الموسيقى تعانق ضربات أقدام الراقصين في «كلوب محمد علي»
كراسٍ جلدية وثيرة تتكئ على جدران مزينة بألواح جصية مستطيلة لزخارف نباتية، قوامها تفريعات ووريقات نباتية متداخلة ومتكررة مطعّمة بلون ذهبي. مشاهد متعاقبة لفتيات إغريقيات يعزفن على الناي والقيثارة وأخريات يرقصن. أصوات متداخلة لمقطوعات موسيقى إسبانية وأرجنتينية تعانقت مع ضربات أقدام راقصي التانغو من شباب المجتمع الراقي اللاهي من الصفوة والنبلاء وأمراء العائلة العلوية والأوروبيين. تتعالى ضحكات وأصوات وطنطنات لكنة إنكليزية ملكية مع فرنسية تركية متعجرفة وإيطالية متقطعة، لفتيات متأنقات بفساتين من حرير «ليون» المقصّب ورجال ببدلاتهن الشاركسكين sharkskin والهيلد الإنكليزي الفخم Hield على أحدث موديل بتلك الفترة (منتصف الثلاثينات) يتبادلون الثرثرة والنميمة في إحدى قاعات «كلوب محمد علي»، نادي الصفوة والنبلاء.
تتصاعد رائحة المعجنات الفرنسية اللذيذة يحملها الطاهي الفرنسي الشهير أوليفييه. وما بين قاعات الطعام الأنيقة على طراز نابليون الثالث المليء بالتفاصيل المعمارية الفخمة وقطع الأثاث الضخمة المصنوعة من خشب الماهوغاني المطعم وقاعة المسرح التي تستضيف مختلف الفرق الأوروبية وقاعات لعب البلياردو والبوكر، حتى البيانو الأسود الضخم المتربع في المكتبة المكدسة بمئات الكتب بمختلف اللغات عدا اللغة العربية التي يعد ناطقوها من عامة الشعب ولا يحق لهم دخول الكلوب الملكي، الكل بانتظار سيارة الملك الرولز رويس المصبوغة باللون الأحمر القاني (المخصص للأسرة المالكة فقط)، ليبدأ دور البوكر الملكي الذي لا بد أن يفوز به الملك مهما كانت مهارة خصمه عالية.
يقف المبنى المكون من طابقين، والمعروف باسم «كلوب محمد علي»، ومقهى زراني الذي يقع عند تقاطع شارع شريف باشا (صلاح سالم) في الإسكندرية وشارع فؤاد الممتد إلى ميدان محمد علي، شامخاً منذ القرن التاسع عشر. وثمة حالة من المراوغة البصرية حول تشابك الزمان والمكان، بل إن مسار الزمن يبدو منحنياً في تقابله وتشابكه مع المكان والأحداث التي عصفت بالنادي الأنيق المصمم خارجياً على الطراز الإيطالي منذ بنائه عام 1888 حتى ثورة 1952، حين تحول النادي إلى قصر الحرية للثقافة وجرى ضمه إلى هيئة قصور الثقافة عام 1962 .
دار الزمن دورته وأحدث تغيراً جذرياً في شكل الحياة اليومية، إلا أن المفهوم الثقافي الاجتماعي الراقي ظل هو الغالب على القصر، بينما اختفت القبعات الإيطالية والفرنسية وطرابيش الباشوات والتنانير الواسعة المنفوشة، وظهرت سراويل الجينز الضيقة والأقمشة الزاهية من مواد صينية صناعية متحولة، وتحولت قاعات الثرثرة واللهو الفارغ إلى منتديات أدبية ثائرة تهتم برفع الوعي الثقافي والفني لعامة الشعب الذين كان محظوراً عليهم الاقتراب من القصر، عبر إقحامهم في الحياة الثقافية الحقيقية.
فتحت أبواب القصر لتنمية مواهب الشباب والأطفال وإحياء طقوس الصالونات الأدبية والثقافية، كما فتح المجال للفرق الموسيقية المستقلة، العربية والغربية، «الأندرغراوند» تشجيعاً للمواهب.
واختفت قاعات النادي الاجتماعي والكازينو الليلي لتحل محلها قاعات مسرح وقاعات فنية لعرض اللوحات وقاعات أنشطة ثقافية وأخرى للمرسم والمكتبة ولتكنولوجيا المعلومات، وقاعتان للسينما وأخرى للمسرح. وبعدما أغلق القصر لتجديده مدة سبع سنوات، استعاد رونقه وأعيد افتتاحه ولحق بالتجديد تغيير اسمه إلى «مركز الحرية والإبداع» عقب ثورة 25 يناير.
«كلوب محمد علي» أو قصر الحرية أو قصر الإبداع، ما زال صوت الموسيقى يصدح بين جدرانه العتيقة في برهان على أن الإسكندرية لم تفقد طابعها الكوزموبوليتاني الراقي، وما زالت الموسيقى تعانق ضربات أقدام الراقصين منذ 126 عاماً، وإن اختلف شكل الراقصين وشكل الموسيقى وحتى الرقص!
صحيفة الحياة اللندنية