النظام العربي الإقليمي.. مئة عام من العزلة

إذا كان الكاتب اللاتيني غابرييل غارثيا ماركيز في روايته الشهيرة “مئة عام من العزلة” قد أسرف في الخيال في بعض رمُوزهها حول صراع الأجيال وتطلعاتهم، وذاع صيت الرواية في الآفاق، فالأولى لقصة حضارة عربية سادت ثم بادت وأقصد هنا العرب العاربة والمستعربة خلال قرن مضى قد تمحورت في جملة من التأملات والرؤى والتي هي أشبه برسومات سريالية تجعل من أعتى الساسة وجهابذة المفكرين يعجزون بل وحتى المنجمين عن تفسير ما جرى ويجري بل ويقفون في حيرة من أمرهم في خير امة أخرجت للناس.

وبداهة لا يُقصد بالعزلة بمفهومها الحرفي، وإنما المقصود هنا عزلة عربية عن حضارات العالم بعدم تفاعلهم مع ما حولهم زماناً ومكاناً.

بين عام 1915 وعام 2015 حقبة عربية حافلة بالأحداث، وإختيار هذا المسافة الزمنية قرن ما بين الفترتين له دلالاته وأبعاده. فقد شهدت المنطقة العربية منذ قرن مضى سلسلة من الهزات العنيفة استهلت بدايات القرن الماضي باستنساخ أزمات أوروبا للمنطقة العربية منذ الحرب العالمية الأولى والمتزامن بأفول نجم الخلافة العثمانية وتكريس سايكس بيكو. ومن يتابع تاريخ أوروبا الحديث من وجهة النزاعات الإقليمية يتبين له بأن الحروب الإقليمية فيما بين دول القارة قد ولّت إلى غير رجعة منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي أي بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، وتزامن ذلك ببدء استقلال بعض الأقطار العربية التي كانت لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية يومذاك، وتحول بعضها للأنظمة الجمهورية فجأة، ومنها نهج الأسلوب الديمقراطي شكلاً دون الأخذ بضمون المعنى وجوهره، حينها لم يكن لأصحاب التغيير تحت راية الشرعية الثورة العرب مشروع واضح ورؤية بعيدة المدى لما سيؤول إليه تطور المجتمعات العربية في غياب التطور الاقتصادي الموازي للتطور السياسي، وكذا مخرجات التعليم الذي أفرز مشاكل اقتصادية واجتماعية لا مجال هنا لسردها.

الإشكال فيما يعيشه العرب اليوم يتمحور في شقين على مستوى قطري او في النظام الإقليمي العربي ويتلخص في متاهة الهوية وغياب مشروع حضاري تجمع عليه الأمة في كلا الحالتين. فأوجه ذلك يتجلى في عدم استيعاب العرب لجملة من المفاهيم التي تركها فراغ الخلافة العثمانية كالقومية وتداخلها مع الشعوبية، ودور الدين في السياسة، وكذا الحرية والتي تجسدت في عدم استيعاب النُخب العربية لقيم الديمقراطية، وتبين ذلك في تفاصيل الدساتير التي هي الأخرى شملت خلاصة لتجارب الأمم المتحضرة في الغرب ولكنه كان مجرد استنساخ وتقليد في قشور الحضارة فقط لإسكات معارضات الداخل وارضاء الخارج، وغدت في جمهوريات العسكر العربية مجرد قيم افتراضية ليس إلا!

لقد كان المجتمع العربي أبان الاحتلال العثماني أكثر تقبلاً للتحول الذي تفرضه طبيعة التغيرات على غرار مسيرة أنظمة الغرب وتحرره من الكنسية المتزامن مع عصور النهضة، بينما في الحالة العربية كان لصدمة الحضارة تبعات مروعة تزامن مع تأمر غربي فجّ وتقاسمه للمنطقة العربية وخلق بؤر مزمنة بحدود دولية غدت امراً واقعا بعد اقتسام تركة “الرجل المريض” أي الدولة العثمانية التي أفل نجمها في الربع الأول للقرن الماضي.

لم تكن الحرب العالمية الأولى قد أنهت التناقضات والأزمات داخل القارة العجوز فخرجت ألمانيا أشبه ببركان حقد يغلي لهزيمتها في تلك الحرب فمجيء هتلر للسلطة بطريقة انتخابات ديمقراطية بشخصيته الكرازمية عندما التفت حوله الأمة الألمانية للثأر من كرامتها فعزف على وتر عنصري وهو ما تتمحور حوله الفكرة النازية. ولكن العداء لهذا التيار الجارف من ألمانيا قابله تحالف الخصوم، أي المد الشيوعي والرأسمالية، فتم وأد طموحاته بالانتصار الساحق عليه على النحو المفصل في التاريخ الأوروبي الحديث.

الحرب الثانية أفزرت هي الأخرى غرس كيان سياسي في خاصرة الأمة العربية والإسلامية، ومن يومها تكالبت الأمم على هذه العرب كما تتكالب الأكلة على قصعتها. فتوالت المصائب والمحن بهزائم عربية متوالية. حروب ونكسات 56 و67 مرورا بحرب تحريك وليس تحرير أكتوبر من العام 1973 والتي تكمن نتائجها في انقسام الأمة العربية بين خندقين. الأول ما عُرف بالتسوية والاعتراف بهذا الكيان كأمر واقع وبالتالي إقامة علاقات دبلوماسية مفروضة حسب تلك الاتفاقيات وبين خندق آخر يدعي انه ضمن دول الممانعة وهذه الأخرى التي في اغلبها تحكمها جمهوريات العسكر العربية توارت تلك الأنظمة تحت ضربات رياح محاولات التغيير والانتفاض على تلك ألأنظمة الاستبداد فيما عرف بالربيع العربي.

أستهل الربيع العربي بداية بتدخل غربي فج افضى لتحولات درامية في العراق والذي كان يعتبر البوابة الشرقية للأمة العربية ويشبه البعض سقوط بغداد المدوي بسقوط غرناطة او نكبة فلسطين. حينها توالت مؤامرات الربيع العربي بالفوضى الخلاقة من خلال بؤر التوتر في عدد من البلدان العربية، وكأن محاولات الشعوب العربية في التغيير من أنظمة الاستبداد هو عقابها وبلقنة المنطقة بتجزئة المجزأ، حيث كان من تداعيات الربيع العربي بدعة الفدراليات، كردستان العراق بداية ومن ثم شرق ليبيا وجنوب اليمن ومحاولة تقسيم سوريا. فبدلا من محاربة أنظمة الاستبداد تلك واجتثاث الدولة العميقة أنهمك العرب والعجم والشرق والغرب بما عرف بالإرهاب والذي لم يتفق العالم على تعريفه أصلاً. وغداة الربيع العربي انزلقت تلك الشعوب نحو العنف الداخلي وتحول من الثورة ضد تلك الأنظمة إلى قضية الإرهاب في العراق وسوريا ولبنان وليبيا وكذلك مصر واليمن.

كان اليمن منفردا في تجربته بالثورة السلمية. فحتى منتصف العام الماضي 2014، كان اليمنيون يتباهون بالحكمة اليمنية وانفراد تجربتهم في التغيير السلمي لولا التأمر الداخلي المتمثل في من مُنح حصانة لم يكن يحلم بها أي دكتاتور عربي وتحالفه مع من شن ضدهم ستة حروب وهم ميليشيا الحوثي. وبسقوط صنعاء المدوي في 21 ستبمبر كان له ما بعده فقد كانت العاصمة العربية الرابعة التي تسقط في قبضة المشروع الإيراني حسب تصريحات قادة في الحرس الثوري الايراني، ولم ينجح التحالف العربي والذي يعكس فشل النظام العربي الإقليمي ان يحتوي تلك الأزمة لا سلما ولا حرباً، ويومذاك فتحت أبواب جهنم على الشعب اليمني، وانزلاقه للمجهول.

وأرى بأن مآسي المجتمعات العربية المتلاحقة ولاسيما في جزئية العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة بين الشعب نفسه لا تعزى فقط في الجانب التعليمي فحسب بل وفي مجموعة قيم وأخلاق وتربية وسلوك حضاري فالتعليم وحدة مهما بلغ لايكفي لكبح جِماح سلوك وتهور الإنسان ومهما تمدن. والنُخب السياسية والمثقفة في اليمن تتحمل المسئولية الأولى في معاناة الشعب وليس عامة الشعب وفي هذا السياق يرى أديب اليمن الكبير الدكتورعبدالعزيز المقالح في مقالة نشرها مؤخراً: “.. بأن التحصيل العلمي والثقافي مهما علا وارتقى لا يصنع الإنسان السوي، فأوروبا في النصف الأول من القرن العشرين وصل المستوى الثقافي والتعليمي بين سكانها درجة عالية متقدمة مقارنة بالعصور الوسطى حيث يقدم لنا التاريخ القريب للقارة العجوز نماذج لا حدود لها لبشر تحقق لهم من التعليم الراقي والثقافة العالية ما يجلهم قدوة في هذا المجال، لكنهم كانوا وراء الحروب الأبشع في تاريخ البشرية وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية اللتان دارتا في القارة الأوروبية بين الجيران وأتباع الديانة المسحية التي تدعو الى الرحمة والسلام نموذجا للتوحش والدعوة للإبادة وإذا صحت الأرقام فأن أوروبا خسرت من أبنائها في الحربين ستين مليونا، فإنها تمثل قمة الوحشية.” ويضيف الدكتور المقالح بأن “القضية إذا ليست قضية بيئة حاضنة للمعرفة والثقافة والتمدن بل قضية تكوين نفسي تجذّرت فيه الوحشية وتأصلت ولم يكن للدين في الحروب المعاصرة ولا الانتهاكات، او عاملا فاعلا بقدر ما كان الشر الكامن في تلك النفوس هو الدافع والمؤثر، وما يحدث اليوم في وطننا العربي وفي العالم الإسلامي لايختلِف كثيرا عن ذلك الذي شهدنه أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين. صراعاً سياسيا وبحثاً دؤباً عن الغلبة والاستئثار والإحساس بالنصر لدى المنتصر الذي قد يكون مهزوما من داخلة! ومنكسرا بدرجة لاتقل عن إحساس خصمه المهزوم. ولكن تبلد الإحساس ونشوة التوحش أللإنساني تجعل من الصعب التفكير بالقيم والانصياع لسماع صوت العقل.”

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى