الموضوعات الكبيرة ….و الصغيرة

ثمة وهم ما يزال يتلبس عقول الكثيرين من المنشئين في حقول الأدب أن آثارهم لن يكتب لها الخلود إلا إذا تصدت في مضامينها إلى الموضوعات الكبرى كالخطيئة الأولى و لعنة الموت وأصل الإنسان و أسبقية الخير أم الشر و الحرية مطلقة أم نسبية …و هكذا …فإذا اقتربوا من تاريخ قومهم تصدوا للإستعمار أو لحقبة مجيدة من ماضي أمتهم أو لغيرها من الموضوعات التي يعتبرونها كبيرة و جديرة بمواهبهم الكبيرة.

ليس لدينا أي إعتراض بالطبع على هذه النوايا الطيبة مادام هؤلاء المبدعون يعتبرون إختياراتهم هذي نوعا من الإلتزام الرفيع الذي يعكس رغباتهم النبيلة في السمو بأدبهم إلى أقصى ما يقلق الإنسان و أبعد ما يهدد مصيره و إذ كان لنا ثمة إعتراض في هذا المجال فهو ضد هؤولاء الذين يتوهمون أنه لا يمكن السمو بالأدب إلا بالإتكاء على مثل تلك الموضوعات الضخمة ، و أن تناول الموضوعات الصغيرة الأخرى كحياة الناس اليومية البسيطة و ما يضطرب فيها من مشاغل ساذجة يسيرة قد لا تتيح في ظنهم للكاتب أن يحلق من خلالها نحو الرفيع من شوامخ القمم الخالدة.

و من هنا برز في أذهان هؤلاء تصنيف خاص للمضامين نلاحظ فيه أن الموضوعات تنقسم إلى كبيرة و صغيرة و أن ضخامة الموضوع مرتبطة بتعقيد الفكرة أو بصحتها التاريخية أو بأبعادها الميتافيزيكية و أن ضآلته الموضوع متصلة ببعدها عن هذه الأهداف الجليلة و هكذا يشطبون مئات بل الآف الآثار الأدبية الخالدة التي لم تكتسب خلودها إلا من خلال ما يسمونه في تصنيفهم الموضوعات الصغيرة و إن لا …فأين نضع مئات القصص الإنسانية الآسرة ببساطتها العميقة شأن الأقاصيص التي أبدعها تشيخوف مثلا حيث لا نجد في القصة أو الرواية كما لدى دوستوفيسكي مثلا أو تولستوي – لديه سوى أصداء و هموم الناس البسطاء عبر سياق أو مقصوصة بسيطة الأحداث و الأداء و لكنها زاخرة بتوتر خاص تصنعه الرؤية الذكية أو العطف الإنساني العميق كقصة همسة شاب في أذن فتاة لا تسمعها جيدا – مثلا – و هما يتزحلقان على سفح مغمورا بالثلج أو من خلال ثرثرة سائق عربة مفجوع بفقدان إبنه من دون أن يصغي له ركاب العربة فينزح أخيرا ثرثرته في اذن حصان العربة التي يسوقها.

في مثل هذه الأعمال الأدبية تبدو لنا مهمة الكاتب أكثر صعوبة فهو يريد أن يتوصل إلى الكل من خلال الجزء و إلى العام من خلال الخاص و إلى النموذجي عبر المتكرر و المتشابه و الصعوبة هنا تكمن في تعرض الكاتب لأخطار الإبتذال أو السطحية ، و إلى وفرة التفاصيل المحيرة التي عليه أن يطرح الكثير منها جانبا حتى يصل إلى الحركة الأكثر إستيعابا و الكلمة الأعمق زخما و الحدث الأدق تعبيرا فهو هنا مع بساطة الحدث يقارب جوهر الحياة إلى درجة الإلتحام ، و يبتعد عنها في الوقت نفسه إلى درجة الإنفصال عنها و من خلال عملية التجاذب هذه يتوصل الكاتب الموهوب من خلال نظرة محددة أو حركة إصبع بدلا من أصابع الكف الكاملة وصولا إلى قدح الشرارة الصغيرة التي تزيح عن بؤرة النور كل ما يعيق الرؤية و هكذا يبدو الموضوع الصغير كبيرا و العادي جليلا و المبتذل طريفا و من المؤكد أن كل هذا لم يحدث بسبب أن الكاتب حمل موضوعه أثقالا من الفلسفة و التجريد و التغريب و إنما لأنه إستطاع بموهبته إختراق السطح العادي للحياة الجارية و عاد منه بالجوهرة الأصلية التي نركلها بأقدامنا يوميا من دون أن نعيرها إنتباها يليق بها …

ليس في الفن إذن موضوعات كبيرة أو صغيرة و إنما هناك موضوعات واحدة فحسب و ما على الموهبة الأصلية إلا أن تخوض التجربة حقا و هي مرتبطة بأنبل ما يهم الإنسان كي يعود من الحصاد المتعب بالغنيمة السليمة الصحيحة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى