النابي يضع نجيب محفوظ بين محطتي الذاكرة والنسيان
يقدم هذا الكتاب “نجيب محفوظ.. الذاكرة والنسيان” الصادر أخيرا عن سلسلة كتاب الهلال مجموعة من الدراسات التي كتبها الناقد د. ممدوح فراج النابي على فترات متباعدة، إلا أن محورها واحد هو إبداع نجيب محفوظ والقضايا التي عالجها في كثير من نصوصه كمقاومة الاستبداد والسعي للتحرر والاستقلال والحرية والعدال والجمال… إلخ.
ويؤكد النابي تناوله نماذج منتخبة دالة من مجمل إبداع محفوظ بالقراءة والتحليل والدرس وإن كانت في الحقيقة جاءت كهدف لتأكيد الخصيصة التي تميز بها أدب محفوظ، من جوانب شتى لا تبدأ عند الموضوعات التي تناولها إبداعه برمته، أو حتى الأشكال التي جربها في كتاباته.
ويقول النابي: نجيب محفوظ حالة خاصة في هذا مثله مثل الأعمال الروائية الخالدة لجوركي وتولستوي وبلزاك وشكسبير. نعم، نجيب محفوظ ليس بأقل من هؤلاء في شيء بل هو صنوهم، فأعماله مازالت خالدة ومتجددة، فما أن تقرأ أي عمل لنجيب مع اختلاف السياق الثقافي والتاريخي الذي أنتجه فيه، فإنك تفاجأ بالمستقبل يطلّ من بن جنباته. بل إن رؤاه التي هي هدف إليها وحملّها لأبطاله في أعماله، هي نفسها التي يتحاور حولها المتفلسفون والسياسيون والنخب، أليست قضية الديمقراطية والحرية التي ناقشها نجيب محفوظ في أعماله بدءا من “عبث الأقدار” إلى آخر أعماله “أحلام فترة النقاهة” هي نفسها التي يتناقش حولها الآن من يدعون بالنخبة ويدورون حولها والأمثلة على هذا كثيرة.
ويضيف: الميزة التي اتسم بها إبداع نجيب محفوظ خاصة ـ وهي ما ساهمت إلى حد بعيد في أن يحافظ على ديمومته وتهافت الطلب على قراءته، رغم اختلاف السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تولّدت فيها نصوصه، وكذلك اختلاف الأجيال والأذواق الأدبية ـ هي تجاوز إبداعه لزمكانيته وقابليته للتأويل والتفسير الجديدين، مع إعطاء دلالات تحيل إلى وقتنا الراهن رغم اختلاف زمن الكتابة، وهي الصفة التي تدفع بإبداع نجيب محفوظ للقمة والريادة دون منازع، وتجعله محلقا بتعدد دلالاته واتساع رؤاه، وتشابك قضاياه مع انشغالاتنا الحالية بتنوعها سياسيا واجتماعيا وإيديولوجيا، رغم ما تطرحه المكتبة العربية من كتابات جديدة.
ويوضح النابي ظلت – وتظل – إبداعات محفوظ بمثابة الذاكرة الحية والأمينة، على تاريخنا الوطني بنضالاته وإخفاقاته وانتصاراته، وبتغير أو انحراف مساراته السياسية والأيديولوجية وهو ما أوقعنا في مآزق كبيرة وجسيمة كانت كتاباته نبراسا لتفادي الانزلاق فيها، لكن ـ للأسف ـ لم يلتفت القائمون إلى بصيرته الثاقبة التي كانت ترسم بعناية فائقة مآلنا الحالي (راجع 60 ـ 202 من أحلام فترة النقاهة) وتحذيراته كما تجلت في نهاية “رادوبيس” حيث السهم الطائش مجهول المصدر الذي حاد عن هدفه، في إشارة إلى إمكانية إصابته الهدف لو ضافرت الجهود كما تجلى بصورة واضحة في “كفاح طيبة” أو حتى تلك الدلالات التي قصدها من رمزية التوت والنبوت في “الحرافيش” والتي سجل فيها قصة الضمير الإنساني، في إشارة واضحة، إلى مثل هذه الأمة لن تحصل على حريتها المرجوة، إلا بقوة العلوم والاستنارة، أو إعلانه إلى أن رحلة الإنسان للبحث عن الحرية والعدل والجمال، لا تتحقق إلا بالانسان نفسه، وسعيه لهذا من خلال التسلح بقوة العلم، والتشبع بالقيم الروحية التي تبعثها الأديان في نفوس البشر، وبالحوار المستنير مع الآخر وقبوله كما رأينا في “رحلة ابن فطومة” وأيضا كانت بمثابة الرواية الصادقة والراوية الأمين لواقعنا الاجتماعي والتغيرات الاجتماعية التي لحقت به وبمساره الديمقراطي والتحرري.
ويرى أن هذه الابداعات المحفوظية ظلت على تنوعها وثرائها بمثابة حائط الصد المقاوم لتغريب الهوية وطمسها في بعض حالاتها على نحو ما كانت الثلاثية الاجتماعية (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) وقبلها الثلاثية التاريخية (عبث الأقدار ـ رادوبيس ـ كفاح طيبة) شاهدة على النسيج الوطني وتكاتفه من أجل هدف وحيد هو الاستقلال والحصول على الحرية، وأيضا إكسيرا مقاوما للنسيان، لكل شيء بدءا من ذاكرتنا وانتهاء بنكران الجميل.
ويشير النابي إلى أن المتأمل في مسيرة نجيب محفوظ لا يجد عدولا له عن آراء قالها مثل غيره من الكتاب، بل تمسكا بمواقفه وتصميما باستماتة على هذه الآراء، حتى ولو كانت فيها مخالفة لنظام حاكم آنذاك بعكس غيره من الذين يتلونون بين عشية وضحاها، وقد عكست الحالة الثورية التي تعيشها مصر بعد يناير 2011، ما يؤكد هذا فالأمثلة كثيرة والمتلونون كثر، والمتحللون أكثر. وقد كان جملة الأسباب التي تجعل من نجيب أقصد إبداعه حيويا وطازجا وصالحا لغير سياقه التاريخي بل يتجاوزه إلى المستقبل ويشتشرفه في مواضع كثيرة.
هذه الخصيصة ضمن جملة الخصائص التي تميز إبداع محفوظ وتجعله قادرا على استيعاب كافة المتغيرات الحياتية، وقالبا قابلا للتشكل عبر كافة المناهج النقدية، وفي ذات الوقت قادرا على استيعاب الأشكال الفنية القديمة والحديثة، ومن ناحية أخرى استثمارها وتطويرها لما يخدم هدفه وأغراضه.
كل هذا يعزز من ثراء عوالم نجيب محفوظ، ويؤكد عمق أفكاره رغم ما يبدو من سهولة وبساطة بادية للقارئ العادي، إلا أنها تحمل من الجدة والأصالة ما يسمه بالفرادة والتميز.
جاء الكتاب في ستة فصول تناولت قضايا عالجها نجيب محفوظ عبر نتاجها الروائي، فدرس الأول البنية التشكيلية والرمزية لأحلام فترة النقاهة، وتعرض الثاني لـ “استلهام التراث: النص الرحليّ”، والثالث تطرق لمعالجة نجيب محفوظ للتاريخ، والرابع سعيد مهران واستبدادية المجتمع في اللص والكلاب، والخامس السراب والتحرر من سلطة الأم، والسادس في انتظار جودو (المخلص) وتعدد الرؤى في رواية الطريق.
ميدل ايست أونلاين