بؤر النكبة السورية [2/4]: اللاذقية… «يا محْلى» الحرب
مع أن محافظة اللاذقية بقيت بعيدة نوعاً ما عن ساحة المعارك العسكرية وخراب الحرب، مقارنةً بالمحافظات الأخرى كحلب وإدلب وحماة وغيرها، إلّا أنها عملياً كانت في قلْب هذه الحرب، سواءً لجهة المجازر المروّعة وعمليات الخطف التي ارتُكبت بحقّ مدنيين أبرياء في ريفها الشمالي، أو لجهة فاتورة الخسائر البشرية الكبيرة التي تحمّلتْها على امتداد الجغرافيا السورية، أو لجهة استقبالها آلاف النازحين من المحافظات الأخرى. وتالياً، فاللاذقية تأثّرت، على مدار السنوات الماضية، بشكل مباشر بتداعيات الأزمة. صحيحٌ أن بعض التأثيرات ظلّت أهون من نظيراتها في مناطق أخرى، كما هو الحال بالنسبة إلى الضرر الذي لَحِق بالوحدات السكنية، والمقدَّر رسمياً بنسبة 3.5%، أو بالبُنى التحتية والبالغ حوالى 17%، إلّا أن المحافظة باتت، مع زلزال 6 شباط المدمّر، في مقدّمة المناطق المتضرّرة في العقْد الأخير، وما إعلانها «منكوبة» إلّا دليل على أنها أصبحت في وضع لا تُحسد عليه، قد يمكننا تخيُّله من خلال مقاربة بعض مؤشّراتها الديموغرافية والاقتصادية التي كانت قائمة قُبيل صبيحة السادس من شباط الماضي.
تغيّرات الحرب
تحتلّ اللاذقية المرتبة العاشرة بين المحافظات السورية لجهة عدد سكّانها البالغ عام 2010 نحو 983 ألف نسمة، مُشكِّلة بذلك حوالى 4.8% من إجمالي عدد سكّان البلاد. وباعتماد نمط استمرارية الأزمة، فإن تقرير حالة السكّان الصادر أخيراً، يقدّر عدد سكّان المحافظة عام 2020 بحوالى 1.3 مليون نسمة، ما يعني معدّلَ نموّ قدْره 3.03% مقارنة مع عام 2010. لكن الجزء الأكبر من هذا النموّ سببه المباشر ظاهرة النزوح الداخلي؛ إذ وفقاً لنتائج المسح الديموغرافي الرسمي الذي جرى عام 2018، فإن اللاذقية استقبلت ما يزيد على 304.5 ألف نسمة، فيما تشير بيانات المسح نفسه إلى أنه غادر المحافظة حوالى 32 ألف نسمة، وتالياً فإن صافي الهجرة الداخلية وصل إلى 272 ألف نسمة.
وكما هو حال جميع المحافظات الجاذبة للهجرة الداخلية القسرية خلال فترة الحرب، فإن ظاهرة النزوح شكّلت ضغطاً على المرافق الخدمية والبُنى التحتية في اللاذقية، على رغم أنها أسهمَت في المقابل في تنشيط الدورة الاقتصادية في المحافظة، من خلال افتتاح مئات الورش الحِرفية والمهن والمنشآت الصناعية الصغيرة. ولربّما هذا هو ما تسبّب، إلى جانب عوامل أخرى، في رفْع نسبة مساهمة اللاذقية من الناتج المحلّي الإجمالي؛ إذ تؤكّد البيانات الرسمية أن تلك المساهمة ارتفعت من حوالى 4.64% عام 2010 إلى حوالى 7.81% عام 2020، بنسبة زيادة قدْرها 3.17%. وكذلك الحال بالنسبة إلى مساهمة المحافظة في الإنتاج الصناعي الخاص، والتي ارتفعت من حوالى 7% عام 2010 إلى حوالى 12.5% عام 2017. وفي تفسير تلك الأرقام، يمكن القول إن مجرّد حفاظ اللاذقية على دورها في الناتج المحلّي والإنتاج الصناعي، كان من بين الأسباب التي أدّت إلى زيادة نسبة إسهامها على المستوى الوطني، في ظلّ الانخفاض الحاصل في مساهمات محافظات أخرى دخلت في أتون المعارك المدمّرة.
على خطّ موازٍ، شجّعت حالة الاستقرار السكّاني التي عاشتها المحافظة خلال فترة الحرب – تأتي اللاذقية في المرتبة الرابعة لجهة ترتيب المحافظات الأقلّ نزوحاً -، العديد من الأسر النازحة إليها على الاستقرار فيها. إذ تَخلص بيانات المسح الديموغرافي لعام 2018 إلى أن هناك 25.1% من الأُسر النازحة في اللاذقية لا تفضّل العودة إلى مناطقها الأصلية، مقابل 74.9% تريد العودة إلى مناطق سكنها المعتادة.
تدهوُر معيشي
في الوضع المعيشي، لا يمكن تمييز محافظة عن أخرى، وإنْ اختلفت نِسب الفقر ومستويات الأمن الغذائي في ما بينها. ففي النهاية، هناك ملايين الناس الذين يعانون الأمرَّين في سبيل تأمين أبسط مستلزمات بقائهم على قيْد الحياة. واللاذقية المصنَّفة ضمن المحافظات القليلة المستقرّة، نالت نصيبها الوافر أيضاً من المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة. فهي في عام 2019، كان نصف سكّانها يصنَّفون في خانة الفقر الشديد (51%)، في حين أن تقديرات معدّل الفقر الإجمالي فيها وصلت خلال العام نفسه إلى حوالى 77%، علماً أن تقديرات ما قبل الحرب تتحدّث عن أن معدّل الفقر الشديد هناك لم يكن يتجاوز 2%، وحوالى 13% كفقر إجمالي.
ومع أن مركز مدينة اللاذقية جاء في المرتبة الثانية على مستوى مناطق البلاد من حيث وجود الأُسر الآمنة غذائياً فيه، والتي بلغت نسبتها حوالى 11.5%، إلّا أن المؤشّرات العامّة المتعلّقة بحالة الأمن الغذائي، والتي تمّ رصْدها في المحافظة في نهاية عام 2020، كانت سيّئة، فيما يُقدَّر أنها أصبحت أكثر سوءاً خلال العامَين التاليَين (2021/2022) جرّاء استمرار تدهوُر الأوضاع الاقتصادية في البلاد. ووفقاً لنتائج مسْح الأمن الغذائي المنجَز حكومياً بالتعاون مع الأمم المتحدة، فقد بلغت نسبة الأُسر التي تعاني من انعدام شديد في أمنها الغذائي في اللاذقية، حوالى 6.7%، وتلك التي تعاني من انعدام متوسّط 45.3%، ونسبة الأُسر المعرَّضة لفقدان هذا الأمن 41.8%، فيما سُجّلت فقط 6.2% من الأُسر الآمنة غذائياً. ولمواجهة ذلك العبء المعيشي وتجنُّب الانزلاق إلى خانة الانعدام الشديد للأمن الغذائي، فإن حوالى 26% من أُسر المحافظة تعتمد على ثلاثة مصادر للدخل، و49% على مصدرَين، فيما 25.4% فقط تعتمد على مصدر واحد.
ومن دون شكّ، فإن هذه المؤشّرات وغيرها، والتي للأسف زادت سوءاً خلال العامَين الأخيرَين بفعل تدهوُر الأوضاع الاقتصادية في البلاد، فاقمت من معاناة سكّان المحافظة مع كارثة الزلزال الأخيرة، سواءً من حيث عدد تجمّعات السكن العشوائي البالغة وفق التقديرات الرسمية حوالى 8 مناطق في المحافظة، وتلك التي يعتريها سوء تنفيذ، أو لجهة واقع النظام الصحّي العاجز عن مواجهة هكذا أزمة لسببَين: الأوّل محدودية إمكانياته، حيث يتواجد في اللاذقية حوالى 25 مستشفى حكومياً وخاصاً، فيها حوالى 2081 سريراً، بمعدّل سرير لكلّ 397 شخصاً؛ والثاني، عمْق تأثيرات العقوبات الغربية على عموم النظام الصحّي في البلاد.
صحيفة الأخبار اللبنانية