‘المنفذ’ .. منفذ سردي لكسر حوائط الواقع
عبارة مفتاحية:تمثل رواية المنفذ لمبدعها حسن زين العابدين منفذا سرديا إلي تجليات قمم الواقع، وعوالم القضية الأم “فلسطين”، وتسعي إلى كسر حوائط الواقع وترقيته إلى الواقع الفني المنشود.
المثقف بين قوسين من الألم: تباينت الآراء حول العلاقة بين الواقع المعيش والواقع الفني في الآثار الأدبية، ولا يمكن بطبيعة الحال تقرير رأي بذاته في مجال الفن الروائي، ولكن من الآراء المقبولة أن الواقعية لا تمثل نقلًا مباشرًا من الواقع، ولكن اختيار مقصود بترقية عناصر من هذا الواقع المعيش ليمثل فنيًا، تحقيق الكشف لمغزي عن الحياة
وحققت رواية “المنفذ” لمبدعها حسن زين العابدين، عبر قوسين من الألم بين مفتتح الرواية وختامها تلك الواقعية الفنية، عبر كسر حوائط الواقع المعيش باستعمال فكرة (المنفذ) بصفته ماديًا ومعنويًا، فالمعني المادي تمثل في مشهدية طريق طوله 3 كم ملئ بالحواجز الأسمنتية التي تجعله طويلًا ملتويًا للسيطرة على الداخلين لغزة (ص 51)، أما معناه المعنوي فتمثل في سبيل الخلاص من اعتقال قمم الواقع الحزين على تفصيل.
كان بوح المثقف المتألم الذي يتعذب بإدراكه ومعارفه ووعيه، وكأنه معتقل في قمقم هذا الواقع الأسيف يبغي النفاذ منه إلى واقع عروبي مغاير يكون أكثر إنسانية وسلامًا، ولم يحقق هذا النفاذ لكنه وخز القارئ ليبادر إلي التغيير المنشود، وفي عبارة لافتة تكشف عن هذا السجن “أن ننحت سراديب وخنادق، نحاول أن نتراص علي جدرانها كالعنكبوت البري …” ص 14.
ومحاولة الخلاص اليائسة كشفتها كلمات الخاتمة، حيث المعرفة كانت طاقة مختزنة لم تحقق النفاذ، يقول: “ضاقت طاقة النور التي كان يختزنها كي ينفذ من خلالها، ثقب في جدار البلاهة كان يتمنى أن يمر من خلاله لكنه للأسف لم ولن يستطع بهذه الطريقة ومن خلال هذا الواقع أن ينفذ بل إنه تأكد من ذلك” ص 130.
والراوي في رحلته للكشف عن محاولة النفاذ كان ينشد واقعه الثاني، ومثل أزمة المثقف العربي في مجابهة واقعه التعيس، يقول: “كنت أولد من رحم لم تلد من قبل مثلي، كنت أنتزع من واقعي المهزوم لواقع أكثر رحابة وعدلًا وانتصارًا، كنت أبحث عن ذاتي خارج إطار الوهم الحديدي الذي فرض على أمثالي ..” ص 32، حيث الشخصية الرئيسة تمثل جيلها مهدور الهوية (بدون اسم)، وهي شخصية شقية بمعارفها وإدراكها ووعيها بواقعها هذا
حيث المثقف الذي تفترش الكتب سريره، ويطالع مطالعة إيجابية “لا بد أن أقرأ، ولا بد أن أفهم ما أقرأ، ولا بد أن أكون رأيًا في مضمون هذا المؤلف”، لكنه يجد ذاته في مجابهة الفعل حيث القول بدون فعل شجرة عقيم، “كلام معقود في كلام”، “أفكار خادعة مخادعة”، عبارات أتت في استهلال فصل أول في الرواية، حيث الفعل المجزوم يقول: “انزووا بين سطور صفحات دفتي كتبكم المظلمة، عودوا من حيث أتيتم، ليس الوقت وقت ظهوركم، الطوفان أتي بالفعل” ص 32.
فالبطل الروائي فنان وصحافي له أعمال درامية يعانق كتبه وأغلفتها علي سريره ويطالعها مرات ومرات، ثم يتماهي مع شخصيات هذه الكتب، فنجد لها حضورًا سرديًا وإعادة انتاجها في إطار فكرة التلقي فتم تجسيم واستدعاء لأبطال تلك الروايات والأعمال الفنية بعامة: “نفضت عن كاهلها تراب السنين وفردت أوصالها وطقطقت ظهرها وتثاءبت وشدت جسدها من تطبيقته التي طالت بين صفحات ورق مهموم ببعض القضايا” ص 28، فنجد سعيد مهران ورؤوف علوان والنداهة وحامد وصلاح عبدالصبور وفيروز ترثي مدينة الصلاة، والفارس صلاح الدين، والتناص المتعدد من نصوص شعرية، وجميعها مكون ثقافي شكل الوجدانات العربية.
وهذا التناص والمعارف علي مستوى إبداعي أو فكرة التلقي الفاعل والمعايشة، حيث تربط مصائر تلك الشخوص بمصير قارئها ومنتجها الجديد البطل الروائي هنا، يقول: “يطل عبدالصبور متأبطًا زهران وهو يلهو بعشوائية” ص 29، وانتج هذا التناص قضية الحوار بين هذه الشخصيات السردية المعاد إنتاجها في رحاب العمل السردي هنا حيث دارت باللغة العامية في أجزاء متعددة بالرواية، وهي القضية القديمة الجديدة حول واقعية اللغة والتعبير، وإن كنت أرى أنها منتجة هنا من رحاب فكرة الجلوس في مقهى شعبي بسيط جدًا في مخيلة البطل الروائي، الذي يبحث عن الشعب، ويجوس في الحارات، ويحشر ذاته في سيارات النقل العام.
والتناص الثقافي لم يقف عند حد المعلومات حول جذور القضايا، أو التوحد مع المطالعات، لكنه اشتمل أيضًا تناصا مع النصوص الشريفة “لا يثمر ولا يغني من جوع” ص 32، “جنة عرضها السموات والأرض”.
ورغم أن البطل حاول كسر الملل الواقعي والانطلاق برحلة إلي غزة فلسطين، لكنه واجه الكابوس، فالمثقف المتحقق الواعي بقضايا أمته تطحن عظامه رحي فعل مجزوم، وواقع مؤلم.
تجليات قمقم الواقع:أما تجليات تدهور الواقع “السجان” روائيًا فتمثلت على مستويين داخلي وخارجي عروبي ممثلًا في قضية القضايا أو القضية الأم “فلسطين”، مع إيجاد الصلة، علي التفصيل التالي:
أما الواقع الداخلي فمثلت ضراوته ما تحدث عنه النقد بالتحول من اللحظة الدرامية إلى درامية اللحظة، بمعنى تبدل اللحظة المأساوية، إلى (درامية اللحظة) بمعني أن الأديب يستطيع أن يستخرج المأساوية من كل لحظة حتى ولو كانت لحظة عادية، يقول النقد: “استخراج المأساة من هذه اللحظات الكثيرة التي يعيشها الناس كل يوم في انتظار المواصلات أو الحصول علي لقمة العيش”، ومثل هذا التحول شواهد كثر في الرواية نجتزئ منها: “معاناة هذا العبور اليومي”، “الحركة العشوائية غير المنضبطة” ص 16، مشاجرة سائق الميكروباص والتباع ص 17، وحيث يستعرض الراوي العليم معارفه عن الشخصية اللصيق بها: “الهواء القاهري كان يأبي أن ينعش صدورهم، شوارع القاهرة كانت تكرههم، ليست عبارات إنشائية ولكنه إحساسه الداخلي في هذه اللحظة” ص 34.
ويستعمل كديدنه الأسلوب الشاعري في تعبير مجازي: “عشوائية وخواء وصفير في جوف هيكل عظمي لقتيل لم يعلم لماذا ُذبح على قارعة الطريق وروي دمه شقوق العفن والتعنت المسيطران علي حياتنا” ص 17.
وفي مقاربة الواقع الخارجي ممثلًا في قضية فلسطين يقول: “ويجب أن تتجه أبصارنا إلي هناك، لا إلى لقمة العيش والهموم التي تصب على كياننا كل لحظة” ص 20، مما يمنح فكرة التوسع السرطاني للمأساة في كافة لحظات الواقع المعيش.
كما اعتمدت الرواية الأسلوب الشاعري وصور مجازية قائمة على صب تعبيرات من فيض التعاسة والألم التي تعانيها شخصية الحدث الرئيس، حيث تعاين واقعها المهدور، “لم تشرق شمس الأمل في صالات الحياة المظلمة” ص 6، “الجدب أصاب القلب والعقل” ص 6، وهذا التصحر الإنساني وتمزيق الصلات الإنسانية جانب من الواقع الذي رصدته عين المثقف المهموم بقضايا وطنه وعروبته، حيث حدث تجريف في سمات الشخصية المصرية النبيلة، حيث “تتباعد الأفئدة والأحاسيس والآهه بين الجميع لم تلملم” ص 14، وحيث “يبدو أنه حتى الدماء الشعبية تم تلوثيها” ص 26، كما يبدو من التلميح في رحاب مفردة “قديمًا” في العبارة: “وصفاء قلبها نهر شلال كنيل مصر قديمًا” ص 18.
وتحدثت الراوية عن مشهد كارثي لقتل المروءة والرجولة، حيث شاب يسحق عجوزًا بالضرب، وعدم تدخل الناس، فلما تعرض له مدير الصحافي طعنه “الشاب الصايع”، وتركوه جميعًا ينزف حتى الموت.
اما الواقع الخارجي فمثلته باقتدار قضية فلسطين مع سرد واعي لبواعث القضية، فهناك جانب معلوماتي في الرواية، وإثارة سؤال الإبداع بتلك القراءة المتواصلة لتأريخ القضية “القطعة الغالية من درعنا العربي المهلهل” ص 119، حيث مقاومة نفي الوعي “انفرط عقد الوعي الواهي داخل شرنقة الصدمة” ص 119.
ويحضر الموت حيث الآخر العدواني، شارحًا حقيقة أوروبا والتاريخ “امتصوا دماء القوة من قلب أوطاننا وبراءة أطفالنا” ص 7، وحيث يجابه المثقف الموت المعنوي: “أغيثوني أيها الموتى بالخارج أدركوني أيها البلهاء الكسالى إنني أموت” ص 99، وحيث: “الكل مغيب، الكل يموت .. وهو لا يدري لماذا يموت، ويقتل من قناصي الكرامة ومنتهكي حقوق الإنسان وسالبي الأرض بأهليها” ص 87، كما أتى التعبير الإنشائي: “القتلى والأسرى العزّل وهم يدهسون تحت ترسانة أسلحة عاتية، وقلوب خضراء تداس تحت سنابك جنود مدججين بالسلاح” ص 57، كما حضرت مشهدية الكابوس باليقظة في مشرحة بجوار صناديق جثث النبلاء.
ويعمد السارد إلى عقد الصلة بين الواقع الداخلي والخارجي، حيث مثل هذا المغزى الكائن السردي: “مكاننا ليس هنا، مكاننا هناك” ص 20، “أنقف مع أعدائنا ضد دمائنا وأرواحنا؟ أنسكت لحظة الموت المطبق على رقاب إخواننا” ص 23، ويعيد هذا المشهد المؤسف قبل نهاية الرواية بقليل عن العدو المتجرد من الإنسانية حين يقصف المستشفى في بشاعة: “وبعد عدة ساعات انتهي كل شيء وعادت البرامج الساذجة المتخلفة تنهش في عقول الجميع بل الأفدح أنهم أذاعوا عدة أفلام مليئة بالرقص والفرح وكأن الوضع معكوس” ص 130، وحيث احتلال فلسطين هو مقدمة لاحتلال النيل بتعبير الرواية.
قد يبدو أن تجليات الواقع وخاتمة الرواية تقصد ما اعتمر فؤاد بطلها الرئيس من أفكار تشاؤمية سوداء: “بعض الأفكار العشوائية التي تكتسي بوشاح الخوف والتردد” ص 27، لكنها في الحقيقة ليست قاتمة لكنها تعمد لوخز القارئ لا تحمله على خمائل الراحة السردية، ورفيف التسلية، بل تريد أن تنقله لخانة المثقف الفاعل الذي ينشد ما ينقصه لإنفاذ براءته، في تعامله مع الواقع، حيث رسول زملاء الصحافي المثقف يحاول اقناعه بالعدول عن رحلة السفر إلي فلسطين: “إلا أنك حالم برئ”، “متخيل أن يوتوبيا الفارابي قد تتحقق في يوم من الأيام لكنها في الأول والآخر أحلام وأمنيات، درب من دروب الشطحات” ص 25.
والرواية بذاتها منفذ سردي إلى عوالم القضية الأم، كما تثير الوعي بالصلة بين الداخل والخارج: (ألا تعلم يا أستاذ أن الهدف من وراء احتلال فلسطين هو احتلال النيل) ص 87.
والرواية رغم قوسيها من الألم تمجد قيمة المقاومة حيث أرحام النساء تحمل في الرجال، وحيث غزة وطن الرجال “تفرز في كل نسمة عابرة رجلًا بمعني الكلمة” ص 81، وحيث “إنهم يمنحون الكل شرفًا نرجو أن نكون جديرين به!!” ص 21، وحضور الأمومة والأنثي (افتتان) طاغيًا ومؤثرًا، فالعجوز التي أنقذت البطل من المطاردة، والأنثى الجميلة التي تضمد الجراح من ثيمات المقاومة الساحرة في الرواية.
وتقدم الرواية فكرة الشموخ وصلابة البشر: “الشموخ أن تستر عرضك بدمك، أو تستر عرضك بقلبك”، وتتغني بأغنية “منصب القامة أمشي” ص 81.كما تقدم واقعا غرائبيا من الواقع ذاته، حيث يهدم العدو المساجد ظنًا منه أن رجالات المقاومة يختبئون فيها، فكانت حيلة الأهالي بزراعة الهورنات على مسافات بعيدة وعديدة حتي لا يصل العدو للمصلين أثناء الصلاة.
ويرفد السادر الوعي الجمعي المصري بحقائق التاريخ، ويخصب قيمة المقاومة، حيث الراوي الذاتي يرسم عشق الوالد لمصر، يقول: “وكتبنا بدمائنا علي جدار قلوب امن الوالد لابنه عن استمداد الطاقة للمواجهة: “… أرجو أن تحافظ علي شعاع النور الذي اخترق جدار قلبك” ص 33، وتلك الحتمية التاريخية مبشرة بالنصر: “قرب الزمن أو بعد فالنهاية محتومة، مهما ساندته قوى عظمى أو صغرى أو حتى استطاع أن يجند شياطين الدنيا لصالحه” ص 101 .
ضمير “هو” يـ “أنا”: تماهى الراوي بين الراوي العليم ورواي البوح “الذاتي”، لكن الراوي العليم قريبًا في درجته للراوي الذاتي، بل هو أقرب درجات الرواي العليم للذاتي، رغم أنه ضمير “هو” لكن منظور الرؤية هو “أنا”، وأتت المناجاة في الرواية مؤطرة بمؤشرات لفظية، وهذا يحدث في حضور الراوي العليم، مثال: البدء براوي ذاتي، وص 6 تحول إلى راوٍ عليم من تلك الدرجة القريبة، ثم منتصف ص 9 العودة للراوي الذاتي، وهذا التنقل مستساغ لقرب الدرجة، واستعمال روائي لفكرة الحلم والكابوس والرؤية، والتماهي مع شخصيات تاريخية وقصصية تمثل في خاطر الشخصية الرئيسية، وتعقد ساحة حوار ومداولة للرأي والفكر.
أما مثال التأطير للمناجاة بمؤشر لفظي، “كانت تتراقص بعض الجمل والذكريات المتناثرة أمام عينيه وكان يتحدث عن أحداث وقعت له في حياته منها القريب والبعيد” ص 13، ويأتي بعدها الحوار الداخلي للشخصية الرئيسية، ومثال آخر “حدث نفسه مستغربًا”، “وتذكر”، وقد تأتي رحلة الذكريات بصورة مجاز: “كانت عتبات الماضي تنحت في ذاكرته شيئًا من ملامح بعض الصور التي صادفها في هذه الأماكن” ص 26، والصور المجازية كثيفة، يكفي أن نشير لفكرة الساعة النفسية وهي متوافرة بالرواية: “زارتهم لحظة صمت طائشة وباردة” ص 24.
ويبقي أن نشير إلى قول العجوز “أم الشهداء”: “نضال ابني الأكبر، لم يخبرني أنه سيقوم بعملية انتحارية” ص 74، والأوفق وطبقًا للوعي بقضية الأسماء والمسميات ودروها الفاعل في القضية أن تقول عملية فدائية، كما وردت بعض الأخطاء في الكلمات (لوغرتيمات) ص 62، (الفوروسية) ص 63، وتكرار مفردات في مساحة ضيقة، لكن يبقي للمنفذ بهاؤه السردي.
ميدل ايست أونلاين