باسكال لحود تقارب فلسفة العلوم بتوقيت بيروت
تختار الباحثة باسكال لحود في كتابها «فلسفة العلوم بتوقيت بيروت: الحاجّ وحبشي ونصّار إزاء العلم وقضاياه» (منشورات جامعة الروح القدس -الكسليلك) ميدانا في الفلسفة اللبنانية، قلما تم التطرق إليه يتمثل في فلسفة العلوم. وكما توضح الباحثة ينطلق البحث من فرضيَّة متواضعة مفادها أنَّ شبكة الأفكار التي يشترك بها كلٌّ من كمال يوسف الحاج (1917-1976) ورينه حبشي (1915-2003) وناصيف نصار (1940-…)، على اختلاف مواقعهم الفلسفيَّة وخياراتهم القوميَّة، تصلح مدخلاً لفهم خصوصيَّة التفلسف «بتوقيت بيروت».
ذلك أنَّ محاولتهم التفلسف في هذه المنطقة من العالم ولها تتطلَّب منهم التوفيق بين يونيفرساليَّة الفلسفة والتزامها قضايا مجتمعها، وبالتالي التفكير على إيقاعين مختلفين يبلغان أحياناً حدَّ التنافر: إيقاع المشروع النهضويِّ الذي يحملونه لمحيطهم، وإيقاع النقاش الفلسفيِّ العالميّ. على هذا الفارق- الفالق الآخذ بالاتِّساع، يقفون جميعهم، وتحمل نصوصهم آثار محاولتهم ردمه، آثاراً تميِّز ما يسمِّيه فونتاني «اللحظة الأيديولوجيَّة» ويعني بها السياقات التي يظهر فيها للقارئ أنَّ النصَّ يحاول التقيُّد، بشكل متزامن، بسلَّمي قيم متناقضَين.
ينقسم البحث إلى ثلاثة محاور، كلٌّ منها مخصَّص لدراسة تطوُّر موضوعة العلم عند واحد من هؤلاء الفلاسفة، ودلالات انتقال العلاقة بين الفلسفة والعلم عنده من التلازم، في مرحلة أولى، إلى تنافس تدريجيٍّ قد يبلغ مستوى التنافس والتضادِّ، لاحقاً، مع ما يرافقها من تناول لإِشكاليّات فلسفة العلوم كالتمييز بين ما هو علم وما ليس علمّا، والتوفيق بين تعاقب النظريّات العلميَّة المتناقضة وادِّعائها جميعاً التعبير عن الحقيقة. لقد تعمَّدنا تخصيص فصل منفصل لكلٍّ من المؤلِّفين احتراماً للإيقاع الخاصِّ بنتاج كلٍّ منهم، وتبياناً لتنوُّع السبل التي يفدون منها إلى مسائل العلم، وقد اعتمدنا المقارنات والتذكيرات الموضعيَّة لمساعدة القارئ على تبيُّن التصادي بينهم ومواضع المشتركات والافتراقات
وترى لحود أن المشترك الأوَّل بين المفكِّرين هؤلاء هو اختيارهم الالتزام بمتطلِّبات اللحظة الحضاريَّة التي يعيشها مجتمعهم وتكريسهم فلسفاتهم لفهم الحاجات التي تتَّسم بها، ورسم السبل إلى تلبيتها. وينطلقون جميعهم من حيث انطلق مفكِّرو النهضة قبلهم، أي من واقع التخلُّف، يجدون فيه إجابات على ثلاثة أسئلة على الأقلِّ: لماذا ضمور الفلسفة عندنا؟ ولماذا من المفيد لنا، بل من الضروريِّ، أن نتفلسف؟ وما هو الموضوع الأكثر طارئيَّة الذي يجدر بفلسفاتنا أن تنكبَّ عليه قبل سواه؟
وفي رأيها ان مهمَّة الفيلسوف الأولى، بعد تشخيص التخلُّف، وبعد تبيان أهليَّة الفلسفة لمقاربته ونقده، تحديد ما يلزم لمعالجته. وهنا، يشترك فلاسفتنا الثلاثة في جعل انتشار الذهنيَّة العلميَّة عنصراً أساسيّاً في استراتيجيَّة الخروج من التخلُّف. وقلَّما يتخطَّون حدود الحضَّ على اكتساب العلم ونشره، فينتقلون مثلاً إلى مقاربته مقاربة نقديَّة، ولا سيَّما في سياق المؤلَّفات المبكرة وأو ذات الطابع الملتزم، حيث تبقى الحدود بين العلم والفلسفة حدوداً نائمة، إن جاز التعبير، ويتركَّز جهد ترسيم الحدود على تسييج ميدان العقل ضدَّ ما يشكِّل خطراً على– أو حائلاً دون– تطور العلم والفلسفة معاً، من دون اهتمام كبير بترسيم الحدود داخل العقل، بين الفلسفة والعلم، ودونما إشارة واضحة إلى ضرورة ممارسة الفلسفة قدرتها النقديَّة إزاء العلم نفسه.
وتسأل لحود: ولكن هل يكفي اختيار الفيلسوف عندنا مسألة العلم، أو اضطراره لها، كيما تكون لنا «فلسفة علوم»؟ وهل هذه الأخيرة أولويَّة فلسفيَّة و/ أو حضاريَّة عندنا كيما يجوز لنا أن نقرأ أثر فلاسفتنا في ضوء إسهامهم فيها؟
خلاصة القول أنَّ من السابق لأوانه أن نتحدَّث عن فلسفة موضوعها العلم عندنا، ونحن بعد لم ننشئ فلسفة وعلماً بالمعنى الحقيقيّ ، ولم نحرِّر كلّاً منهما من الوصايات المتنوِّعة المفروضة على ممارسة العقل مهامه. لكنَّنا، إذ نقتفي، مع ذلك، حضورها الخفر واللامحوريَّ في النتاجات الفلسفيَّة الثلاثة التي اخترنا، إنَّما نتَّخذها مفتاحاً تأويليّاً يتيح دراسة الحدود المتحرِّكة بين قارَّتين معرفيَّتين قيد التشكُّل، أو قيد التمنِّي- العلوم والفلسفة- والمحاولات لحسم قضايا لحدود بينهما باكراً، بالنظر تارة إلى حاجة المجتمع، وتارة إلى تصوُّر معياريٍّ لما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة بين الفلسفة والعلوم، وطوراً في محاولة الإفادة من تجربة الغرب وتطبيق خلاصاتها عندنا بشكل وقائيّ. يجمع الفلاسفة الثلاثة، أوَّلاً، على أنَّ الأزمة عندنا هي أزمة عقل وعقلانيَّة قبل كلِّ شيء، إذ «لا شيء اليوم يضاهي العقل الشرقيَّ ذلّاً وضعة»، يقول حبشي، لذا فمهمَّة الفلسفة الأولى، عنده، نصرة العقل على حلف التجريبيَّة والوحي، وعند نصّار، على استرقاق الأيديولوجيَّة له، وعند الحاجّ، على الأدب الصغير «المائع» والسياسة الصغيرة العشواء.
ومقولة الاستقلال ثابتة أخرى تعبر المشاريع الفلسفيَّة الثلاثة على تفاوت الإطر الانتمائيَّة التي يدعو كلٌّ من مفكِّرينا لاستقلالها فكريّاً: فالحاج منظِّر لفلسفة لبنانيَّة تكرِّس استقلالنا السياسيَّ باستقلال فكريٍّ قوامه «لبننة الفلسفة في سبيل فلسفة لبنان». في حين يبحث حبشي عن «شخصانيَّة من عندنا» تؤصِّل انتماءنا إلى التراث والرسالة المتوسِّطيَّين، وتنهي حال الاغتراب الفكريِّ الذي تعيشه شبيبتنا جرّاء استيرادها أفكار الغرب تارة، والشرق السوفياتيِّ تارة أخرى. أمّا بالنسبة إلى نصّار، منظِّر «الاستقلال الفلسفيِّ»، فلا سبيل للفكر العربيِّ إلى الإبداع والتأثير إلاّ من خلال الاستقلال عن التراث العربيِّ الإسلاميِّ الوسيط وعن الفكر الغربيّ المعاصر.
وفي تلمُّسهم للعدَّة الضرورية للفلسفة، لا مفرَّ لمفكِّرينا من التصدِّي لمسألة اللغة، وإن من مواقع وعلى مستويات مختلفة: فعند الحاجِّ، «فيلسوف اللغة العربيَّة»، ليست العربيَّة قاصرة عن الأداء الفلسفيِّ، كما يصوِّر البعض، وما افتقارها الحاليُّ إلى المصطلحات الفلسفيَّة سوى نتيجة لعدم تفلسفنا بها، وليس العكس. أمّا حبشي، الذي حبَّر مجمل نتاجه بالفرنسيَّة، فيعهد للفلاسفة والعلماء معاً بالمهمَّة القاضية بلمِّ فصام العربيَّة المفروعة لغتين، لغة تراثيَّة دينيَّة متحجِّرة، ولغة اختباريَّة مرتجلة لا جذور لتجديداتها ولا عقل يضبط نموَّها الفوضويّ. في حين يرى نصّار أنَّ النهوض يمرُّ حكماً بالتمييز بين الفلسفة والأدب، بين ما هو فكر وبين ما هو جمال، لذا فإنَّ من سمات الذهنيَّة العلميَّة التي يدعو إلى تعميمها في المجتمعات العربيَّة إرساءها علاقة باللغة مختلفة عن العلاقة التي يقيمها الأدب والفقه معها، تتخطّى الجماليَّة المجّانية والمنطق الصوريَّ إلى تفاعل أكثر أصغاء للواقع، لأنَّ الفلسفة معنية بتفسير هذا الأخير وتغييره.
وتقول لحود إنها اختارت دراسة مؤلِّفين «اشتغلوا» بالفلسفة، على تنوُّع مواقفهم من تحديدها ووظيفتها ومواقف معاصريهم ولاحقيهم من فلسفيَّة محاولاتهم. وقد «اشتغلوا» بها في لبنان، سواء اعتبروه وحدة قوميَّة، وأكاد أقول فلسفية، قائمة بذاتها، كما هو حال كمال الحاج، أو جزءاً من مجال عربيٍّ أوسع كما هو حال نصّار، أو جسراً بين أذرع المتوسِّط وأزمنته كما هو حال حبشي، وسواء كتبوا بالعربيَّة (كنصّار والحاج)، أم اعتبروا أنَّ بإمكانهم التفلسف بلغة غير لغة المجتمع الذي به التزموا (كحبشي). هي محاولة مطروحة للنقاش، لا تستنفد ما يمكن أن يقال في المؤلِّفين الثلاثة، تفسيراً وتحليلاً ومقارنة ونقداً، ولا تعفي من ضرورة قراءة آثار «توقيت بيروت» في الفكر اللبنانيِّ الموسوم فلسفيّاً عند مؤلِّفين آخرين، ومن زاوية موضوعات أخرى.
تعقد ندوة حول كتابين للباحثة بسكال لحود هما «فلسفة العلوم بتوقيت بيروت» و «على الشفير: قراءات حدودية في الفكر اللبناني» السادسة والنصف من مساء اليوم في الجامعة الأنطونية، ويشارك فيها الأب جورج حبيقة، مشير عون، يوسف كمال الحاج، الأب جوزف أبو رعد.
صحيفة الحياة