النفّري بين التراث الذي ظلمه والحداثة التي أحيته

صلاح حسن رشيد-

كيف كان وضع النفري، لو لم ينبش عنه أحد المستشرقين، فيخرج علينا بعظيم فكره، وأدبه؟ وماذا كان حاله، ومآله لو لم يتناوله قلم شاعر معاصر، فأعاد له الاعتبار بعد الاندثار؟

أجل، فهناك اثنان مدين لهما هذا الرجل المظلوم قديماً بالحفاوة والامتنان في العصر الحديث، هما: المستشرق آرثر آربري، وأدونيس.

فالأول هو الذي أعاده إلى الحياة بعد قرون من الإهمال والنسيان، بتحقيقه لكتابه “المواقف والمخاطبات” في العام 1934م في القاهرة، والآخر بتقديمه للقارئ العربي في إطار من الإبهار والإدهاش جعله محققه الثاني، وناشر كتاباته الجميلة بين الناس، في كتابه “الصوفية والسريالية”، بل إن أدونيس هو حامل مفاتيح الشخصية النفرية بلا منازع إحياءً، وفهماً.

فلولاهما ما رجع النفري إلى الوجود لا سيما بعد الحكم عليه من قبل المجتمع والفقهاء بالغياب القسري عن واقع الأدب، واللغة، والسلوك. والطريف في الأمر أن الحداثة العربية (المتهمة من البعض بالتغريب) هي الجهة الوحيدة التي أعلنت عن شهادة ميلاد النفري فاعترفت به باعتباره رمزاً عربياً استشرافياً، يضارع رامبو، وبودلير، بل إنها نسبته لنفسها بعد أن كان هائماً على وجهه في البرية بلا موطن، ولا انتماء في ظل تقاعس علماء الصوفية عن تناوله ضمن طبقاتهم وتراجمهم.

أما نقاد الأدب، وعلماء اللغة فلم يحفل أحد منهم طوال ألف عام بما كتبه النفري، ولم يتناول طرائقه المدهشة في الكتابة، والحوار أي عالم من هؤلاء.

فهل كان السبب أنه لم ينسج على منوال السابقين، وأنه كان إنسان نفسه، كما كان مبدع ذاته ما جعله نافراً، منفوراً في آن من البلغاء، والنحاة واللغويين والصوفية والمؤرخين والفلاسفة وعلماء الدين؟ ولماذا صمتت جمهرة علماء الأمة بمختلف أطيافهم عن تناول الظاهرة النفرية سواء بالمدح، أو بالقدح؟

أم أن النفري كان يعرف قدر نفسه، وقيمة إبداعه، وفساد الحياة الفكرية في عصره المائج بالفتن، والاضطرابات فآثر الانسحاب بعيداً عن مجتمعه الذي لن يفهمه، ولن يقدر قيمته، فأيقن بالهروب، وفضل حياة التنقل والسفر الدائم في الصحاري على أماكن الحضر اللاهية، وحياة القصور الخالية؟

أم أن النفري شكّك في الصوفية، وفي اتخاذهم التصوف قرباناً للعطايا، والهبات فانسحب راضياً بفكره، وطريقته، وفقره على حياة الصوفية المدعاة الزائفة؟ فهاجر بنفسه وروحه فعرف الحق فاستحق عطايا الحق باستلهامه لهذه الألوان الجديدة من الكتابة والإشراق.

أم أن النفري خشي من اصطدامه بعقول الفقهاء الجامدة في عصره، والتي ستجبره على النفي، أو السجن، أو القتل، كما حدث مع الحلاج والسهروردي القتيل، فترك لهم الدنيا بمتاعها؟

أم أن النفري لم يجد له تلامذة، ولا أنصاراً يستحقون أن يناضل من أجلهم بآرائه تلك، فقرر الرحيل؟

أم أن النفري كان إنساناً مذعوراً، لا يستطيع المجاهرة بطريقته، وأفكاره أمام العامة والخاصة فكان الجبن سلاحه، والفرار سبيله؟

أم أن النفري كان يرى بعين قلبه أن المستقبل للمبدعين والإبداع فلم يزاحم من أجل دنيا، ولم ينافس من أجل قُربى؟

والأعجب في أمر النفري أن الإسلاميين التراثيين في العصر الحديث اتخذوا منه موقف الصد، والنكران، والإساءة، تماماً كحال الأجداد.

والأشد غرابة أن رابطة الأدب الإسلامي تجاهلت الرجل تجاهلاً منكراً وكأنها لم تسمع به، ولم تقرأ إبداعه وهي الجهة الوحيدة التي تضم لها كل ما يخدم فكرها، حتى ولو لم يكن بينها وبينه رابطة عضوية، ولا علاقة أدبية، ولا صلة نفسية، في حين أنها احتفت بمن هم أقل من النفري قامة، وإبداعاً.

كما أن المضحك المبكي معاً أن محققي التراث العربي الكبار لم ينبشوا عن الرجل تراب العزلة المفروضة عليه، ولم يسمحوا له بالحياة، وكأنهم لم يسمعوا به، ولم يعرفوا أدبه، ولا أسلوبه الفريد في الكتابة. فأسماء من قبيل عبدالسلام هارون، ومحمود محمد شاكر، وأبو العلا عفيفي، وعبد الرحمن بدوي، وعبدالحليم محمود، والأب جورج شحاتة قنواتي، ومصطفى جواد، ومصطفى الشبيبي، وحمد الجاسر، لم يكتبوا عنه حرفاً.

فمن قبل، ومن بعد أقرر بإعجاب: أجل لقد عرفنا فضل الاستشراق، والمستشرقين على تراثنا، واعلامنا، كما عرفنا فضل الحداثة العربية التي تبنت عملاقاً من عمالقة الفكر، نبذه قومه، ولفظه أهله، وأهمله أدعياء الأدب، وتجنى عليه سواد الأرض العربية.

فرحمة الله على آربري العاشق للتراث، والدعوات الطيبات لأدونيس بالنبش الجميل، والعمر المديد.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى