بعد مصر.. هل يخسر إردوغان تونس ثم ليبيا؟
إردوغان لن يتقبّل بسهولة خسارة ثانية بعد فشل مخططه في مصر وهو ما قد يدفعه إلى المناورة والتكتيك في تونس.
مع الفارق بين “إخوان” مصر و”نهضة” تونس، لم تتأخر أنقرة في الردّ على مواقف الرئيس التونسي قيس سعيّد، واعتبرتها “انقلاباً على الديمقراطية وإرادة الشعب التونسي”، ناسية أن هذا الشعب انتخب سعيد بنسبة 73٪ في مقابل 12٪ لمرشح “النهضة” في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2019.
ومع التراجع الملحوظ في لهجة الهجوم، ومحاولات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان التهدئة مع الرئيس سعيد عبر وساطة الأمير القطري تميم آل ثاني، الذي اتّصل بالرئيس التونسي (بعدها بيوم سافر وزير الخارجية السعودي إلى تونس)، فالجميع يعرف أن إردوغان لا، ولن يتقبّل بسهولة خسارة ثانية بعد خسارة مصر.
وهو ما قد يدفعه إلى المناورة والتكتيك (مع تصريحات الغنوشي الذي اعترف بارتكاب حزبه الأخطاء، واستعداده للحوار مع الرئيس سعيد) بعد فشل مخططه في مصر، عقائدياً وسياسياً وتاريخياً، عندما أطاح السيسي “الإخوَنجيَّ” محمد مرسي في 3 تموز/يوليو 2013، ثم أطاح العسكر حليفَه عمر البشير في نيسان/أبريل 2019.
ويفسّر ذلك الإشارات والرسائل التي بعثها الرئيس إردوغان بعد ثماني سنوات من الانقلاب، من أجل المصالحة مع السيسي، الذي اشترط من أجل ذلك وقف كل أنواع الدعم لـ”الإخوان”، والكفّ عن التدخل في شؤون الدول العربية، والمقصود بذلك أولاً ليبيا، البلد الجار لكل من مصر وتونس.
فالجميع يتذكر ردود فعل المعارضة التونسية على الزيارة السرية التي قام بها راشد الغنوشي لإسطنبول في 10 كانون الثاني/يناير 2020، ولقائه الرئيس إردوغان (قبل يوم من زيارة فايز السراج لإسطنبول) ومن دون أن يبلغ إلى البرلمان التونسي ورئيس الجمهورية قيس سعيد بزيارتَه مسبّقاً. وكانت الزيارة بداية الخلاف بين سعيد والغنوشي الذي اتَّخذ مواقف مؤيدة لسياسات إردوغان في ليبيا في مقابل موقف مغاير من الرئيس سعيد المعروف بمواقفه القومية.
واتهمت أحزاب المعارضة التونسية وقواها آنذاك الغنوشي وقيادات “النهضة” بالحصول على دعم مالي من أنقرة، كما اتهمتها بتسريب معلومات تخصّ الأمن الوطني إلى دول أجنبية، والمقصود بها تركيا وقطر، البلدين اللذين يحتضنان كل حركات الإسلام السياسي ويدعمانها ويموّلانها، مدنياً وعسكرياً، وخصوصاً بعد ما سُمّي “الربيع العربي”، وهو ما يجعل تطورات تونس أكثرَ أهمية بالنسبة إلى الرئيس إردوغان وحليفه القطري الأمير تميم، وينسّقان معاً ضد السعودية والإمارات ومعهما مصر.
ويبدو واضحاً أن مصر سعيدة جداً بما قام به الرئيس سعيد، هذا بالطبع إن لم تكن مسبقاً في صورة التحضيرات للتخلص من “النهضة” و آثار حكمها لتونس طوال السنوات العشر الماضية، ولو عبر التحالفات الضعيفة مع أحزاب أخرى استغلتها “النهضة” لتحقيق أهدافها السرية والعلنية، بما في ذلك سفر الآلاف من الشبان التونسيين إلى تركيا ومنها إلى سوريا للقتال في صفوف الفصائل الإرهابية، ومنها “داعش” و”النصرة” وأمثالهما. وهو حال الآلاف من مواطني الدول العربية الأخرى، وفي مقدمتها السعودية، عندما كانت في خندق واحد مع سائر الدول العربية وتركيا للقتال ضد الدولة السورية، التي ما زالت هدفاً لكل التحركات الإقليمية، بما فيها تطورات تونس ونتائجها المحتملة.
لقد استعجلت أنظمة الخليج تقديم مليارات الدولارات من المساعدات إلى الرئيس عبدالفتاح السيسي بعد إطاحته “الإخوان” لمنعه من التقارب مع دمشق، وخصوصاً أن الرياض والمنامة وأبو ظبي أعلنت “الإخوان” تنظيماً إرهابياً، ومن دون أن يمنعها هذا الإعلان من الاستمرار في التنسيق والتعاون مع الدوحة وأنقرة لدعم الفصائل الإخوانية المسلحة في سوريا حتى حزيران/يونيو 2017 عندما قطعت هذه العواصم، ومعها القاهرة، علاقاتها الدبلوماسية بالدوحة. وجاء الرد سريعاً من الرئيس إردوغان، الذي أرسل جيشه إلى قطر لحمايتها من شقيقاتها الخليجية، وحكاياتها ليست أقل إثارة من حكايات “ألف ليلة وليلة”. فعلى الرغم من المصالحة القطرية مع القاهرة، ومساعي الأمير تميم للوساطة بين السيسي وإردوغان، فإن الخلاف بين الدوحة وأبو ظبي ما زال مستمراً، وإلى أن تحسم الرياض موقفها النهائي حيال هذا الخلاف، أي المنافسة الشخصية، وكانت قبلها بين “الشابين” محمد بن سلمان وتميم آل ثاني، وهم جميعاً يدورون في الفلك الأميركي.
ومع أن الوقت ما زال مبكّراً للحديث عن النتائج المحتمَلة لما قام وسيقوم به الرئيس قيس سعيد، المدعوم من الجيش والقوى الأمنية، فالجميع يعرف أن الحد من دور “النهضة” وإبعادَها عن السلطة سينعكسان بصورة أو بأخرى على التطورات المحتملة في ليبيا، عبر استمرار مساعي المصالحة فيها، أو من دون ذلك. فالفصائل المسلحة، المعتدلة منها والمتطرفة، هي جميعاً تحت المظلة التركية، وتراقب الوضع عن كثب في تونس، لأن تكرار تجربة مصر هناك سيضع هذه الفصائل بين فكَّي التحالف المصري – التونسي، وسيكون مدعوماً من دول أوروبية، أهمها فرنسا واليونان، ولاحقاً من دول أخرى لا تُخفي انزعاجها من مقولات الرئيس إردوغان وتصرفاته ذات الطابعَين الديني والقومي التاريخي، أي العثماني.
وفي السياق، يعرف الجميع أن ما سيحقّقه الرئيس قيس سعيد وفريقه السياسي والعسكري من نجاحات عملية في طريق المعالجة السريعة لأزمات تونس الصحية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، هو الذي سيحدّد مسار المرحلة المقبلة، وانعكاساتها على مجمل الحسابات الإقليمية والدولية.
فكما كان الوضع عليه بعد انقلاب السيسي عام 2013، أجرت أغلبية العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، اتصالات هاتفية بالرئيس سعيد، وأكدت له، في عبارات متشابهة تماماً، “ضرورة احترام الدستور والمؤسسات الدستورية، وسيادة القانون، والتحلي بالهدوء، وتجنّب أيّ لجوء إلى العنف، حفاظاً على استقرار البلاد”، من دون أن يخطر في بال هذه العواصم أن توجّه أيّ انتقاد إلى أنظمة الخليج، التي تفتقر دولها حتى إلى الدساتير، وليس للديمقراطية فيها أي مكان من الإعراب، سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً. كما لم تتخذ العواصم المذكورة أي مواقف عملية ضد الرئيس إردوغان، الذي استغل الانقلاب الفاشل في 15 تموز/يوليو 2016 فتخلص من جميع أعدائه ومعارضيه، وأقام “نظاماً استبدادياً”، والقول للرئيس بايدن، قبل أن يصبح رئيساً نهاية عام 2019. كما لم تحرّك العواصم المذكورة ساكناً عندما قام إردوغان، في نيسان/أبريل 2017، بتغيير الدستور، وسيطر على جميع أجهزة الدولة ومرافقها ومؤسساتها، قائلا إنه “استمدّ صلاحياته من الدستور”، وهو ما قاله الرئيس قيس سعيد، مع فوارق كبيرة في المضمون والأداء والأهداف والنتائج.
يبقى الحكم في النهاية للشعب التونسي، في كل فئاته، لأنه هو الذي سيقرر مصير بلاده. ويبدو أنها كانت وما زالت ساحة للصراعات الخفية والمكشوفة، كما هي الحال في ليبيا، وبنِسَب أقل في الجزائر والسودان، وهي قريبة من الساحات التي تنشط فيها “داعش” و”القاعدة” و”بوكو حرام”، ومجموعات مماثلة في مالي وتشاد والنيجر ونيجيريا والصومال وبوركينا فاسو، التي تضع من أجلها الدول الإمبريالية والاستعمارية عدداً من الخطط.
أقامت أنقرة بدورها علاقات واسعة ومتنوعة بهذه الدول بعد أن افتتحت سفاراتها في 45 دولة أفريقية، وزار الرئيس إردوغان عدداً كبيراً منها، في محاولة منه لمنافسة الأدوار الفرنسية والإيطالية والأوروبية الاستعمارية التقليدية، وهو يقول “إن بلاده لم تستعمر أياً من هذه الدول”.
يأتي كل ذلك مع اتهامات المعارضة التركية للرئيس إردوغان بـ”انتهاج سياسات توسُّعية، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واستخبارياً”، ليس فقط في الجغرافيا العربية والأفريقية، بل حتى في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، “وحيث وطئت أقدام العثمانيين”، والقول للرئيس إردوغان نفسه. وأثبت السنوات العشر الماضية أنه جادّ في هذا الموضوع، وإلاّ لَما كان الوضع في تونس، وقبلها مصر، ضمن اهتماماته، ولأن الهزيمة هناك ستعني التراجع في مواقع أخرى، وفي مقدمتها ليبيا، ثم سوريا، التي كانت منها البداية، وبخسارتها يخسر إردوغان تركيا.