باريس تحذّر من «فتح ـ لاند» في الجنوب اللبناني.. بعد اتفاق القاهرة
الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي.. والانزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975 (3)
بدا الحفاظ على استقرار لبنان وسلامة أراضيه مهمّة مستحيلة بعد نكبة العام 1948، وفاقم الأمر تنامي الحراك الفلسطيني في أواخر ستينيات القرن الماضي. كانت منظمة التحرير الفلسطينية عازمة، في العام 1969، على انتزاع أكبر قدر من المكاسب داخل لبنان. إصرارها على تبنّي خيار «الكفاح المسلح»، عبر حدود الأراضي اللبنانية جنوباً، كان يتناقض مع سيادة الدولة. هذا الإصرار أدى إلى استحالة التوصل إلى تسوية سياسية ـ أمنية لأزمة النشاط الفلسطيني المسلح، كما رأينا في الحلقة الثانية من سلسلة مقالات «الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي.. والانزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975»، في عدد «السفير» أمس.
كان رئيس الجمهورية شارل حلو، ومن يسانده في السلطة، خصوصاً الأحزاب المسيحية، يسعون إلى عدم تقديم تنازلات. أما رئيس الحكومة المستقيل رشيد كرامي، فكان مصمّماً على عدم العودة عن استقالته ما دام الاتفاق حول العمل الفدائي أمراً مستبعَداً. هذا الانقسام الحاد بين القادة اللبنانيين، حرم البلد من المناعة الداخلية الكافية لتفادي أو لاحتواء التدهور الأمني الذي صار محتّماً.
إذا كانت «تظاهرة 23 نيسان» 1969 ساهمت في تحوّل المشهد السياسي اللبناني وفي تكريس انقسام خطير بين مؤيّد ومعارض للوجود الفلسطيني المسلح، فإن التوترات الأمنية التي وقعت في خريف 1969، لم تكن فقط أولى نتائج هذا الانقسام، بل شكلت عنصراً مساعداً لعملية تعبئة سياسية، حزبية وميليشياوية من نوع جديد. هكذا بدأ الجميع، سواء أدركوا أم لم يدركوا، يُعدّون العدّة للحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975. حلقة اليوم تسلط الضوء على تعامل الديبلوماسية الفرنسية مع أحداث خريف 1969، ونظرتها إلى التسوية (اتفاق القاهرة) التي وضعت حداً لتوترات أمنية من دون أن تضمن حلاً نهائياً لأزمة النشاط الفلسطيني المسلح في لبنان.
في خريف 1969، كانت الإدارة الأميركية تترقب بقلق التطورات في كلّ من الأردن ولبنان. تداولت الصحف العالمية، في مطلع تشرين الأول، أنباء مفادها أن لدى الاستخبارات الأميركية معلومات عن وجود «مؤامرة سورية ضد لبنان». في الثاني عشر من الشهر نفسه، صرّح مسؤول أميركي كبير بأن الولايات المتحدة «أعطت ضمانات إلى لبنان في شأن استقلاله وأمنه»، وأنهم سيتفحّصون «باهتمام بالغ كل تهديد موجّه ضد سلامة لبنان، أيًّا يكن مصدره». تمّ تفسير هذا التصريح باعتباره تحذيراً ضمنياً موجّهاً إلى الحكومة السورية. معنى ذلك، أن الوضع الإقليمي كان يتسم بطابع من التوتر ولم يكن يساعد البلد على تجنّب الاهتزازات والخضّات الأمنية.
«بروفا» الحرب
أيّ شرارة عنف كانت كفيلة بإشعال حريق على نطاق واسع. استفاق اللبنانيون، في صبيحة يوم 18 تشرين الأول 1969، على نبأ اندلاع مواجهات عسكرية شاملة بين الجيش اللبناني والفلسطينيين. تدهور الوضع بشكل مأساوي على كامل الأرض اللبنانية. نيران الاقتتال شملت مناطق راشيا، المصنع، الزهراني، طرابلس، بالإضافة إلى العاصمة بيروت، وكذلك بعض القرى في شمال شرق لبنان…
في الوقت عينه، أعلنت دمشق، في 22 تشرين الأول 1969، عن إغلاق الحدود اللبنانية ـ السورية. هذه الخطوة وفّرت دعماً مباشراً للمنظمات الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين. أرادت دمشق من خلالها الضغط على السلطات اللبنانية لأن من شأن إقفال الحدود إلحاق أضرار جسيمة بالمصالح التجارية للبنان.
بعض الصحف الغربية تحدّث عن إمكان حصول تدخل عسكري أميركي لمؤازرة السلطات اللبنانية والجيش. لكن أوراق ووثائق الأرشيف الفرنسي تسمح بالاستنتاج بأن تنسيقاً ديبلوماسياً فرنسياً ـ أميركياً ساهم في دفع الأمور نحو حل ديبلوماسي برعاية مصرية. فرنسا دعت إلى تجاوز الأزمة ووضع حد لأعمال العنف من خلال تسوية برعاية عربية بعيداً عن أي تدخل غربي. استفادت من حسن علاقاتها مع مصر من أجل حثّها للتصرف «بشكل معتدل» خلال إدارة الأزمة. كذلك، دعت الحكومة الفرنسية دمشق إلى تبني موقف معتدل للمساهمة بوقف التصعيد في لبنان وإعادة العلاقات اللبنانية ـ السورية إلى مجراها الطبيعي.
تسوية برعاية مصرية
في سياقٍ من الاتصالات الفرنسية ـ الأميركية، والأميركية ـ السوفياتية، والفرنسية ـ العربية، باشر الرئيس المصري جمال عبد الناصر، في 26 تشرين الأول، وساطةً تهدف إلى التوصل إلى تسوية بين السلطات اللبنانية والفلسطينيين. بعد جولة من المفاوضات الشاقة، وقّع قائد الجيش الجنرال إميل البستاني ورئيس منظمة التحرير ياسر عرفات ما يُسمّى بـ «اتفاق القاهرة» في الثالث من تشرين الثاني 1969. هذه التسوية ساهمت بوقف الاضطرابات الأمنية آنذاك، إلا أنها كرّست اعترافاً رسمياً بحرية العمل الفلسطيني المسلح على جزء من الأرض اللبنانية.
«اتفاق القاهرة»
ينص أحد بنود الاتفاق على «السماح للفلسطينيين المقيمين في لبنان بالمشاركة في الثورة الفلسطينية من خلال الكفاح المسلح ضمن مبادئ سيادة لبنان وسلامته». في ما يتعلق بالعمل الفدائي، فقد تمّ الاتفاق على تسهيله من خلال تدابير عدة، أبرزها: «تسهيل المرور للفدائيين وتحديد نقاط مرور واستطلاع في مناطق الحدود؛ تأمين الطريق الى منطقة العرقوب؛ تقوم قيادة الكفاح المسلح بضبط تصرفات كافة أفراد منظماتها وعدم تدخلهم في الشؤون اللبنانية؛ دراسة توزيع أماكن التمركز المناسبة في مناطق الحدود والتي يتم الاتفاق عليها مع الأركان اللبنانية؛ تنظيم الدخول والخروج والتجول لعناصر الكفاح المسلح؛ يؤكد الوفدان أن الكفاح المسلح الفلسطيني عمل يعود لمصلحة لبنان، كما هو لمصلحة الثورة الفلسطينية والعرب جميعهم».
بعد التوقيع على الاتفاق وعودة الهدوء، ساد ارتياح حذِر في باريس وغيرها من العواصم الغربية. سبب الحذر مردّه أن إضفاء طابع شرعي على النشاط الفلسطيني المسلح يثير علامات استفهام حول تداعيات تسوية القاهرة على الوضع الأمني في الجنوب وانعكاسات أي اضطراب هناك على الوضع اللبناني عموماً.
«فتح لاند» في الجنوب؟
نظرت الأوساط الديبلوماسية الفرنسية بقلق إلى مصير اتفاقية الهدنة الموقّعة بين لبنان وإسرائيل في العام 1949. في ردة فعل أولية، سبقت الاطلاع على نص «اتفاق القاهرة»، رأى سفير فرنسا، برنار دوفورنييه، أنه «لم يعد بإمكان لبنان نفي وجود الفدائيين على أرضه». ثم استطرد محذراً من أنه «ستتم إعادة وضع اتفاقية الهدنة على بساط البحث إذا وافق لبنان على مدّ خطوط الاتصالات (التي يمتلكها الفلسطينيون) وصولاً إلى الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية المتعارف عليها، وليس فقط إلى المناطق الحدودية السورية المحتلة، أو إذا تمّ السماح بتمركز الفدائيين بأعداد غير محددة في الجنوب»، كما ورد في إحدى البرقيات الديبلوماسية.
هذا التحذير يستوجب التوضيح بأن للديبلوماسي الفرنسي مقاربة تفيد بأن «لبنان، حين «يتجاهل» مرور الفدائيين عبر حدود الجولان المحتل، لا يخالف رسمياً اتفاقية الهدنة (…)، أقلّه في حال اقتصرت عمليات الفدائيين على المناطق المحتلة في العام 1967». هذا يدلّ على أن الفرنسيين كانوا يدعون ضمناً إلى بقاء النشاط الفلسطيني المسلّح محصوراً في المناطق المحتلة، وذلك بانتظار حل سلمي شامل وعادل للصراع في المنطقة. وكانوا يدركون أن توسعه باتجاه كامل الحدود اللبنانية ونشوء ما يُعرف بـ «فتح ـ لاند»، هما أمران من شأنهما التأسيس لحالة غير مستقرة.
شروط الحدّ من الخسائر
كانت فرنسا مدركة شروط الحد من خسائر «اتفاق القاهرة» لبنانياً. عملياً، كان السفير الفرنسي يترقب نتائج الاجتماعات التنسيقية بين السلطات اللبنانية والفلسطينيين غداة إبرام الاتفاق. اعتبر في برقية أرسلها إلى الـ «كي دورسيه»، في 6 تشرين الثاني، أنه «إذا لم تسمح السلطات العسكرية بأن يتمّ تخطيها، وإذا تم تطبيق الاتفاق بعيداً عن المزايدات الديماغوجية، فستكون هناك إمكانية، على ما يبدو، بتنفيذ الاتفاق من دون إلحاق أضرار بالغة الخطورة باستقلال وسيادة وسلامة لبنان». بيد أن السفير ربط أيضاً بين إمكان الحد من الخسائر ووحدة الموقف الوطني اللبناني. أصرّ في تحليله على ضرورة «أن يجد قادة المقاومة الفلسطينيية أمامهم (على طاولة المباحثات) ليس فقط حكومة (لبنانية)، بل أيضاً فريقاً من الوطنيين العازمين على وضع حد لتبايناتهم الشخصية والقادرين على تمثيل جميع الاتجاهات (السياسية)».
بمعنى آخر، كان دوفورنييه يتخوّف من حدوث تصرفات فلسطينية من شأنها أن تطعن في سلطة الدولة (الجيش). كان يفضّل عدم إحجام الجيش عن الاضطلاع بكامل صلاحياته. كذلك، كان يحذّر من غياب الإجماع السياسي اللبناني خلال المرحلة التي سيتخللها الإشراف على تنفيذ اتفاق القاهرة. لكن هذه المرحلة خيّبت آمال الفرنسيين. هذا ما تظهره النظرة الديبلوماسية الفرنسية حيال مرحلة ما بعد «اتفاق القاهرة»، والتي ستكون محور الحلقة الرابعة المقبلة.
صحيفة السفير اللبنانية