بعد 10 سنوات على الربيع كثُر البوعزيزيون وسهُل التطبيع
آخر تقرير أصدره ” المنتدى الاستراتيجي العربي في العام 2018 كشف ان خسائر ” الربيع العربي” بلغت 833.7 مليار دولار، وهو الرقم نفسه تقريبا الذي تبناه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حين تحدث عن 900 مليار، بينما قالت الامم المتحدة انه بلغ 600 مليار، ناهيك عن اكثر من مليون ونصف مليون قتيل ونحو 20 مليون لاجيء ونازح، يضاف اليها تكلفة اجهاض الربيع وحرب اليمن اللتين تخطتا تريليوني دولار، وزيادة نسبة شراء الأسلحة في الشرق الاوسط والمغرب العربي بنحو 300 بالمئة وفق موقع “سيبري” الأكثر مصداقية في مجال الاحصائيات والدراسات العسكرية للسلام.
لو أن هذه المبالغ وُضعت للتنمية المستدامة والعلم والتكنولوجيا والأقمار الصناعية، لما بقي عندنا 100 مليون أمي، ولا 30 مليون عاطل عن العمل، ولا غزا الارهاب والفتن دولنا، ولا تحولت وسائل الاعلام الى منابر فتنوية ضد بعضنا البعض، ولا انهارت اقتصاداتنا فصرنا متسولين على ابواب صندوق النقد الدولي ومؤتمرات ” اصدقاء” هذا البلد او ذاك بينما هي تنهب الجميع.
كثيرٌ من الذين انتفضوا وثاروا، كانوا على حق، فمعظم الوطن العربي كان من أكثر دول العالم ظُلما وفسادا وفقرا وبطشا وانعداما للحرية رغم ثرواتنا. كانت الشعارات كبيرة والممارسات وضيعة. وفي الوطن العربي أكثر نسبة للعمالة الاجنبية مقارنة بأبناء الوطن، ففي بعض دول الخليج مثلا تصل نسبة هذه العمالة الى اكثر من 80 بالمئة من عدد السكان.
ثار كثير من الناس لكراماتهم، لكنهم سُرعان ما اختُرقوا من اعداء امتهم، او من الحالمين بتكبير ادوارهم على حساب عذابات الشعوب العربية، فازداد الفقر والبطالة، وشُرّعت ابواب الوطن العربي للتطبيع المجّاني، وتفاقمت المشاعر الشوفينية لفصل الدول العربية عن بعضها البعض أكثر مما كانت منفصلة، واشتغلت آلة اعلامية لابعاد العرب عن قضيتهم الاولى فلسطين، وبلغت وقاحة الرئيس دونالد ترامب، امام الهزال العربي، الى حد اعلان القدس عاصمة لاسرائيل والجولان ارضا اسرائيلية.
لا شك ان ثمة امثلة نجحت، وفي مقدمها تونس، حيث ازيحت قبضة الدكتاتورية، وتنوعت الاحزاب، وتعددت الحريات، وتغير الدستور، ولا شك ان كثيرا من شعوب الوطن العربي صارت تتنفس الحرية، وانه لولا مناخ الربيع لما نجحت ثورة سلمية رائعة في الجزائر. لكن ثمة دولا دُمّرت، واخرى جاعت، وثالثة ضاعت، واذا بالعرب ينتظرون على قارعات الطرق تقاسم العالم النفوذ على اراضيهم ونهب ما بقي من ثروات.
كثُر البوعزيزيون بعد عشر سنوات على احراق الشاب التونسي الفقير محمد البوعزيزي نفسه انتقاما من الفقر والذل، وتراجعت الآمال، ومات الكثير من سنونوات الربيع، بسبب عجز قوى التغيير عن انتاج مشاريع تنموية جاذبة وتنازعها بين بعضها، ولأن مساعدات الخارج بعد التدخلات الكبيرة في الثورات وغيرها، جاءت مشروطة بالصلح المجاني مع اسرائيل، ولأن ثمة من يريد استغلال غضب الشعوب لتمرير مشاريع كثيرة في فترة الزلازل التي ضربت الوطن العربي.
ما قبل البوعزيزي ليس كما بعده. فمن يظن أنه ما يزال قادرا على العودة الى سابق الانغلاق والقمع والبطش وافقار الشعوب مخطيء، ومن يعتقد أيضا بأن الاعتماد على الخارج لقلب نظام في بلاده مخطيء أيضا، ومن يرى ان الخلاص هو عند اسرائيل او الانجيليين الجدد الذي دعموا كل خطوات جورج بوش الابن ودونالد ترامب، انما يمارسون الانتحار. انظروا الى بعض المعارضات التي اعتمدت على هذه الخيارات الاجنبية اين هي اليوم، قابعة في منافيها تنتقد تجربتها وتلعن من اعتمدت عليه.
قال ابن خلدون ان الثوار الفاشلين حمقى أو مشعوذون،لأنهم قاموا بثورتهم دون عصبية كافية تساندهم فانتجوا الفوضى،يجب معالجتهم بالدواء او الضرب، لكن اشهر علماء الاجتماع العراقيين الدكتور الراحل علي الوردي اجابه : ان الثوار الذين فشلوا أناروا لنا السبيل.وان الثورات الفاشلة تُفضي دائما الى الثورة الناجحة.
الثورة الحقيقية هي تلك التي تُطعم الناس وتعلمهم وتعزز الحرية بينهم وترفع مستوى الفكر والابداع عندهم، وتقفز فوق التطرف الديني والطائفي، وتنشر العدل والمساواة، وتحاور الآخر في الداخل والخارج من منطلق الند لا التبعية. فلو لجأ نلسون مانديلا بعد ربع قرن من السجن الى السلاح والاعتماد على الخارج والى الطائفية قناعا للثورة لكانت جنوب افريقيا ما زالت حتى اليوم غارقة في الحروب والتمييز العنصري.
الثورة الحقيقية هي الاقتناع بان في وطننا العربي من الخيرات، ما يجعلنا نكتفي لو تكاملنا فقط اقتصاديا وعلميا وفكريا، وأن فيه من الطاقات البشرية ما يستطيع ان يجعله قوة لا تقل أبدا اهمية عن الاتحاد الاوروبي، وانه مجتمع شاب ليس كهلا كما المجتمعات الغربية.
لا يُمكن ان نثور ونحن نمارس عقدة النقص حيال الآخر، ونهرول خلف الآخر ليعطينا الخبز والحرية. هذه كانت خطيئة بعض الانظمة العربية التي كررتها بعض المعارضات العربية . لا يُمكن ان تثور في بلدك وتكون عبدا عند الآخرين. ومن يحرمك من الخبز اليوم لأنك لم تلب مشاريعه، سيعود اليك غدا حين تبني مشروعك وتنهض بمجتمعك وامتك.
ما لم نفكر بكل هذا وتقتنع السلطات والمعارضات بان الوطن العربي بحاجة الى نهضة ومشاريع تنموية والى خبرات الجميع والى حرية حقيقية والى سيادة القرار، فان المستقبل سيكون لكثير من البوعزيزيين الفقراء الناقمين، وقليل من الدول ذات الكرامة والسيادة. قال الكاتب الفرنسي الشهير البير كامو: ان كل قيمة لا تنتج بالضرورة انتفاضة او ثورة لكن على كل ثورة ان تنتج مجموعة من القيم.
خمس نجوم