بطرس المعري يستوحي «فلتر القهوة» تشكيلياً
تبقى باريس دون كثير غيرها من المدن، حلماً بالنسبة إلى الفنانين التشكيليين، ليقوموا بعرض لوحاتهم في صالات معارضها الكثيرة. وقلة هم الفنانون العرب الذين أسعفهم الحظ، ولاقوا نجاحاً، وكرروا فيها عروضهم. ومن بينهم الفنان بطرس المعري، الذي افتتح أخيرا معرضه الجديد في قاعة Galerie Europia الواقعة في الدائرة الباريسية السابعة بعنوان «فلتر قهوة» Filtre à café .
يضم المعرض لوحات بأحجام مختلفة، تزدحم فيها المواضيع والقضايا الصغيرة التي طالما غفلنا عنها في حياتنا اليومية، كفلتر القهوة مثلاً (المصفاة الورقية). قضايا وتفاصيل تتلاحق على الأبصار، فتؤلم الدواخل، وتُخْرج التأوهات والحسرات تارة، وتفتح أبواب الآمال بغد آخر تارة أخرى، يجمع بينها هموم الإنسان والوطن. بعضها ساخر سخرية القدر منا، ومن تصرفاتنا تجاه ما يدور حولنا، وما فعلناه بأنفسنا. والبعض الآخر ينكأ جروحاً لا نريدها أن تنفتح.
كم من الألوان يتنقل بينها بطرس المعري بحرية تامة، مرسلاً بإشارات وغمزات (clin d’oeil) إلى عدد كبير من الفنانين العالميين الذين نلحظهم في ثنايا لوحاته، وذلك عبر لمسات ومسارات ريشته على القماش. وتشد الزائر تلـــك اللوحات الكبيرة التي على القماش بتقنية الإكليريك المحملة بجراح الأوطان، وقــد تربعت عليها دمشق المدينة التي يعشق، وفلسطين القضية والمأساة، بألوان زاهية مفرحة، كالوردي والأزرق السماوي على غير ما هي عليه حالهما في هذه المرحلة، وربما تفاؤلاً بما سيكون…؟
وقد أطلق على هذه اللوحات تسمية «المعلقات»، ويقصد بذلك أنها تعلق بلا إطار كما هي، مُذكّراً الزائر بسجاد الغوبلين les gobelins الذي كان يعلق على جدران قصور ملوك فرنسا وبرجوازييها. وقد عُلقت بلا إطار (برواز)، فأراد بذلك الرمزَ أيضاً إلى حدود هذين الوطنين المستباحة، والمعلقين كذبيحة، تنهش الذئاب لحمهما…!
لكن هذه التسمية بحد ذاتها تأتي لتضفي على المعرض بعداً آخر، فتذكرنا بمعلقات شعراء العرب في الجاهلية، وخصوصاً عندما نجد أنه طرَّزها بأشعار لمحمود درويش، ونزار قباني، والماغوط، وغيرهم من الشعراء. لتأتي الكلمات وخطوطها في اللوحات، بشكل متناسق كأوردة جسد، تُغذي روحه الذكريات. وكمحطات ومعالم تأخذ بعدها الرمزي من خلال طبيعة النصوص التي اختارها، والمفردات التي حوتها: دمشق، فلسطين، بردى، سنابل، سلام، ليلة الميلاد، أطفال، زيتون…
ونلمح بين اللوحات وجود لوحة لجوارب معلقة على حبل غسيل، بألوان داكنة، وخلفية معتمة، تبعث على الحزن. إشارة إلى الإنسان الزائر لهذه الحياة، والراحل عنها فلا يبقى منه إلا الأثر، الذي كان العرب يتعرفون إليه من موطئ الأقدام. أما رسومات الشخوص في لوحاته فإنها تتشابه إلى حد بعيد، مع شخوص الموروث الشعبي، وكأنها تسخر منا، لأننا ما زلنا نراوح في مكاننا، نلوك ونكرر حكاياتها… وإن كان من كلمة أخيرة فإن هذا المعرض يدفع زائره باتجاه حالة من الوعي، والتنبه إلى التفاصيل التي لا يريد أن يراها أحياناً…
صحيفة الحياة