في لحظة تبدو كأنها مأخوذة من كتاب تاريخ يُكتب الآن، لا من الماضي، أجد نفسي أراقب ما يجري في الشرق الأوسط لا كمتفرج، بل كمن يعيش داخل المشهد، يسمع صرير التحولات، ويشم رائحة الخراب الممتزجة ببذور شيء جديد لم يتشكل بعد.
سقط النظام في سوريا. قُتل نصرالله. تفككت شبكات كانت تُقدَّس كأنها أبدية. اندلعت حرب بين إيران وإسرائيل، لا كحدث منفصل، بل كحلقة في سلسلة طويلة من إعادة التشكيل.
لكن السؤال الأهم ليس: “من سقط؟” بل: “من يُهندس هذا الخراب؟ ومن سيملأ هذا الفراغ؟”
ما بعد السقوط: حين لا تعود الأنظمة قادرة على تمثيل حتى نفسها
لم يكن سقوط النظام السوري مجرد نهاية لحكم الأسد، بل نهاية لفكرة الدولة المركزية التي كانت تُدار بالخوف والرمز.
لم يعد أحد يصدق أن “الدولة” تعني شيئًا موحدًا.
حتى من كانوا في صف النظام، باتوا يتحدثون عن “المنطقة”، “الطائفة”، “الحي”، لا عن “الوطن”.
وفي لبنان، لم يكن مقتل نصرالله مجرد ضربة عسكرية، بل انهيار لرمز ظل لعقود يُقدَّم كظلٍّ لله على الأرض.
سقطت الهالة، وبقيت الأسئلة: من نحن؟ وماذا بعد؟
من يدير هذه الفوضى؟ لا أحد… والجميع
لا أؤمن بنظرية المؤامرة، لكني أؤمن بـ”الهندسة غير المرئية”.
هناك قوى لا نراها، لكنها تُعيد ترتيب كل شيء:
– أمريكا تُدير من الخلف، لا تريد أن تنتصر، ولا أن تُهزم.
– روسيا غارقة في أوكرانيا، لكنها لا تريد أن تخسر سوريا.
– إيران تنزف، لكنها لا تستسلم.
– تركيا تتسلل، لا كغازٍ، بل كمنقذ مشروط.
– الصين تراقب، وتستثمر في الخراب.
لكن الأخطر من كل هؤلاء هو أن الفراغ نفسه أصبح لاعبًا.
الفراغ الذي تتركه الأنظمة، تملؤه الفصائل، الهويات الجزئية، والذاكرة المجروحة.
سوريا الجديدة: فسيفساء لا تشبه الخرائط القديمة
في سوريا، لم تعد الهوية كما كانت.
لم نعد “عربًا” فقط، ولا “مسلمين” فقط، ولا “علويين” أو “سنة” أو “أكرادًا”.
صرنا شيئًا آخر: هويات هجينة، تتشكل من الألم، من المنفى، من الإنترنت، من الموسيقى، من الثورة، من الخذلان.
شاب من إدلب يعيش في غازي عنتاب، يتكلم العربية والتركية، يرفض النظام والمعارضة معًا.
فتاة كردية من القامشلي، تصلي وتكتب الشعر بالإنجليزية، وتؤمن بسوريا لا تشبه أي سوريا عرفناها.
علوي من طرطوس، فقد أخاه في الحرب، ويبحث عن وطن لا يُبنى على الدم.
هذه الهويات ليست ضعفًا، بل قوة ناعمة، لأنها تسمح لنا أن نكون أكثر من شيء واحد، دون أن نفقد أنفسنا.
أحمد الشرع: من الجهاد إلى الدولة… هل هذا ممكن؟
صعود أحمد الشرع (الجولاني سابقًا) إلى رئاسة سوريا الانتقالية ليس مجرد حدث سياسي، بل رمز لتحول كامل في بنية السلطة.
هو ليس مانديلا، لكنه ليس القذافي أيضًا.
هو يقف في المنتصف:
بين ماضٍ مسلح، ومستقبل مدني.
بين صورة “الأمير”، وصورة “الرئيس”.
بين من يخافه، ومن يراهن عليه.
نجاحه لا يُقاس بعدد المؤتمرات، بل بقدرته على إنتاج عقد اجتماعي جديد، لا يُقصي أحدًا، ولا يُعيد إنتاج الكارثة بأسماء جديدة.
إلى أين؟ سؤال لا يملك أحد إجابته… لكننا نملك الحق في طرحه
الشرق الأوسط الجديد لن يُولد من مؤتمر دولي، بل من قاع الألم والوعي الشعبي المتراكم.
لن يُرسم بحدود سايكس بيكو جديدة، بل بخطوط الهوية، والذاكرة، والانتماء.
هل سينجح؟
ربما.
لكن النجاح هنا لا يعني “الاستقرار”، بل القدرة على العيش معًا دون أن نقتل بعضنا باسم الله أو الوطن أو الطائفة.
ما بعد الخراب… فسيفساء جديدة
نحن لا نعيش نهاية العالم، بل نهاية عالم قديم.
وما يُولد الآن ليس شرقًا أوسطًا جديدًا فقط، بل لغة جديدة لفهم أنفسنا.
لغة لا تقول: “أنا علوي، سني، كردي، فلسطيني…”
بل تقول:
“أنا إنسان، وهذه الأرض لي كما هي لك، وهذا الألم لا يُحتكر، وهذه الذاكرة لا تُنسى، لكنها لا تُستخدم كسلاح.”