النظام السياسي والتفسخ: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية
صدر أواخر شهر سبتمبر 2014 كتاب المفكر الأمريكي “فرانسيس فوكوياما”، المعنون بـ ” النظام السياسي والتفسخ السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية”. وتنبع أهمية الكتاب من أن مؤلفه من الكتاب الذين تثير كتاباتهم الجدل داخل الولايات المتحدة وخارجها، وقد ذاعت شهرة فوكوياما بعد كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” “The End of History and the Last Man” في عام 1992، الذي خلص فيه إلى نهاية تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية مع انتهاء الحرب الباردة، وهدم سور برلين، لتحل محله الليبرالية وقيم الديمقراطية الغربية.
ويعد فوكوياما واحدا من منظري تيار المحافظين الجدد، والذي تعاظم تأثيره في السياسة الخارجية الأمريكية، خلال فترتي الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش (2000 – 2008) قبل أن يتراجع عن عدد من الأفكار التي كان يدعهما، ويصدر كتابه في عام 2006 بعنوان “أمريكا على مفترق الطرق: ما بعد المحافظين الجدد”.
يأتي كتاب فوكوياما الجديد استكمالا لكتابه الذي صدر في عام 2012 تحت عنوان “أصول النظام السياسي: من عصور ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية”، الذي يقدم فيه تأريخًا متعمقًا للتطور السياسي عبر الكثير من الأمم والأقاليم. وفي كتابه الجديد، يستكمل فوكوياما القصة ذاتها، وصولًا بها إلى العصر الحديث، حيث يصف يحدد اللازم توافرها للدول الحديثة الناجحة، وسمات هذه الدول.
ينطلق فوكوياما من مقاربة مفادها أن التاريخ مصيره إلى الديمقراطية. فبعد أن اقتفى المؤلف التطور السياسي للمجتمعات حول الكرة الأرضية، ينتهي إلى أن توجها عالميا نحو التطور السياسي، وأن الديمقراطية هي الاتجاه الذي يمضي فيه التاريخ السياسي، قائلا “تظل آفاق الديمقراطية جيدة عالميًا” .
تنامي الطبقة الوسطي والتحول الديمقراطي
لا يختلف فوكوياما مع النظريات التي تتحدث عن أن تنامي الطبقة الوسطي يكون مقدما الى التحول الديمقراطي. ولهذا ،فإنه في كتابه يشير بالأرقام إلى تنامي الطبقة الوسطي عالميا، فتظهر الأرقام التي اعتمد عليها فوكوياما الاتساع المرتقب للطبقة الوسطى العالمية من 1.8 مليار نسمة في عام 2009 إلى 4.9 مليار نسمة في عام 2013. ويقول إنه مع ازدياد مدخولات هؤلاء، فإنهم يطالبون بسيادة القانون لحماية أملاكهم، ثم يطالبون بالمشاركة السياسية للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية، وهم لا يفعلون هذا لمجرد الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، بل أيضًا لأسباب أدبية. ففيما وراء مستوى معين من المكانة والدخل، يشعر الناس بالمهانة عندما تعاملهم مع أنظمة الحكم السلطوية كأطفال عصاة.
وعن المنطقة العربية ، يشير فوكوياما إلى أن الطبقة الوسطى هناك في نمو مستمر، ومستويات التعليم في تصاعد، والاقتصادات آخذة في الانفتاح، وكل هذا يعني أن الأوتوقراطية أو الديكتاتورية العسكرية لا يمكنها أن تدوم إلى الأبد. ويؤكد فوكوياما في كتابه أن الإسلام ليس عدوًا للديمقراطية، وأن الأحزاب الإسلامية كانت خير مثال للقوى المطالبة بالمشاركة السياسية والكرامة. ويتشبث فوكوياما بالمثال التونسي، حيث وافقت الأحزاب الإسلامية المعتدلة، والجماعات السياسية العلمانية في تونس على دستور توافقي لا يسمح بتقديم الشريعة الإسلامية على سيادة القانون.
وفيما يخص إفريقيا، يقر فوكوياما بأن مستقبل هذه القارة تكتنفه درجة كبيرة من انعدام اليقين. ففي حين أن التناوب الديمقراطي المستقر للأحزاب السياسية على السلطة شيء راسخ في بعض الدول الإفريقية مثل غانا، فهناك بلدان أخرى مثل ليبيريا، وسيراليون ،وجمهورية أفريقيا الوسطى تواجه عقبات هائلة. لقد دمر هذه البلدان جشع المستعمرين، وعرقل تقدمها المناخ، والجغرافيا ، والإثنيات المتناحرة، لدرجة أن أفضل ما يمكن أن ترجوه هو تحقيق نظام على أية هيئة كان.
تطور آسيا السياسي
يولي فوكوياما في كتابه الجديد أهمية كبيرة في منطقة شرق آسيا. فقد أنتجت الصين دولة قوية ، يشغل المناصب فيها موظفون مدنيون من الطراز الأول، يقع الاختيار عليهم من خلال اختبارات تحريرية، وقادرة على متابعة شئون إمبراطورية مترامية الأطراف. ويجادل فوكوياما في كتابه قائلًا إن ما نراه الآن في الصين هو إحياء لهذا التراث، بعد انهيار دام قرنا من الزمان، حيث يلجأ الحزب الشيوعي الصيني إلى التاريخ ليثبت أنه بالإمكان إنشاء دولة قوية دون ميزة ميراث الديمقراطية الغربي، ولا سيادة القانون.
يشتمل كتاب فوكوياما على بعض الدروس المهمة حول تطور آسيا السياسي هي كالآتى:
أولًا: الديمقراطيات التي تبدو في ظاهرها فوضوية وفاسدة يمكنها في واقع الأمر أن تكون مفيدة لشعبها على مستوى ما، ولا سيما من حيث الحراك الاجتماعي، إذ يوضح فوكوياما أن الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر كانت تتألف من كثير من شبكات المحسوبية على نحو يشبه ما نراه في البلدان النامية في يومنا هذا. ففي مقابل الأصوات – وهي غالبا أصوات جماعات الفقراء أو المهاجرين – كان بمقدور الساسة أن يزيدوا من قوتهم، ويعطوا أنصارهم المراكز والامتيازات والمنافع في الوقت نفسه. وقد ساعدت تلك الممارسات مثل هذه الجماعات على أن تصبح جزءًا من النظام، مع حصولها في الوقت نفسه على إمكانية الوصول إلى السلع والخدمات العامة في المناطق التي كانت ستتعرض فيها للتهميش في ظروف أخرى. ويستحضر هذا النظام إلى الأذهان الهند ونظامها السياسي على مدى العقود القليلة الماضية بما تشتمل عليه من وفرة في الأحزاب الإثنية والإقليمية والطبقية.
فعلى الرغم من أن الهند تتعرض لانتقادات شديدة بسبب النفوذ الذي تمارسه هذه الأحزاب – المعروفة بالفساد والسعي إلى إرضاء الكتل التصويتية الموالية لها – فإن قوة هذه الأحزاب ربما ساعدت في واقع الأمر الفئات التي تحظى بقليل من التمثيل في الهند، مثل الأقليات والطبقات الدنيا، على كسب إمكانية الوصول إلى الوظائف والسلع والخدمات. وإذا أخذنا فى الحسبان الطبيعة العقيمة للدولة والبيروقراطية الهندية، فإن هذه الفئات ربما كانت بغير ذلك ستظل محرومة من الخدمات الحكومية بشكل شبه تام. ومن ثم، يقدم فوكوياما طريقة مثيرة وجديدة للنظر إلى ظاهرة الفساد في الهند.
ثانيًا: يمكن أن يصل بنا الحال إلى إدراك حقيقة أن المشكلة الرئيسية هي في الواقع فعالية الدولة لا الفساد. فالدول الفعالة القوية – سواء أكانت ديمقراطيات أم أوتوقراطيات – تنفذ قوانينها وخدماتها، في حين أن الدول غير الفعالة لا تفعل شيئًا من ذلك، بغض النظر عن نوع الحكومة فيها. وبحسب أحد مؤشرات الفساد المهمة، لا يزيد الفساد في الهند إلا بدرجة طفيفة عنه في الصين، كما أن الهند أقل فسادًا بكثير من روسيا.
أخيرًا، يرى فوكوياما أن هناك مخرجًا من الدولة عديمة الفعالية، وذلك بإنشاء خدمة مدنية تتميز بالكفاءة، وقائمة على الجدارة. لكن المؤلف يستبعد إمكانية تحقيق ذلك خارج شرق آسيا، حيث يوضح فوكوياما أن البلدان الشرق آسيوية، بما في ذلك كوريا الجنوبية واليابان، تتمتع بسجل قوي في مجال توفير حوكمة تتسم بالجودة بفضل التأثير الكونفوشيوسي. فبلد مثل اليابان قادرة على تحديث نفسها بسرعة بفضل تراثها القوي من تفويض الحكومة الممتد ليغطي مناحي المجتمع كافة، وذلك على النقيض من الإمبراطورية العثمانية.
ففي الديكتاتوريات التي لا تتمتع بإدارة ذات كفاءة، نجد أن الفساد والمحسوبية لن يزدادا إلا من خلال ذلك النظام ومؤسساته. وللسبب نفسه، يقول فوكوياما، لا يكفي أن نؤسس ديمقراطية تشتمل على بيروقراطية قوية. فالهند توجد بها بيروقراطية واسعة، لكن توجد بها قواعد كثيرة لا يمكن تطبيق إلا بعضها، مما يؤدي إلى تطبيقها بشكل عشوائي من قبل بيروقراطيين يسعون إلى محاباة أصدقائهم وعائلاتهم.
وأشار فوكوياما إلى أنه قد تمكنت بلدان غير آسيوية، مثل بريطانيا وروسيا، من تأسيس بيروقراطيات فعالة، لأنها كانت تعمل مع فئة صغيرة من الأفراد المتعلمين أصحاب الخلفيات المتشابهة. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تمكنت من فعل ذلك، قبل أن تصبح ديمقراطيات، مما حال دون استيلاء الساسة الذين يوزعون العطايا في إطار المحسوبية على ماكينات الدولة. لكن أفضل نموذج للبلدان الأخرى، ولا سيما البلدان من قبيل الهند التي هي ديمقراطيات بالفعل، بحسب المؤلف، هي أن تحاول محاكاة الولايات المتحدة، والطريقة التي أسست بها حكومة فعالة نوعًا ما في القرن العشرين.فقد تمكنت الولايات المتحدة من الاستفادة من جماعات لديها الحافز القوي من الأفراد التكنوقراطيين لشغل الوظائف في أجهزتها الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، ففي ظل رؤساء أقوياء، مثل تيودور روزفلت ،وفرانكلين روزفلت، تمكنت الحكومة من التغلب على شبكات المحسوبية، وإقامة مؤسسات جديدة.
الديمقراطية ليست دواء لكل الأمراض
يفترض فوكوياما أن الحوكمة الفعالة تتطلب وجود ثلاث مجموعات من المؤسسات السياسية في نوع من التوازن. وهذه المجموعات الثلاث هي: الدولة، وسيادة القانون، والمحاسبة السياسية. وعن الديقراطية التي أفرد لها فوكوياما جزءا في كتابه، يقول إنه على الرغم من التبجيل الذي تحظى به الديمقراطية على أساس فكري، نجد من الناحية التاريخية أنها ليست الدواء الشافي لكل داء الذي يرجوه المرء. فهناك مرات عديدة كانت فيها سيادة فترات من الأوتوقراطية شبه الخيِّرة شيئًا أساسيًا لتطور الدولة الحديثة.
وفي حالات كثيرة، أسفر توسيع حق التصويت في الانتخابات عن نظام المحسوبية الذي ينطوي على قيام النخب السياسية بشراء أصوات من مُنحوا حق التصويت حديثا، مما يؤدي إلى تعزيز – لا تقليص – السيطرة السياسية من جانب هذه النخب.
ويسلط فوكوياما الضوء على التفسخ السياسي. ويقول المؤلف إن شيئًا أساسيًا بالنسبة للطبيعة البشرية هو اكتساب القوة والرغبة في التشبث بها بمجرد الحصول عليها. وفي عالم دائم التغير، يؤدي هذا إلى تباعد بين حاجات “الجماعة الداخلية” ورغباتها، وحاجات “الجماعات الخارجية” ورغباتها.
وفي ظل اختلال التوازن أكثر وأكثر بين الدولة، والقانون، والمحاسبة، واكتساب “الجماعات الخارجية” القوة السياسية، تكون النتيجة هي الاضطراب السياسي غالبًا على هيئة صراع مسلح. ويذكّرنا المؤلف من جديد بأن هناك مسارات كثيرة إلى الاضطراب السياسي، ومحصلات عديدة تنشأ عنه.
ويقارن فوكوياما في كتابه بين إنجاز الدنمارك وغيرها في إنشاء دول ناجحة، وبين نوعيْن من الإخفاقات، أولهما هو إخفاق المؤسسات في مواكبة التغير الاجتماعي، كما هو الحال في كثير من بلدان أمريكا اللاتينية. فبعد سلسلة من الإصلاحات في الثمانينيات، نجد أن حكومة البرازيل عبارة عن مزيج من الوزارات فائقة الجودة، ومستنقعات المحسوبية. الثاني والأخير هو الإخفاق المؤسسي الجماعي، إذ كان إخفاق الربيع العربي في جوهره إخفاقًا للقدرة الحكومية. ففي مصر، أخفقت جماعة “الإخوان المسلمين” في فهم الفرق بين الفوز في انتخابات معينة، والفوز بالسلطة الكاملة، لذا عادت الطبقة الوسطى – على مضض – إلى اعتناق السلطوية. وينوه فوكوياما إلى أن أوروبا الشرقية متأخرة كثيرًا عن أوروبا الشمالية، إذ لا تزال اليونان وإيطاليا توزعان الوظائف على أساس المحسوبية.
حالة الديمقراطية الأمريكية
انتقد فوكوياما حالة الديمقراطية الأمريكية، مشيراً إلى أن هناك طبقة وسطى مضمحلة، وتفاوتا متزايدا بشكل صارخ في الدخل، ومصالح خاصة متطرفة، وتنازعا حزبيا، أسفرت كلها، على حد قوله، عن “أزمة تمثيل”، مما ترك الملايين من الأمريكيين مقتنعين بأن ساستهم لم يعودوا يتحدثون بلسانهم.
إن المشكلة الجوهرية، برأي فوكوياما، تكمن في آلية العمل “الماديسونية” التي يتسم بها القانون الدستوري الأمريكي. فالفصل بين السلطات الذي أوجده الآباء المؤسسون لا يمكنه أن يحقق نواتج إيجابية إلا عندما يثق الخصوم السياسيون في بعضهم بعضًا بدرجة كافية لكي يوافقوا على مرشحي بعضهم بعضًا، ويؤيدوا مشاريع قوانين بعضهم بعضًا، ويسعوا إلى التوصل إلى توافقات سياسية تخدم مصالح كل الأطراف. ويرى فوكوياما أن نظامًا برلمانيًا كالنظام البريطاني – الذي يُنيط برئيس الوزراء ومجلس وزرائه صلاحية حاسمة على السلطة التشريعية – من شأنه أن يتمخض عن حكومة أشد فعالية.
وأعرب فوكوياما في كتابه عن يأسه من الوضع الحالي للسياسة الأمريكية. ويجادل فوكوياما بقوله إن المؤسسات السياسية التي سمحت للولايات المتحدة بأن تصبح ديمقراطية حديثة ناجحة آخذة في التفسخ. وكثيرا ما تمخض تقسيم السلطة عن احتمال حدوث جمود، لكن هناك تغيريْن كبيريْن حولا هذا الاحتمال إلى واقع. فالأحزاب السياسية مستقطبة على أسس أيديولوجية، وجماعات المصالح القوية تمارس حق النقض ضد السياسات التي لا تروق لها. لقد تفسّخت أمريكا حتى صارت “فيتوقراطية”. وهي تكاد تكون عاجزة عن التصدي للكثير من مشكلاتها الخطيرة، بداية من الهجرة غير الشرعية، وانتهاء بالركود في مستويات المعيشة، بل وربما تكون آخذة في التفسخ إلى ما يسميه فوكوياما مجتمعًا “أبويًا جديدًا” تسيطر فيه مجموعات على كتل تصويتية ،ويتاجر فيه المسئولون العارفون بالدخائل السياسية السلطة مقابل الخدمات والمزايا.
صحيفة القدس العربي