انهم يغتالون التاريخ
كم بدا رهيباً مشهد «البرابرة الجدد» وهم ينقضّون بمعاولهم على التماثيل القديمة في متحف الموصل، محطّمين إياها ومدمّرين عصوراً من حضارة بلاد ما بين النهرين ومن تراثها الغابر الذي تضرب في أديمه جذور الإنسانية كلها. ولم يكتف هؤلاء الظلاميون بما دمروا من تماثيل وكنوز بل هم عمدوا إلى جرف مدينة أثرية هي مدينة «نمرود» أو «كالخو» درة الحضارة الآشورية. لا يميز قتلة «داعش» بين البشر والحجر، بين الضحايا الذين ينحرونهم بالسكاكين أو يقتلونهم حرقاً في أقفاص، وبين الآثار التي تشهد على نشوء الدين الإنساني وارتقائه. البشر أصنام والتماثيل أصنام والكنوز الحضارية أصنام، وفي عرف «الداعشيين» أنّ الأصنام تبعث على الضلال الديني ولا بد من إزالتها حفاظاً على الإيمان.
لم يهدم «الداعشيون» تماثيل وهياكل وآثاراً فريدة مقدار ما هدموا ذاكرة البشرية ووجدانها الأول واجتثوا جذور التاريخ القديم الذي لا تقوم حضارة من دونه. هؤلاء يكرهون التاريخ والحضارة كراهيتهم للبشر الذين لا يشبهونهم ولا يسلكون مسلكهم التكفيري. هؤلاء يمقتون الحياة نفسها، يمقتون النور والعقل والقلب، يمقتون إنسانية الإنسان وروحه وحقوقه التي منحه إياها خالقه. ليس هؤلاء بعميان، العميان يملكون بصيرة نافذة. إنهم ضالون ومضللون، لا رحمة في قلوبهم ولا تقوى ورؤوسهم خاوية، غرائزيون ومتوحشون، لا يعرفون حداً للكراهية والضغينة. لا يحقد هؤلاء على البشر والعصر فقط، هم يحقدون على تاريخ الاديان والافكار والماورائيات. لا يهمهم ان يكون للإنسان تاريخ وللعالم ذاكرة. كل ما قبلهم يجب ألا يوجد، يجب أن يُدمّر ويُردم. كل ما قبلهم أوثان و»طواطم» وخرافات وأساطير وأوهام. كل ما قبلهم كفر بكفر. وفي حسبانهم أن الإنسان إما أن يكون «داعشياً» أو لا يكون. وإذا لم يهتدِ إلى أفكارهم فهو كافر ومرذول.
لم يستطع «الداعشيون» أن يستوعبوا أديان التاريخ وما قبل التاريخ. قبلهم لم يكن دين ولا فكر ديني ولا طقوس ولا عبادات… إنهم ينكرون مفهوم التطور والتنامي. ينكرون المراحل التي عبرتها البشرية لتصل إلى ظلال خالقها، الخالق الذي رسم لها الطريق الطويل لتسلكه وتصل إليه أو لا تصل. ينكر هؤلاء أن لا إكراه في الدين. يريدون أن يجتثوا المراحل التي عبرتها البشرية متجهة صوب الحقيقة. إنهم يعجزون عن تصديق القصة الأولى للخلق، يعجزون عن تخيل الأساطير التي شغلت الحضارات كلها. هم لا يدرون أن البشر راحوا، منذ أن فتحوا عيونهم على الحياة، يسعون حثيثاً ليدركوا معنى الخلق ومعنى وجودهم في هذا العالم. وكان لا بد للإنسان القديم أن يتلمس صفاته والأفكار الأولى والأحاسيس ليصل ببطء إلى حقائق الوجود التي تظل أصلاً عرضة للتأويل والتجاوز. لا يمكن أن يُحاسب الإنسان القديم على عبادته الشمس والقمر في سياق ما يسمى «الإحيائية» التي مثلت فجر التاريخ الديني. و»الإحيائية» بحسب العالم الانتروبولجي البريطاني ادوارد ب. تايلور هي «إسقاط فكرة النفس أو الروح على المخلوقات الطبيعية» وهي «الفكرة التي كان يشعر بها الإنسان البدائي». ولم يكن مستغرباً أن ينتقل الإنسان القديم نفسه من «الإحيائية» إلى عبادة الأصنام والطواطم، لكنه لم يكن يعبد الحجر بنفسه بل ما أسبغ عليه من أفكار ورؤى. ولما أشرقت شمس الحضارات المتعاقبة، المصرية – الفرعونية والفينيقية والإغريقية والرومانية حل مفهوم تعدد الآلهة حاملاً معه طقوساً وأساطير فريدة. كان لا بد للبشرية من عبور هذا المسلك لتصل إلى أديانها الأخرى وفي مقدمها الأديان التوحيدية الثلاث. وكانت مصر الفرعونية مهد حضارة مشرقة ما زالت قيد الاكتشاف. وقد كتب المؤرخ الإغريقي هيرودوت يقول: «إن المصريين هم أكثر الناس تديناً بين الشعوب الأخرى».
لا يمكن حصر «الداعشيين» في إطار تنظيمهم الرهيب الذي لا نعلم تماماً كيف نشأ بسرعة وفرض أفكاره واحتل ما احتل من مساحات في العالم العربي. «الداعشيون» كثر في ظهرانينا، إنهم يختبئون خلف أقنعة يضللون الناس العاديين ويوقعونهم في الأسر. وخير دليل على وجود هؤلاء «المقنعين» أصوات بعض الأصوليين التي ارتفعت في مصر أخيراً داعية إلى هدم تمثال أبو الهول والأهرامات والتماثيل التي تملأ أرض الكنانة. هل يمكن تصور مصر خالية من الأهرام ومن كنوزها الأثرية التي هي ملك البشرية كلها؟ هل يمكن حرق «كتاب الموتى» الفرعوني تخلصاً من وثنيته؟ مثل هذه الأسئلة تشمل حضارة بلاد ما بين النهرين والحضارة الفينيقية والقبطية وسواها…
كم بدت مشاهد تحطيم التماثيل وجرف مدينة «نمرود» أليمة وأليمة جداً. إننا تعيش بصفتنا عرباً مأساة لا سابق لها. الشعوب تحارب للحفاظ على تراثها الحضاري وآثارها وأساطيرها، وفي العالم العربي يقوم «الداعشيون» بهدم معالم التراث وقتل الذاكرة الأثرية القديمة وعزل التاريخ في سجن التكفير والظلام.
صحيفة الحياة اللندنية