بشير مفتي يؤكد أن الرواية سيرة ذاتية مقنعة
“أجدني متعباً من ذكريات حاولت دائماً نسيانها، والتنكر لها، أو الهرب منها، مع أنها كانت حياة عادية مثل آلاف الناس العاديين الطبيعيين الذين ولدوا في مرحلة ما بعد الاستقلال بخمس سنوات فقط، والذين تأثروا بهذا العنف الثوري والعنف المضاد، دون أن يكون لهم وعي بما حدث وما يحدث أمامهم. أنتمي إلى فترة مصنوعة من عرق ودماء وأحلام جزائريين كثيرين انفجرت في وجوههم شرارات العنف، وحوّلوا عنفهم إلى قوة للخروج من دائرة الاستعباد، وصنعوا في دوامة كل ذلك لحظتهم التاريخية”.
هكذا يقول الروائي الجزائري بشير مفتي في روايته العاشرة “لعبة السعادة” على لسان بطلها مراد زاهر، وأعتقد أن هذا المقتبس يلقي الضوء على هواجس الشخصيات في كل روايات بشير مفتي، فهو يركّز دائما على الإنسان الفرد، فيكون هناك بطلٌ واحد ترصد الرواية حياته وتتابع التغيّرات التي تطرأ عليها، وتبحث عن أسباب اغترابه، وسوداوية رؤاه (الشخصية لا الكاتب).
شاعرية السواد
في عناوين رواياته العشرة ومجموعاته القصصية نقرأ: “غرفة الذكريات”، “المراسيم والجنائز”، “شاهد العتمة”، “بخور السراب”، “أشباح المدينة المقتولة”. المتأمل لهذه العناوين يلحظ حضورا للموت والعدم وانشغال بالماضي (الذكريات).
نسأل بشير مفتي من خلال شبكة الإنترنت فيجيب: لقد مرت شعوب كثيرة على الجغرافيا الجزائرية وتركتنا في مواجهة مستمرة معهم ومع ذواتنا، قرن ونصف القرن من استعمار الفرنسيين، وقبلهم الرومان والوندال والأتراك، لقد كان تاريخنا قاسياً وعنيفاً، حتى بعد تحقق الاستقلال في عام 1962 دخلنا في صراعات الإخوة الأعداء، والعنف السلطوي ثم الحرب الأهلية من 1993 حتى 2002 أي لم تنته مشاكلنا مع العنف والسواد.
ويضيف: أظن أنك لا تستطيع إلا أن تكون سوداويا عندما تعيش في تجربة عنف دامت عشرية بأكملها. كان الحديث اليومي فيها عن القتل والمجازر وانفجارات السيارات المفخخة، والتهديد بالقتل، خاصة أني كنت شابا يعمل في الصحافة، والصحفي كان على قائمة المطلوب قتلهم. لم أكن أهتم يومها بالأمر لأني كنت شاباً وأعيش حياتي بشكل ما، ولكن كانت الأجواء مرعبة، والمناخات سوداء داكنة، وربما هنالك تفسير نابع من نوعية القراءات التي أدمنت عليها مراهقاً في الفلسفة والأدب والشعر، كنت وجوديا وعبثيا ونيتشويا حتى لو أن اكتشاف نيتشه جاء متأخراً لأن كتابات عبدالرحمن بدوي عنه، والتي قرأتها في الثانوية لم تكن ملهمة أو مفيدة.
هو قويّ لأن له أفكارا جديدة وجذرية، وضعيف لأنه لا يملك السلطة التي يستطيع بها فرض أفكاره تلك. هو يعيش تمزقا مستمرا بين العالم المثالي والواقع الذي يعيش فيه ربما كنت كافكاويا أكثر. أعتقد أن كافكا أثر فيّ كثيرا بروحه الأدبية وليس بأسلوبه الأدبي. وتجد هذا التأثير حتى في تسمية الشخصية الرئيسية برموز مثل “س” في “المراسيم والجنائز”، أو “ب” في “أرخبيل الذباب” أو شخصية “فاء” في أشجار القيامة.
ويتحدث عن تجربته الروائية، فيقول: نشرت أول رواية لي عام 1997 بعنوان “المراسيم والجنائز” أي في الفترة التي كانت فيها الجزائر تشهد حربا أهلية مدمرة بين أنصار الجمهورية حتى لو كانت بلباس عسكري، وأنصار الدولة الإسلامية، الحرب كانت قاسية وعنيفة وذهب ضحيتها الكثير من الناس البسطاء والكتاب وأهل الفن والصحافيين، إنها فترة عنف مدمر كانت خلفية معظم رواياتي، وهي تجربة تبصم أي كاتب عاش تلك الفترة القاسية ولا يمكن بسهولة الخروج منها، والعنف ينتج تساؤلات عديدة، لماذا ينفجر في مجتمع لم يمر على استقلاله إلا ثلاثة عقود فقط؟ كيف وصلنا إلى تلك الكارثة؟ ودور الرواية في التأريخ أو الشهادة أو ملامسة بعض الجروح التي عشناها، أحسب أن هذه هي خلفية العناوين التي تبدو معتمة بعض الشيء ولكن سيجد القارئ تبريرات لها داخل النص الروائي نفسه.
نسأله “هل السوداوية هي سبب النزوع الشاعري في رواياتك”؟ فيجيىء رده: يعجبني تعريف الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو للرواية على أنها “قصيدة ميتافيزيقية” ويلخص هذا التعريف جوهر الرواية أو الأدب على أنه سؤال ميتافيزيقي خالد يطرحه الفن باستمرار، رغم أن تكويني ودراساتي الجامعية كانت في الأدب العربي إلا أني كنت قارئا نهما للكتب الفلسفية، لأن الفلسفة تعمق من وعينا بالوجود وتوسع من مفردات الحياة والمعاني كما يقول بول ريكور. أظن الأدب مدين للفلسفة بالكثير كما أن الفلسفة تستقي من الأدب الكثير من أسئلتها. هنالك علاقة روحية قوية بينهما.
عودة الكلاسيكية
وعن بداياته التجريبية وإفراط الروائيين المحدثين في التجريب يقول: شهدت فترة السبعينيات والثمانينيات تجارب روائية عربية راهنت على التجريب الشكلي وكسرت أنماط السرد التقليدي، وربما حاولت أن تساير موجات التجديد في الرواية الغربية والفرنسية على الخصوص وقدمت اجتهادات في الشكل والسرد والبناء الروائي لكنها توقفت تقريبا الآن، وهذا بسبب أن سوق الرواية العالمية اليوم وحتى العربية صارت تفرض رواية بمقاييس محددة فيها جانب كبير من مميزات الرواية الكلاسيكية التي هجرتها لفترة قصيرة ثم عادت إليها بسرعة
أنظر ماذا يحب القراء القراءة غربيا وعربيا اليوم ستجدهم أكثر تعلقا بالنماذج الكلاسيكية في الرواية، بل أكثر الروايات العالمية شهرة هي التي تقوم على الحكاية الممتعة، الحبكة المثيرة والشخصية المركزية الآسرة والتشويق وغير ذلك بول أوستر، موراكامي، وغيرهم كثير.
يتساءل “عزيز مالك” في رواية “غرفة الذكريات”، “ما جدوى الحياة إن كنتُ لا أستطيع كتابة ذلك الذي أحلم به؟ “فيبدو وكأنه ينطق بلسان المؤلف، ولا يعرف القارىء إن كانت الشخصية تعبر عن قناعاتها أم اتخذ منها المؤلف قناعا، نواجه الروائي فيجيب: لا يستطيع أي كاتب التملص من نشر بعض هواجسه في عمله الروائي من خلال جميع الشخصيات وليس فقط من خلال شخصية واحدة، فمهما تنوعت وتعددت الشخصيات هي في النهاية وليدة الشخص الروائي الذي ابتكرها أو استقاها من الواقع والحياة ويضفي عليها ما يميزها ويبعثر مشاغله وأسئلته فيها حتى تلك الشخصية المكروهة أو الشريرة، أحسب أن دوستويفسكي كان موجودا في شخصياته السلبية أكثر من تلك التي قد تنعت بالايجابية.
هنا نسأله عن سيرته الذاتية وهل تتسرب بعض وقائعها إلى نصوصه، فيعترف: نعم، بعض الشيء، هنالك من لا يحب ذكر ذلك، أو يريد أن يوهم القراء أن الروايات خيالية مئة بالمائة، وهذا غير صحيح، أعتقد أن الروايات هي سير ذاتية مقنعة، لكن بطبيعة الحال الأمر يخص لعبة جميلة تقوم على إعادة الكتابة والتخييل الذاتي.
أما عن ميله لاستخدام ضمير المتكلم في رواياته، يقول: صراحة لا تفسير لي لاستعمال ضمير المتكلم إلا أنني شخصيا أحب قراءة الروايات التي تستعمل هذا الضمير وتشعرني عند القراءة كما لو أنني أتصفح حياة إنسان من الداخل بأحلامه وكوابيسه وجراحه وهمومه، أظن أغلب القراء يحبون التماهي مع هذا النوع من السرد الروائي لأنهه يكسر المسافة بين الراوي والقارئ.
وعن الحضور الدائم للمثقف في كل أعماله يقول مفتي: نعم يحضر المثقف والفنان والكاتب والموسيقى والسينمائي، كما يحضر الشرطي والعسكري ورجل الدين والثوري وابن الحي البسيط، طبعا المثقف هو من يعطي المعنى لذلك الخراب الواقعي، فالمثقف له دور ما في القدرة على التعبير عن قضايا المجتمع والسياسة والواقع بوضوح أكبر.
وعن سلبية المثقف واستحضاره روائيا لإدانته، يقول: المثقف في الجزائر وعالمنا العربي هو أول من يدافع عن القضايا الكبيرة وهو أول من يعلن الهزيمة ويرفع الراية، فهو على الأقل من هذه الناحية يملك شجاعة الاعتراف بالفشل، عندما يكتشف المسافة الواسعة بين ما يحلم به وما يقدر على تحقيقه، وهو قويّ لأن له أفكارا جديدة وجذرية، وضعيف لأنه لا يملك السلطة التي يستطيع بها فرض أفكاره تلك. هو يعيش تمزقا مستمرا بين العالم المثالي والواقع الذي يعيش فيه.
ويؤكد مفتي: إن كان ثمة ميزة أعتز بها في رواياتي فهي محاولة استغوار النفس البشرية، والدخول في مناطقها الحميمة والمعتمة، والتساؤل باستمرار عما يختفي هنالك حيث لا يمكن أن يدخل إلا الشخص نفسه، وبالنسبة لشخصية ليليا عياش فهي كانت متمزقة بين النور والظلام، يراها الناس في النهار طالبة جامعية عادية وفي الليل تدخل عالم الظلام حيث تحتك بسكان الليل وتتزوج من عسكري نافذ، بينما تضحي برجل كانت تحبه أو تمنت أن تحبه. ستظل تصارع حتى لحظة القتل. الجريمة هي التي تحسم كل ذلك. (وكالة الصحافة العربية)
ميدل إيست أون لاين