من تفاوتها في كفاءتها وتماسكها، وسيلة لتطوير بنية تنظيمية موازية في المناطق المحرّرة وبرهنت على إمكانية بناء هيئات قيادية على الأرض.
تم تحقيق نجاحات ملحوظة، لكن تطوُّر هياكل القيادة المحلية لايزال متفاوتاً وغير منتظم، وتباطأ جزئياً جرّاء قدرة النظام القمعية. وبالقدر نفسه من الأهمية كان نقص الاستثمار المتواصل من جانب أطر المعارضة في الخارج لتقدم نموذجاً واضحاً، ولتمنح السلطة والموارد بلا مواربة لمقاربات وسياسات معيّنة. لقد كافحت المجالس المدنية على مستوى المحافظات والمدن والبلدات والقرى أيضاً لتفرض سلطة جادّة على المجموعات المسلّحة التي تعمل في مناطقها، والتي غالباً ماتقدم خدماتها الخاصة الموازية للمجتمعات المحلية.
القيادة السياسية المتردّدة على الأرض
تنحو الهيئات المحلية لاكتساب قدر أكبر من البروز السياسي ببطء فقط، ولكن من شبه الحتمي أنها ستعبّر أكثر فأكثر عن تفضيلاتها على صعيد السياسات وتسعى إلى صياغة أجندة المعارضة. فقد أظهرت لجان التنسيق المحلية، والتي يُنظَر إليه عادة باعتبارها شبكة الحراك الشعبي الأوسع انتشاراً داخل سورية، مؤشرات على استقلاليتها السياسية منذ وقت مبكر، فخطّطت سراً، في أيار/مايو 2012، لتنظيم انتخابات لاختيار برلمان معارض وقيادة سرّيين داخل سورية. بيد أن التصعيد الحاد في وتيرة العنف في وقت لاحق من ذلك الشهر أحبط هذه المبادرة، ولكن المحاولة كانت تدلّ على وجود إمكانيات كبيرة للعمل المستقلّ. ففي منتصف شهر أيار/مايو احتجّت لجان التنسيق المحلية علناً على إعادة انتخاب برهان غليون رئيساً للمجلس الوطني السوري وهدّدت بالانسحاب من المجلس بسبب "احتكار" السلطة من جانب قيادته خارج سورية.
تراجعت أهمية لجان التنسيق المحلية في الأشهر التالية بعدما تصاعدت أعمال العنف وتسارعت وتيرة عسكرة المعارضة، ماشجّع بعض ناشطيها على الانسحاب وشجّع آخرين على الانضمام إلى العمل المسلح. لكن اللجان استمرت في ممارسة تأثير مهم، فأدّت دوراً رئيساً في صياغة مدونة السلوك الأخلاقي للثوار، التي أعلن عنها في مطلع آب/أغسطس، وألزمتهم بمراعاة مبادئ حقوق الإنسان.
وأظهر بعض قادة الثوار مؤشّرات على استقلالهم السياسي أيضاً. فإن رئيس المجلس العسكري في حمص قاسم سعد الدين هو الذي أعلن عن مدونة السلوك الأخلاقي للثوار، وحثّ المجالس العسكرية والكتائب الأخرى على التوقيع عليها. وفي 20 آب/أغسطس، اقترح أيضاً "ميثاقاً داخلياً" يلزم المجموعات المسلّحة بعدم الانضمام إلى الفصائل السياسية أو الدينية أو الانخراط في الميدان السياسي في سورية مابعد الأسد. وفي هذه الأثناء، نشر خطة "مشروع الإنقاذ الوطني" لحكم سورية في المرحلة الانتقالية بعد الأسد. اقترحت الخطة تشكيل مجلس أعلى للدفاع يتألف من رؤساء المجالس العسكرية وممثّلي المعارضة المدنية وشبكات الحراك القاعدي، يقوم بإنشاء مجلس رئاسي يتكوّن من ستة قادة عسكريين ومدنيين لإدارة الدولة في المرحلة الانتقالية.
كان مشروع الإنقاذ الوطني أجرأ محاولة تقوم بها أي شخصية أو هيئة معارضة سياسية أو عسكرية أو مدنية داخل سورية. لكن لم يكن المجلس الوطني السوري مستعداً لتشكيل حكومة انتقالية.
فقدان الإطار الإداري
أدرك ناشطو الحراك الثوري أمثال علي الأمين سويد، عضو الهيئة العامة للثورة السورية، في وقت مبكر من صيف العام 2012 أن الدولة "صمّمت لترتبط وجودياً بآل الأسد، فما أن يسقط الأسد حتى تسقط دولته". استلزم ذلك بناء هياكل ثورية مؤقّتة تحلّ محلّ هياكل الدولة التي تفكّكت، إلى أن يُعاد تأسيس دولة سورية مشروعة. ومضى سويد إلى اقتراح هيكل يتكوّن من ثمانية مكاتب – يرأسها مكتب تنفيذي وتُعنى بالمسؤوليات المالية والإغاثية والأمنية والبلدية والطبية والقانونية والعسكرية- يمكن استنساخها في كل جهة محلّية.
وفّر هذا المقترح ونماذج مماثلة قدّمها ناشطون آخرون في الأشهر التالية إطاراً بديلاً للتنظيم والقيادة السياسيين. ومع ذلك، فإن المجالس الإدارية التي بدأت بالظهور في المناطق المتنازع عليها في البلاد مثل مدينة حمص في أوائل العام 2012 تطوّرت بطرق متباينة مع اتساع رقعة المناطق التي يسيطر عليها الثوار ابتداءً من تموز/يوليو. لم يتم بناء إطار سياسي فعّال وشامل يمكنه توفير قدر أكبر من التماسك وتقليل تكاليف التعلّم من خلال التجربة والخطأ. كان المجلس الوطني في وضع يمكّنه من تشجيع وتعميق عملية التكامل الإداري، مايساعد على استنساخ نماذج وتجارب إيجابية ويساعد في عملية التعلّم. إلا أنه لم يجعل من ذلك أولوية له.
في الممارسة العملية، اختلفت كيفية تعامل المجتمعات المحلية مع التحدي بشكل واسع من قرية إلى أخرى أو من حي إلى آخر. فتبنّى بعضها نماذج إسلامية سلفية، فيما خضع العديد منها فعلياً للإدارة العسكرية من جانب كتيبة أو أخرى من الكتائب المسلّحة. بحلول أيلول/سبتمبر، كانت بعض الدول الغربية تعمل أيضاً على تعزيز نموذج مدني متميّز للإدارة المحلية. وتولّى "مكتب دعم المعارضة السورية"، الذي تموّله الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تدريب عدد متواضع من الناشطين المدنيين في إسطنبول، ووزع عملاء الاستخبارات الفرنسية المبالغ النقدية على قرى في المناطق المحررة لشراء المعدّات وتوفير الخدمات العامة وتطوير الإدارة المدنية.
حفّز دعم الجهات المانحة حكماً على تجدّد المنافسة بين الشبكات والمنظمات غير الحكومية التابعة للمعارضة والممثّلة في تركيا. لكن نموذج التدريب المدني الذي تموّله الجهات المانحة الغربية حقّق بعض النجاحات، بالرغم من ذلك، فذاع صيت قرية خربة الجوز في شمال سورية في تشرين الأول/أكتوبر باعتبارها نموذجاً أشرف فيه مجلس مدني منتخب على ورش العمل التدريبية واهتم بالاحتياجات العامة. ووصفه النشطاء السوريون بأنه نموذج رائع للمجالس المحلية التي تمارس السلطة المدنية الكاملة على كتائب الثوار المحلية من خلال ضباط اتصال مدنيين منتدبين.
في الواقع، ثبت أن تطبيق النموذج كان متعرِّجاً وقابلاً للانعكاس. وتؤكّد روايات من الميدان أن المجالس المحلية المدنية ظلت متباينة بشكل واسع في قدراتها واستقلاليتها بحلول آذار/مارس 2013. وفي كثير من الأماكن، احتفظت المجموعات المسلّحة المحلية بالسلطة الحاسمة. ففي بلدة تل أبيض الحدودية، استقطب انتخاب مجلس مدني محلي في تشرين الأول/أكتوبر 2012 اهتماماً إعلامياً كبيراً، لكن ما أن مرّ أسبوع حتى أضرب أعضاء المجلس احتجاجاً على خسارتهم السلطة الحقيقية لصالح القائد العسكري في المنطقة. وجاهدت المجالس المدنية لتأكيد سلطة جادّة على المجموعات المسلّحة التي تعمل في مناطقها، والتي غالباً ماتقدّم خدماتها للمجتمعات المحلية. وفي كثير من الأحيان، انقلبت العلاقة المدنية–العسكرية المرجوّة رأساً على عقب، عندما أنشأت المجموعات المسلّحة هيئات التضامن المدني والدعم الإعلامي الخاصة بها.وفي بعض الحالات انهارت البرامج المدنية التي تموّلها الجهات المانحة "لأن القادة المحليين لايمكنهم الاتفاق". وحتى في مدن مثل تل أبيض، أصبحت جبهة النصرة و"الهيئة الشرعية" تمارس تأثيراً مهيمناً بحلول آذار/مارس 2013.
قصة نجاح آخذة في الظهور؟
بدا أن إنشاء الائتلاف الوطني يقدّم أملاً جديداً في وضع مسألة بناء الهياكل الإدارية المحلية وتعزيزها داخل سورية في مقدّمة سلّم الأولويات. فقد وصفت المتحدثة السابقة باسم المجلس الوطني قضماني، وهي مدافعة قوية عن هذا النهج، ظهور المجالس المحلية في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 بأنه "تطوّر مثير جداً للاهتمام وواعد… لأن الثورة كلها منظّمة على المستوى المحلي، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنها من خلالها تنظيم نفسها لمواجهة النظام". وأضافت قضماني أن "المجالس المحلية تطوّرت لتصبح كيانات حقيقية. وهي تحاول وضع آليات ديمقراطية ليكون لديها تمثيل. وهي في سياق عملية تهدف إلى تجميع وحداتها المختلفة لتطوير تمثيلها على مستوى كل محافظة في سورية، وهناك 14 محافظة".
أكّدت روايات ميدانية ظهور "هيكلية إدارية مدنية متطورة" في حلب. تتألف الطبقة الأولى من المجلس الثوري الانتقالي في حلب وفيه 23 عضواً مدنياً، والثانية من مجالس المناطق والأحياء، والثالثة من المحاكم والشرطة. يشرف المجلس الثوري الانتقالي على 12 لجنة تتولى إدارة عمليات إنفاذ القانون والمخابز والمستشفيات والتعليم من بين قطاعات أخرى. وبالرغم من أنه يركّز بصورة رئيسة على المدينة، يقدم المجلس مستوىً "جنينياً" من الحكومة في المحافظة ككل، وفي منتصف كانون الثاني/يناير 2013، أصدر المجلس مرسوماً يقضي بأن الخدمات التي تقدمها بفضل المساعدة القطرية البالغة مليون دولار، والتي تلقاها من الائتلاف الوطني، سيجري تقاسمها في عموم المحافظة.
من الواضح أن الائتلاف الوطني قد أدّى دوراً صغيراً فقط في تنسيق هذه الهياكل الناشئة. كانت هناك خطوات إيجابية. فقد أشرفت نائب رئيس الائتلاف سهير الأتاسي على انتخابات المكتب التنفيذي لمجلس محافظة إدلب في بلدة الريحانية على الحدود التركية في 13 كانون الثاني/يناير، كما أعاد المجلس انتخاب ممثّله في الائتلاف الوطني. وعقدت الجمعية العمومية الأولى لمجالس المحافظات في إسطنبول يومي 23 و24 كانون الثاني/يناير، وفي 25 من الشهر نفسه أعلن المجلس الانتقالي الثوري في حلب أنه بصدد إعداد مقترح لتنظيم التجارة عبر الحدود المشتركة مع تركيا. كانت العملية الأكثر إثارة للإعجاب، هي التي تم فيها اختيار 224 مندوباً لتمثيل أحياء المدينة والبلدات في حلب ومحافظتها على مدى ثلاثة أيام في أوائل آذار/مارس، وبلغت ذروتها في انتخابهم 29 عضواً لمجلس المحافظة.
بيد أن تقييماً نقدياً نشره، في منتصف كانون الثاني/يناير، غياث بلال، وهو عضو مؤسّس في الهيئة العامة للثورة السورية ومجلس قيادة الثورة في دمشق، قال إن مشاركة الائتلاف الوطني في إنشاء المجالس المحلية "كان لها أثر سلبي أحياناً في العديد من المحافظات". وكما ذكر مؤلفو تقرير ميداني آخر، فإن المجالس المحلية في المناطق المحررة عموماً "لاتزال بعيدة عن كونها راسخة، وهي ليست منفصلة تماماً عن الجماعات المسلحة وتفتقر إلى الموارد، ولايزال التنسيق بينها وبين المؤسسات الوطنية، المجلس الوطني والائتلاف الوطني…، نظرياً إلى حدّ كبير".
إضافة إلى ذلك، يُفترَض نظرياً أن الائتلاف الوطني يعمل على نحو وثيق مع المجلس العسكري الأعلى الذي أعلن عنه يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 2012، حيث تضم القيادة العسكرية الموحدة اسمياً الجيش السوري الحر والمجالس العسكرية وأغلبية الثلثين من الكتائب الثورية داخل سورية. من الناحية النظرية، يختلف المجلس العسكري الأعلى بشكل إيجابي عن جميع هياكل القيادة السابقة، حيث يتكون من مجلس قيادة منتخب من 30 عضواً يضم أحد عشر من الضباط وتسعة عشر من الناشطين المدنيين. ولكن كما هو الحال مع جميع القيادات العسكرية المشتركة السابقة، بقي المجلس العسكري الأعلى عاجزاً بسبب عدم قدرته على دفع رواتب الثوار، ماسلّط الضوء مرة أخرى على المنطق الإشكالي الذي يأمل من خلاله الائتلاف الوطني، ومجموعة أصدقاء سورية، أن يوجدوا القيادة والشرعية. بحلول آذار/مارس 2013، كان أعضاء اللجنة التنفيذية للائتلاف الوطني يقرّون بعيداً عن الأنظار بأن المجلس العسكري الأعلى غير ناشط في الواقع.
يُضاف إلى ماسبق أن عملية تطوير سلطة حاكمة مقتدرة موالية للمعارضة لايزال يعتمد اعتماداً شديداً على توفّر التمويل المستدام من الجهات المانحة. ولايمكن ضمان ذلك، حيث الحاجة إلى زيادة المساعدات الدولية للاجئين السوريين المسجَّلين في الخارج والمهجّرين داخلياً وسواهم ممَّن يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية داخل سورية – فاق عددهم 1.1 مليون (بما في ذلك الأفراد الذين ينتظرون التسجيل)، و2-2.5 ملايين، و4 ملايين على التوالي، بحلول منتصف آذار/مارس – يتصاعد، وربما يؤدّي إلى تحويل الموارد. ومن المفارقات أن الحكومة السورية خفّفت جزئياً مشكلة الإدارة المحلية من خلال الاستمرار في دفع رواتب موظفي القطاع العام في المناطق المحررة، الأمر الذي سمح لهم بالإبقاء على مستوى أولي جداً من الخدمات، مثل جمع القمامة وتوفير الكهرباء والتعليم.
الأمر الأكثر إشكالية، من وجهة نظر المعارضة، هو أنه حتى في الأماكن التي تحسّن فيها توزيع المساعدات والخدمات الأساسية بوضوح، كما هو الحال في بلدة منبج الشمالية، فقد كان السبب في ذلك عموماً هو الحضور المتزايد للمنظمات غير الحكومية الدولية. وفي مسعًى منها لتعزيز مكانة الائتلاف الوطني محلياً، ضغطت بعض الحكومات الغربية على وكالات الإغاثة التابعة لها لنقل عملياتها المحلية الناجحة إلى الائتلاف أو الإقرار له بالفضل على أدائها.
قدّم الكاتب الناشط ياسين الحاج صالح، الذي لايزال مختبئاً في دمشق، تقييماً قاتماً للهياكل المدنية المحلية في بداية مارس 2013. فأشار إلى أن الحراك الثوري قدّم "حيوية متعددة المستويات" تفتقر إليها المعارضة الرسمية، ولكن أضاف:
"هذا ليس للقول إن أحوال مجتمع الثورة أو مجتمعاتها المحلية المتنوعة واعدة ومبشِّرة. فالواقع أنه يمكن التحدث وعن مظاهر انحلال واسعة، وعن تهتّك شديد للروابط الاجتماعية، حتى على المستويات المحلية، وعن انتشار العنف، وعن توسّل العنف لتصفية حسابات متنوعة أو لجني مكاسب خاصة. لاتفي صيغ التنظيم الذاتي بالحاجة في معظم المناطق، ولاتزال عوامل الانحلال والتبعثر والأنانية أقوى حضوراً وأثراً من عوامل الالتئام والتعاون والعمل المشترك".
التحوّل الضروري داخل سورية
مع حلول الذكرى الثانية للانتفاضة السورية في 15 آذار/مارس، ظلّت المعارضة السورية معلّقة بصورة غير مريحة بين الأطر التمثيلية في المنفى، والتي فشلت في توفير قيادة فعّالة، وخليط دينامي وواسع، ولكنه متنوّع على نحو إشكالي، من الهياكل القاعدية داخل سورية. ولاتزال هذه الهياكل غير قادرة على فرض سيطرة كافية على الأرض لحل جوانب الاختلال الوظيفي التي تعاني منها.
المعضلة الحقيقية بالنسبة إلى الائتلاف الوطني هي أنه ليس في وسعه تجنّب التحدّيات التي تواجه قيادته السياسية إلى ما لانهاية ما لم ينتقل إلى داخل سورية. وقد عكس الكاتب المعارض عبدالناصر عايد شعور العديد من الناشطين بقوله: "لو أن المعارضة السياسية السورية كانت مبدعة وديناميكية، وحرة من الداخل بما يكفي، لحسمت أمرها… واتّخذت قراراً تاريخياً بالعودة إلى الداخل، والاندماج مع قوى ثورية، والتفاوض مع النظام وداعميه الإقليميين والدوليين، ومع داعمي الثورة ذاتها، من ذلك الموقع العالي، بدل مساومة النظام، أو استجداء دعم هذه القوة أو تلك".
يحتاج الائتلاف الوطني إلى تشكيل حكومة انتقالية أو سلطة تنفيذية فاعلة تمتلك تفويضاً سياسياً داخل سورية إذا ما أراد الاستجابة للنتيجة التي توصل إليها مركز فكر موالٍ للمعارضة في كانون الثاني/يناير 2013، والتي تقول إنه "يجب أن يكون الاعتبار الأول والأخير حماية المدنيين والحفاظ على الملكية العامة". وإلا فإن هيكلاً حكومياً شاملاً يجب أن ينبثق في نهاية المطاف من الحراك القاعدي لكي يحلّ الائتلاف الوطني القيام بذلك الدور.
إن من شأن التنظيم السياسي أن يمكّن التعلّم والتكيّف. فهو مفتاح الفعالية (تحقيق الأهداف) والكفاءة (تحقيقها بأقلّ تكلفة ممكنة)، ويمكن أن يغيّر المعادلة تماماً. فقد جاهدت المعارضة السورية في ظل غياب هيكل وطني فعّال بغية تعميق التعبئة الاجتماعية، وبناء الهياكل القيادية الإدارية والعسكرية الفعّالة، وتشكيل قيادة وطنية واضحة. ومن دون وجود تنظيم سياسي، فإن التكاليف تتصاعد والهزيمة وتصبح واردة.
من المؤكّد أن لجوء نظام الأسد إلى استخدام العنف بصورة مكثفة وشاملة، زاد من صعوبة مهمة المعارضة في بناء تنظيمات سياسية جديدة داخل سورية بعد بدء الانتفاضة. ولكن هذا لم يعفها من الحاجة الملحّة إلى التغلّب على عائقها الكامن. على العكس من ذلك، فقد جعلت عسكرة الانتفاضة تشكيل أحزاب سياسية "ليس فقط أمراً لايتعارض والحالة الثورية السورية في وضعها الراهن، بل هو ضرورة ملحَّة".
يمكن معرفة مدى أهمية هذا بالنسبة للمعارضة من خلال الأنماط المختلفة جداً في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة الكردية. ولاريب أن تجنيب هذه المناطق أعمال العنف والتدمير الواسعة من جانب النظام سهّل تشكيل إدارة محلية وأمن أولي. بيد أن ماكان يضمن حدوث ذلك هو الوجود المسبق لحزب الاتحاد الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردي في سورية، وقوى أخرى داخل المجتمع الكردي قبل فترة طويلة من بدء انتفاضة العام 2011.
أقرّ رئيس الائتلاف معاذ الخطيب بالفعل بتردّي الأوضاع والفوضى الأمنية في المناطق في مناسبات عدة. ففي كانون الثاني/يناير 2013، أشار إلى "أن كثيراً من مواد الإغاثة قد سرقت أو نهبت من قبل عصابات تستغلّ الانفلات الأمني، وأصبح العديد من حقول النفط في قبضة مجموعات مسلحة، بعضها يحميها وبعضها يسرقها". وعندما أعلن عن تعيين غسان هيتو لرئاسة الحكومة المؤقّتة في 19 آذار/مارس، تطرّق الخطيب إلى هذا الموضوع مجدداً، معتبراً أن هناك مناطق كثيرة تحتاج إلى الضبط، وهناك "عصابات تسرق وتنهب وتعتدي". وشكا ناشطون بارزون من الحراك الشعبي داخل سورية مثل محامية حقوق الإنسان رزان زيتونة من أن النظام يستغلّ فوضى الثوار، مضيفة أنه تجري مضايقة منتقدي الفوضى واعتقالهم من جانب الكتائب المختلفة.
وكما قال العايد في أواخر شباط/فبراير 2013، "تتفاقم مشكلات الداخل بسبب غياب القيادة والرؤية السياسية عن الميدان الثوري، فلا صوت هناك سوى صوت السلاح، وتتأزّم أحوال السكان المدنيين". وقد أقرّ بهذا مقال نُشِر في صحيفة الإخوان المسلمين "العهد"، التي أعيد إطلاقها داخل سورية في 15 شباط/فبراير. فقد كتب مؤلفا المقال أن "فوضى التسليح، وضعف التنظيم، والخلافات بين الكتائب، وانتشار العناصر الفاسدة في صفوف الجيش السوري الحر وعدم وجود مؤسّسة قادرة على ضبط التجاوزات ومعاقبة المخطئين كانت من أبرز الثغرات التي نَفَذَ المرجفون من خلالها في محاولة لزعزعة ثقة الثوار بثورتهم المباركة".
بطبيعة الحال، يمكن لتشرذم المعارضة أن يكون نعمة في بعض النواحي. فالعديد من ناشطي المعارضة يعتبرون الطبيعة غير المكتملة لجزء كبير من الحراك القاعدي الثوري السوري، بشكلَيه المدني والعسكري، السمة الأساسية والشيء الأثمن فيه. ولاحظ ياسين الحاج صالح، في سياق تأمّله في ذلك نهاية العام 2012، أن "هذا التكوين المتناثر له الفضل الكبير في منع النظام من تحقيق نصر على المقاومة المسلّحة، إذ ليس هناك رأس يمكن قطعه، أو جبهة محدّدة يمكن كسرها". لكنه أضاف أن لتلك الميزة ""الفضل" أيضاً في الحدّ من فاعلية المقاومة المسلحة بفعل ضعف التنسيق والعمل المنظّم". وخلص إلى أن "القوة الفاعلة، الحيّة، هي الثورة، وهي قوة كثروية وفوضوية وهدامة".
قدم زهير سالم، المتحدث الأول باسم جماعة الإخوان المسلمين في سورية، في نهاية كانون الثاني/يناير 2013 نقداً صريحاً استثنائياً وشاملاً بالمقدار نفسه للجناح المدني في المعارضة. فكتب:
"إن هذه الثورة السورية العفوية المباشرة العظيمة لم يتح لها… أن تنتج قيادة سياسية تكافئ فعلها الثوري وتغطيه وترشده وتعين على تحمّل مسؤولياته… لم ينجح أي فصيل سياسي معارض كلاسيكي… أن يوفي باستحقاقات الثورة الإدارية أو السياسية أو الإنسانية أو حتى الإغاثية لا كل هذه الاستحقاقات ولاحتى عُشرها… لم أسمع عن أي فصيل سياسي إسلامي أو علماني مدني أو ديني استبدل شخصاً وفاءً لاستحقاقات مرحلة لم يكن أحد مستعدّاً لها، ولا هو متنبّئ بها".
وبعد بضعة أسابيع، أضاف سالم باستخفاف ظاهر أن قيادة المنفى تتكوّن من "هواة"، وهو لقب استخدمته أيضاً سهير الأتاسي، النائب الثاني للائتلاف الوطني ورئيسة وحدة تنسيق المساعدات الدولية فيه، لوصفه في منتصف آذار/مارس.
إن الفرصة سانحة لنقل القيادة الفعّالة إلى داخل سورية. فالمعارضة تسيطر على مساحات واسعة من الشمال السوري، وعلى معظم المعابر الحدودية مع تركيا والعراق، وأكثر من نصف حلب، وقد ضيّقت الخناق على دمشق منذ تشرين الثاني/نوفمبر. المناطق المحررة تؤوي حوالي عشرة ملايين شخص، أو 40 في المئة من سكان سورية. فضلاً عن ذلك، شجّعت المكاسب التي حقّقها الثوار وعدم قدرة قوات النظام على استعادة المواقع المفقودة، زعماء المعارضة على الإعلان مراراً أن سقوط النظام بات "وشيكاً".
ومع ذلك، من الواضح تماماً أن قادة المعارضة في الخارج غير راغبين في العودة إلى سورية. فقد عَبَر رئيس المجلس الوطني السابق غليون الحدود لفترة وجيزة في حزيران/يونيو حزيران 2012، وتبعه في تشرين الأول/أكتوبر خَلَفُه عبدالباسط سيدا ثم سهير الأتاسي. بيد أن هذه الزيارات لم تكن أكثر من فرصة لالتقاط الصور – ارتدت من أجلها الأتاسي الزي العسكري – وصفها زميلهم الناشط كمال اللبواني بأنها "هزلية". في شباط/فبراير 2013، أمضى جورج صبرا، رئيس المجلس الوطني، ووفد كبير ضمّ سيدا وطيفور وأحمد رمضان، من بين شخصيات أخرى، أربعة أيام في المناطق المحررة. ولاحقاً زار رئيس الائتلاف الوطني الخطيب منبج وجرابلس لفترة وجيزة يوم 3 آذار/مارس، وتبعه رئيس الحكومة المؤقّتة غسان هيتو في زيارة مختصرة كذلك إلى ضواحي حلب بعد ثلاثة أسابيع.
سوف يحتاج الأمر لما هو أكثر بكثير من الجولات السريعة كهذه لتبديد الرأي لدى البعض أن قادة المعارضة "الذين يتشدّقون بدخول الأراضي السورية ثم يخرجون منها كالسائحين". ويمكن لتشكيل حكومة مؤقتة داخل سورية أن يحدث فرقاً أساسياً، ولكن فقط إذا كانت تتمتع بالتمكين السياسي وبالسلطة اللازمة لوضع السياسات، وتحديد الأجندات، ورسم المسار للهياكل المدنية والعسكرية التي تخوض فعلياً الصراع اليومي ضد نظام الأسد.
ماذا بعد الائتلاف الوطني؟
ليس من المستغرب أن من يقاتلون لإعادة توجيه الانتفاضة السورية يرون أن ثمّة فرصة سانحة. فبغضّ النظر عمّا إذا كانت الأزمة السورية تتجّه نحو مزيد من العنف والتفكّك أم نحو مرحلة انتقالية عن طريق التفاوض، ستصبّ في مصلحة الآخرين الساعين إلى القيادة. فقد ورد في تقييم لقائد ميداني من جبهة النصرة صدر في أوائل العام 2013، على سبيل المثال، أن الائتلاف الوطني "هشّ للغاية، ويواجه العديد من الصراعات والانقسامات الداخلية، ورغم الطريقة التي تم تسويقه من خلالها فهو يفتقر إلى الحضور على الأرض".
في الطرف الآخر من الطيف، أطلقت مكونات المعارضة الرسمية التي رفضت الانضمام إلى الائتلاف الوطني، بقيادة هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديمقراطي وتيار بناء الدولة السورية في 29 كانون الثاني/يناير، مبادرة سياسية جديدة للتوصل إلى حلّ عن طريق التفاوض مع النظام من دون شروط مسبقة، على أساس صيغة منقّحة من بيان جنيف الصادر في حزيران/يونيو 2012. ونشرت لجنة متابعة خطّة مفصّلة لعملية انتقالية وأعلنت تشكيل التحالف المدني الديمقراطي في 6 آذار/مارس 2013، للسعي من أجل إيجاد "حلّ سوري".
لم يتمكّن الائتلاف الوطني من انتزاع زمام المبادرة السياسية والدبلوماسية أو توجيه التعبئة الجماهيرية والثورة المسلّحة داخل سورية، كما يتوجّب عليه إذا أراد أن يمارس القيادة. وعلاوة على ذلك، أعاق تردّده في الانتقال إلى المناطق المحرّرة وتشكيل حكومة مؤقتة أو سلطة تنفيذية – على الأقل حتى آذار/مارس – قدرة المجالس المحلية على توفير الإدارة المدنية والقيادة العسكرية الفعالة والتحوّل إلى قيادة سياسية بديلة. لم تتح للائتلاف الوطني سوى أضيق الفرص لتأكيد ذاته، ولكن وقته كان قد انقضى بالفعل حتى قبل إعلان رئيسه الخطيب عن نيّته الاستقالة. والسؤال الآن، كما طرحه أحد ناشطي المعارضة بعد شهرين فقط على تأسيس الائتلاف، هو "ماذا بعد الائتلاف الوطني؟" هل تكون الحكومة المؤقّتة؟
يجب على المعارضة السورية ومجموعة أصدقاء سورية التصدّي لهذا السؤال. فما كان للائتلاف الوطني أن يظهر إلى حيز الوجود لولا عملية الضغط الواضحة – التي قادتها الولايات المتحدة رغم نفيها العلني لذلك – على المجلس الوطني والجماعات والشخصيات المعارضة الأخرى للانضمام إليه. لم تكن تلك، كما اشتبه بعض الناشطين السوريين، مؤامرة شريرة لإنشاء هيئة مطواعة من شأنها أن تتوصل إلى اتفاق بغيض مع نظام الأسد. بدلاً من ذلك، هي تعكس استمرار سعي مجموعة أصدقاء سورية للمساعدة في إيجاد قيادة فعّالة وشرعية للمعارضة، في الوقت الذي تكشف محاولات أصدقاء سورية محدودية الوسائل المتاحة لها للقيام بذلك.
منذ ذلك الحين حاولت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بشكل خاص، بتكتّم ورويّة رعاية هياكل محلية تتوفّر فيها قابلية القيادة داخل سورية، مثل المجلس العسكري لمدينة حلب ومجلس المحافظة المدني المنتخب. لكن مع أنهما شخّصتا الحاجة بشكل صحيح وحدّدتا بديلاً مجدياً، إلا أنهما لاتمتلكان القدرة الحقيقية لتحقيق ذلك. وأدّت المحاولة الرامية إلى التأثير في السلوك وتحقيق النتائج المرجوّة من خلال توفير التمويل والموارد الأخرى لمستفيدين مفضَّلين يتم انتقاؤهم، إلى تعزيز المنافسة المختلّة وإلى الإتيان بنتائج عكسية. فالقيادة تُكتَسب ولاتُمْنَح.
هذا هو الدرس الذي سيحسن الائتلاف الوطني صنعاً إن هو تنبّه إليه. إذ يبقى إظهار القدرة على القيادة السياسية هو التحدّي الرئيس الذي يواجهه أولاً وأخيراً. ولدى الائتلاف سبب وجيه للشعور بالإحباط تجاه مختلف أصدقاء سورية، الذين يلتزمون في الوقت نفسه بإيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية، وبرحيل الأسد، وبدعم العمل المسلح ضدّه. غير أن العيب الرئيس في الائتلاف الدولي هو أنه راعى وهم الائتلاف الوطني أن في وسعه إحداث تغيير دائم وديمقراطي في سورية من دون إشراك الجهات الرئيسة السياسية والمؤسّسية الفاعلة من الطرف المقابل في المفاوضات الرسمية حول ملامح ومسار المرحلة الانتقالية.
ينبغي على الائتلاف الوطني أن يتكيف مع هذا المسار المؤلم والصعب قبل أن تُدمَّر الدولة والبنية التحتية السورية على نحو غير قابل للإصلاح. وعليه أن يعترف أيضاً بمجالس المحافظات داخل سورية كشريك في القيادة السياسية ويسعى إلى تمكينها ومنحها امتيازات للقيام بهذا الدور، بدلاً من التعامل معها باعتبارها ذراعاً تنفيذية أو مجرد مساعد سياسي. وإذا لم يكن بوسعه أن يعهد إلى المجالس بهذا المستوى من السلطة والمسؤولية، فلمَ خضع الثوار المسلحون إلى سلطتها – أو سلطة الحكومة المؤقتة – ولمَ يأتمن الشعب السوري بالائتلاف الوطني على مستقبله؟