لقراءة وتتبّع خلفية ما يجري من أحداث في البادية السورية الشمالية – الشرقية، كما الجنوب السوري، نستحضر المشروع القديم – الجديد الذي يحكم هذه الخلفية، وهو مشروع البافر ستيت بأهدافه المتعددة: أولاً لفصل سوريا عن العراق وتفكيك أيّ شكل من الترابط بين أطراف محور المقاومة، وثانياً لتطويق سوريا بكل حدودها بأشكال من المناطق العازلة.
البافر ستيت حاجز وظيفي بشري – طبيعي معروف في الجيوبوليتيك وخرائطها الاجتماعية للعزل بين دولتين أو أكثر أو بين جماعات سياسية، سواء كانت متحاربة أو متناقضة أو متجانسة، لمنع اتحادها أو تنسيق سياساتها.
وقد شاع كسلوك سياسي بعد الحروب التي شهدتها أوروبا خلال تفسّخ النظام الإقطاعي البابوي لمصلحة ميلاد أمم وثورات قومية برجوازية، وكان من تداعياتها مثلاً تأسيس بلجيكا كدولة حاجزة قبل تعميم هذا النموذج في مناطق الصراعات الأخرى للرأسماليات الصاعدة وحروب النهب التي أشعلتها في كل العالم، والتي نجم عنها تشكيل دول وظيفية حاجزة في آسيا وأفريقيا، مثل أفغانستان وبقية البانتوستانات السياسية التي أعلنت في الشرق الأوسط على شكل دول مستقلة.
يُشار على هذا الصعيد إلى أن الإمبريالية البريطانية بعد تجربة محمد علي في مصر ومحاولته توحيدها مع بلاد الشام وحصار إسطنبول نفسها بعد هزيمة الجيوش العثمانية على يد الجيش المصري، وبعد شق قناة السويس وأهميتها على طريق الهند الشرقية، قررت إقامة أول بافر ستيت في الشرق الأوسط يفصل مصر عن سوريا، هو البافر ستيت الصهيوني، وإلى جانبه خاصرات رخوة وبافر ستيتات أخرى تفصل الكيان عن الشرق العربي، وذلك وفق مذكرات باحثين وسياسيين إنكليز متخصصين في المنطقة، مثل ماري ولسون وكيركبرايد؛ المعتمد البريطاني الأسبق في شرق الأردن.
إلى ذلك، وبعدما توهم البعض أن المنطقة في طريقها إلى أجواء باردة، وأن الحصار الأميركي الإجرامي حول سوريا قد يرفع نسبياً، اعتماداً على تحسن في العلاقات السعودية – الإيرانية وانفتاح دول عربية على سوريا التي استعادت مقعدها في الجامعة العربية، فات هذا البعض أن تلك المؤشرات جزء من استراتيجية أميركية مجرّبة، أولاً للاحتواء والقضم التدريجي لأطراف محور المقاومة وتفكيكها وعزلها عن بعضها البعض ما أمكن وتوسيع مساحة القوى الناعمة داخل هذا المحور، وثانياً تمهيداً لانسحاب أو إعادة انتشار قوات الاحتلال الأميركي واستبدال ذلك بقوى محلية وإقليمية وأشكال من الفوضى المبرمجة، وثالثاً بالتقاطع مع تصورات العدو الصهيوني التي تنطلق من تحديد محور المقاومة، وخصوصاً حزب الله، كمصدر قلق كبير لا بد من إضعافه أو استنزافه في استدراجات محلية معروفة.
وأياً كانت السيناريوهات المحتملة المذكورة، فثمة معطيات واضحة تدل على أن الاحتلال الأميركي في سوريا، بل في عموم المنطقة، ومعه العدو الصهيوني، وأدواتهما، في طريقهم لإنتاج طبعة جديدة من التدخل الوقح والعشرية السوداء، سواء بإعادة إنتاج أدوار سابقة معروفة أو إدخال لاعبين جدد أو إحداث تحولات عند لاعبين إقليميين من الكبار والصغار على حد سواء.
ومن ذلك، ليس من الصعب ملاحظة الاستعدادات العالية في أنقرة لتقليص مساحة المناورة مع موسكو في مقابل إضعاف قسد ومشاركة تركيا في احتضان قسم من العشائر العربية بغطاء الرعاية السنية، آخذين بعين الاعتبار التجربة السابقة لقبائل الصحراء السورية والعراقية وامتداداتها الإقليمية، السعودية والأردنية، وهو ما سنتناوله في هذا المقال.
تستعاد فكرة البافر ستيت مجدداً كما انطلقت عام 2011 عبر حشد تجمع إقليمي ودولي كبير ضد سوريا، وبمشاركة العدو الصهيوني ومال وإعلام النفط والغاز المسال والإسلام الأطلسي، كما عبر خليط من الثورات الملونة والجماعات التكفيرية المسلحة وما يعرف بالصحوات العشائرية وارتباطاتها المتناثرة بين أكثر من عاصمة.
وكان ملاحظاً في كل ذلك الإيقاع المشترك لما سبق مع النقاط الحساسة للجغرافيا السياسية السورية وجيرانها من كل الجهات، وأكثر من خاصرة ذات لون جهوي، ما يسمح بتحويلها إما إلى مناطق عازلة وجزر وبؤر توتر، وإما إلى بافر ستيتات حدودية عسكرية – جهوية، من عناوينها وترميزاتها الفاقعة بعض الحراكات العشائرية شرقاً وجنوباً، والرايات الطائفية ورسالتها التمزيقية التي قد لا تكون بعيدة عن مؤتمر عقد في عاصمة شرق أوسطية بحضور عضو من الكنيست من جماعة نتنياهو.
كانت البافر ستيتات هي الأكثر خطورة بسبب وظيفتها المركبة، الطائفية والجهوية التمزيقية من جهة، ولوظيفتها العسكرية الأمنية في عزل أطراف محور المقاومة وعواصمه من جهة ثانية، وكانت البداية إقامة تنظيم “القاعدة” و”جبهة النصرة” في القصير مقدمة لوصل القلمون مع الحرمون (جبل الشيخ) والجولان المحتل، أي لربط الجماعات التكفيرية مع “الجيش” الصهيوني، ولعزل حزب الله عن سوريا وبقية محور المقاومة.
الميادين نت