بروتوكولات حكماء صهيون (ماهر سقا أميني)
ماهر سقا أميني
من أمثلة التفسير الاختزالي والسطحي الفقير للتاريخ والواقع عند معظم المؤرخين والمخاطبين الإسلاميين المعاصرين ما شاع في أدبياتهم حول ما سمي ببروتوكولات حكماء صهيون، حتى إذا تعثر مسلم في الشرق أو كبا آخر في الغرب عزي ذلك الى المخطط اليهودي العبقري الذي صيغ من قبل حكماء صهيون والذي يرتب ويخطط لحياة العالم والمسلمين إلى يوم يبعثون .
وقد ألف الدكتور الراحل عبدالوهاب المسيري، رحمه الله، وهو من أمضى شطر عمره في صناعة (موسوعة اليهود واليهودية) كتاباً عن هذا الموضوع بعنوان (البروتوكولات اليهودية والصهيونية) شرح فيه ملابسات تزوير هذه البروتوكولات ونشرها وتعرض بالنقد لنصوصها مبيناً آثارها المدمرة في إرساء اليأس من أية محاولة بناء أو فعل أو تحرر من قبضة حكومة العالم الخفية!! .
يقول المسيري: والرأي السائد في الأوساط العلمية التي قامت بدراسة البروتوكولات دراسة علمية متعمقة هو أنها مزورة استفاد كاتبها من كتيب فرنسي كتبه صحفي يدعى موريس جولي يسخر فيه من نابليون الثالث بعنوان حوار في الجحيم، ثم إن هذا الكتاب وقع في يد ألماني كان ينشر كتبه باسم سير جون رتكليف وأعاد صياغة حوار جولي في قصة أسطورية عن المؤامرة اليهودية كجزء من سلسلة روايات صدرت العام ،1868 وفي فصل بعنوان (المقبرة اليهودية في براغ ومجلس ممثلي أسباط إسرائيل الإثني عشر) ادعى الكاتب الألماني أن ثمة مؤتمراً يعقد مرة كل مئة عام يحضره الحاخامات بهدف دراسة المئة عام السابقة ووضع خطط للمئة عام التالية، وقد ذكر الكتاب أن الحاخام ايكهورن ألقى محاضرة وضع فيها خطة لتدمير الحضارة الغربية – وما زلنا حتى الآن في سياق الرواية- وقد ترجمت هذه الرواية إلى الروسية عام ،1872 ثم ظهرت طبعة موجزة تحت عنوان (خطبة الحاخام) العام ،1891 وهكذا تحول الحوار بالتدريج الى خطبة الحاخام ثم إلى مؤتمر سري يعقده حكماء صهيون الشرسون المفترسون” (11-14 بتصرف)
ثم يعقد المسيري مقارنات بين نص البروتوكولات ونص “حوار في الجحيم” الذي كتبه الفرنسي كحوار بين ميكيافيللي ومونتسكيو ليظهر التطابق في التعابير والترتيب ما يؤكد أنها قد أخذت في معظمها منه .
وعندما ترجمت البروتوكولات إلى العربية على يد محمد خليفة التونسي ادعى هذا الأخير أنه مامن أحد ترجم البروتوكولات أو عمل على إذاعتها بأي وسيلة الا انتهت حياته بالاغتيال، كما أن اليهود يشترون كل نسخه حتى لا تقع في يد أحد، يقول المسيري: “وقد روى التونسي عن واحد من كبار الكتاب المصريين أن كل من ترجم الكتاب في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا – ونسي أن يذكر بلاد الهند والسند- قد قتلوا جميعاً وأن الصحف التي نشرته نسفت أيضاً لأن اليهود حريصون على أن يظل سراً، وأنه -أي التونسي- قد لقي في نشر ترجمته للبروتوكولات من المتاعب مايطول ذكره كما اكتشف السلطان الواسع الذي يتمتع به اليهود حتى في أهم المؤسسات الوطنية” (ص 17) .
ويؤكد المسيري أن المترجم التونسي وغيره كثيرون ممن ترجموا البروتوكولات ونشروها لم يحصل لهم شيء مما سبق ذكره، فقد بقي الأستاذ التونسي نفسه على قيد الحياة لما يزيد على عشرين عاماً بعد أن تحلى بالشجاعة واستعد للشهادة وترجم البروتوكولات ومات ميتة طبيعية، كما أن دار التراث التي نشرت الترجمة لم تتعرض للنسف والهلاك، وأن الكاتب المصري الكبير الذي حذره من مغبة فعلته قد مد الله في عمره ولا يزال حياً يرزق (2003م) وهو من كبار الداعين إلى التطبيع في مصر والتشهير في اليهود في الوقت ذاته .
أعتقد أن هذه الطريقة في التعامل مع الوثيقة المزورة والتي سميت ببروتوكولات حكماء صهيون هي الطريقة الواسمة لتفاعل معظم المؤرخين والمفكرين المسلمين المعاصرين معها حتى أن كثيراً من تاريخ القرن العشرين كما يكتبه هؤلاء يتهاوى بمثل هذه الدراسة الفاضحة – ومثلها كثير – لأننا اعتدنا أن نفسر كل الحروب والنزاعات والنكبات والنكسات والخيانات والسقطات والسرقات والاختلاسات وحتى ارتفاع الأسعار وشح المواد وانقطاع الماء والكهرباء وتراكم القمامة في الشوارع على أنه من نتائج مخططات حكماء صهيون
يقول المرحوم عبد الوهاب المسيري في كتابه عن البروتوكولات اليهودية: “من الواضح أن البروتوكولات هي نص روسي بمعنى أن من كتبه ينتمي إلى التشكيل الحضاري الروسي وإلى الكنيسة الأرثوذكسية كما ينتمي سياسياً إلى التشكيل السياسي الرجعي القيصري ويمكن التدليل على ذلك من خلال تحليل النص ذاته” .
فالنص الأصلي كتب بالروسية وليس بالآرامية أو باليديشية، كما يلجأ كاتب الوثيقة الروسي إلى تشويه سمعة أعدائه بأن يبين علاقتهم باليهود !! ويمكن القول إن هجوم البروتوكولات على الماسونية يبين مدى سذاجة النبرة وتشوش الأفكار كما يشير إلى أصولها الروسية القيصرية حيث كانت الماسونية في أواخر القرن التاسع عشر مرتبطة بالحركات الديمقراطية والثورية المبغوضة من قبل كاتب البروتوكولات الروسي، ويتضح ذلك أكثر عندما يدعي كاتب البروتوكولات المدافع عن القيصرية الروسية المتداعية أنهم أي كحكماء صهيون سيسيطرون ليس فقط على الصحافة والإعلام بل على عالم الأفكار، فهم سيخترعون أفكاراً مثل الحرية والإخاء والمساواة – مع أن هذه المعاني قديمة قدم الإنسانية – وسيبتكرون الفردية لتهديد الحياة الأسرية والتي يبدو أنها انقلبت عليهم حيث معدلات الطلاق في العائلات اليهودية لا تقل عن غيرها، بل إنهم ابتكروا علوماً من بابها إلى محرابها كعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، وتصل هذه الادعاءات إلى قمة السخافة في الادعاء التالي: نجاح داروين وماركس ونيتشه رتبناه من قبل والأثر الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم في الفكر الأممي غير اليهودي سيكون واضحاً لنا على التأكيد، مع أن داروين ونيتشه ومن قبلهما ميكيافيللي لم يكونوا يهوداً أما ماركس فكان ابناً ليهودي متنصر وكان هو ملحداً لا يؤمن بأي دين .
ويدعي كاتب البروتوكولات أنهم واضعو الليبرالية والديموقراطية والاقتصاد الحر “ مع أنهم كانوا وراء ماركس أيضاً- كما أنهم سيؤسسون للإلحاد حتى تنتشر مفاهيم الحرية والمساواة فلا يخضع الناس للملك القدسي ولا للكنيسة التي تساند استبداده” .
وفي مقطع غريب يدعي حكيم حكماء صهيون: وإنني أستطيع في ثقة أن أصرح اليوم بأننا أصحاب التشريع وأننا المتسلطون في الحكم والمقرون للعقوبات ونحن أولو الأمر الأعلون في كل الجيوش الراكبون رؤوسها ونحن نحكم بالقوة القاهرة . . نحن أقوياء جدا فعلى العالم أن يعتمد علينا وينيب إلينا والحكومات لا تبرم أي معاهدة ولو صغيرة من دون أن نتدخل فيها سراً .
راق هذا الهراء لمعظم المفكرين الإسلاميين وبقفزة نوعية تربط بين بني اسرائيل أيام موسى عليه السلام بيهود المدينة المنورة أيام النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، إلى حكماء صهيون تمت شخصنة الشر المطلق في قوة تملك كل شيء وتبتكر كل شيء وتحكم في كل شيء وعلى كل شيء والنتيجة المنتظرة الوحيدة لتفكير من هذا النوع هي إحساس بالضآلة والعجز والشلل التام والاغتراب عن العلوم الانسانية مادامت من ألفها إلى يائها من ابتكار الملاعين وتجيير كل أشكال القصور والتقصير والضعف والتدهور إلى مؤمرات اليهود القادرين المقتدرين، فضلاً عن إسقاط علم التاريخ كتاريخ أفراد وجماعات وأمم وشعوب عندما يتحول كل هؤلاء إلى دمى تحركهم يد واحدة قادرة عليهم جميعاً .
ومن أندر ما حدث معي وأنا أبحث في هذا الموضوع عثوري على بحث كتبه واحد من المؤرخين المسلمين تحت عنوان: “حقيقة المسيري والدفاع عن اليهود”، وقد غاب عن صاحبنا أن المسيري، رحمه الله، قد كتب أكبر موسوعة عن اليهود واليهودية وأنه قد تلقى تهديدات بالقتل أكثر من مرة ليتوقف عن كتابتها وأنه كان عضواً في حركة كفاية المعارضة للتطبيع مع “إسرائيل” فضلاً عن أن الرجل، ولا نزكي على الله أحداً، كان من المؤمنين الذين ألفوا واجتهدوا في تحليل ماعليه الغرب من علمنة ومادية وإلحاد، ولكن أخانا لم يرق له أن ينظر إلى التاريخ بعين التاريخ وإنما بعين المؤامرة والأحادية والتسطيح والاختزال سيراً مع الاتجاه الأغلب الذي يقوم على التقوقع والانعزال الفكري والاكتفاء بما كتبه الأولون وما طوره المتأخرون الذين لا يرون إلا بعين واحدة والله أعلم.