النهضة تعني القدرة على الوقوف

هذا الكلام عمره عشر سنوات بالضبط. وقد كتبته لمجلة لم تنشره في حينها،وأهملته أنا في حينها. واليوم سينشر وكأنه لم يفت الأوان. فالزمن العربي باب دوار في فندق مقطوع الكهرباء.
_________________________________________

“علّمه كيف يعيش بدلاً من تعلمه كيف يتجنب الموت”
جان جاك روسو

__________________________________________

بعد مائة سنة من وفاة المصلح الشيخ محمد عبده (1845 ـ 1905) وهو كان مفتي الديار المصرية لسنوات، يستعيد المثقفون ذكرى فريق من المشايخ ولابسي البرانيط (الأفغاني، سلامة موسى، طه حسين) زملاء النهضة والاشتباك مع مجتمع نصفه رعاع والنصف الآخر من الطين.

بدأت فكرة الإصلاح الديني، حين تركت السلطات المشايخ يتناقشون حول التفسير والمذاهب، وعندما أنزلوا الدين إلى الواقع، بدأوا يتبارون بالفتاوى. حتى محمد عبده أفتى بقضية اللحم الحلال والحرام… أي أيهما حلال؟ الخروف المذبوح بالسكين (الإسلامي) أم المضروب بالبلطة (الغربي)؟ كما أفتى في معركة “الطربوش والقبعة” التي كانت معركة حامية الرأسين.

ويومها ذكّر جمهوره بما قاله محمد علي باشا لضباط الأسطول العثماني الذين أسرهم: “الفرق بيني وبينكم يا أبنائي أني أضع عمامة تركية على رأس أوروبي وأنتم تضعون قبعة أوروبية على رأس تركي”. ثم تطورت فكرة الإصلاح لتغدو خطة إصلاح السلطات والسلطنات بعد أن كاد الفساد يقضي عليها. وهنا يدخل على الخط المستشارون والحاشية والكتاب المؤمنون بظل الله على الأرض (الحاكم). إلى أن وصلت الفكرة مع اقتراب نهاية السلطنة العثمانية، إلى الاستقلال والاستبدال. أثناء و بعد الحرب العالمية الأولى… حيث استبدل موضوع الإصلاح بمصطلح “النهضة”.

ومنذ أوائل القرن العشرين وحتى اليوم، انثقبت آذاننا بموضوع الإصلاح . وحين جاءت الثورات في الخمسينات والستينات كاد المصطلح أن يهرب هريبة أبدية، لقد كان شعار حرق المراحل يعني الاستخدام الأقصى لهندسة الخراب…خراب الحجر والبشر.وقد رأينا أيضاً أنه “عندما تنتزع العروش لا يحل محلها إلا الجيوش” وفي الكاريكاتير، بريشة كريشة النَزق المرحوم ناجي العلي… الجحوش .

طال الوقت المخصص للثورات، بل أعطيت وقتاً إضافياً بدفع من الجماهير المسكينة المتعطشة إلى نصر واحد كامن خلف شعار، أو حقيقة واحدة في قلب الظلام…. فانتهت الوعود إلى هزائم سميت بأسماء حركية للتمويه على هبوط المعنويات، ووجدان الانكسارات وحين جاء نصر ملتبس في حرب تشرين/ أكتوبر ذهب حفيد محمد عبده، وسليل محمد علي، ووريث عبد الناصر، إلى إسرائيل.

قامت الساعة العربية وأعلنت زمناً مختلفاً : صمود مقابل انهيار، تصدي مقابل استسلام. ولم يكن المثقفون أقل بأساً من الحكام العرب. الذين أجمعوا على الصمود والتصدي: لقد آن أوان اختراق الجماجم وغسل الأدمغة في عملية متكررة عبر التاريخ “الأمل في ما تبقى تحت الردم” تماماً كالعائلة المهدوم بيتها. فتفتش كالطيور الحائمة عن فرخ ضائع.

لم تكن همروجة الإجماع العربي آنذاك على الصمود سوى مسودة سرية للقادم الأسوأ. وثمة من قال أيامذاك مستشعراًالخطر وأظنه أحمد مطر:

“اسمعوني قبل أن تفقدوني يا جماعة.
أنا صادق…فأبي لم يكن حزباً، وأمي لم تكن يوماً إذاعة.
العبد (السادات) صلّى في القدس فرداً،
والجماعة (الحكام) سيصلون… جماعة.

الأسوأ ليس أنهم اجتمعوا على الصمود ثم الصلاة جماعة بعد صلاةالسادات… لم يسمح لهم بالصلاة. فقد رفضت ، بعد عقدين، مبادرة الملك عبد الله المنطوية على أفدح إجماع في تاريخ شعوب الألم: الإجماع على الاستسلام”. هكذا نصل إلى محطة أخرى. تليها المحطة التي يقف فيها قطار شيخوخة الإيديولوجيا الثورية، فبانهيار “منظومة” الفكر الإنقلابي ، انفض الجمهور النخبوي عشوائياً وتوزع إلى “مصفوفات” الفكر المتعدد الجنسيات، ديمقراطيات، ليبراليات ، سوق… فركب الأفراد سياراتهم، وانتهى عهد النقل الجماعي إلى مواقع الثورات والإيديولوجيات…ثمة مسجلة لكل سيارة ،لكل فرد وهناك ما تشاء من خيارات “روتانا” الملكية السعودية الهاذية بفكرة الحب الأطرش.

وحين يتعود المثقفون والمفكرون على امتيازات إصغاء الجمهور المتلهف، وعلى غيرة رجل السلطة من قدرتهم على الكلام وعكسه، وحين تنهار اليقينيات السابقة… يذهب فريق كبير منهم إلى الماضي: الإصلاح، النهضة، تماماً كما يذهب السلفيون إلى نفس فصيلة الماضي وزمرته المثالية.

وهكذا ينتعش (بالعين)… الإصلاحي

وهكذا ينتفش (بالفاء)… السلفي.

ويبدأ حوار الطرش مع الواقع. الأول يعيد ويكرر، ولكنه ينتهي إلى القسم المتواضع من الإصلاح: إصلاح السلطات (الدولة) والثاني يعيد ويكرر أيضاً: إصلاح السلاطين ( الحاكم)، والفرق بين الاثنين هو كما قال “بورخس”: “الاستخدام الجيد للابتذال”. وإذا كان تحويم الذباب لا يعني بالضرورة وجود جثة، إلا أنه يعني وجود…أوساخ لا بأس بها في منطقة احتمال الجثة.

لقد انهار الإصلاح، وانهزمت الثورات، وتوقف الحس الجمعي عن الإنتاج الراقي للتآلف في المحنة والنهايات الخطرة، وانفض المعقدون عن العقيدة. فماذا تبقى سوى ذلك المشهد البائس لعرب بلا عروبتهم، ومسلمين بلا إسلامهم، وتجار حروب وبؤس في الوقت الضائع؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى