مكاشفات

بعدَ إسقاطِ النِّظام… ما الذي يُريدُهُ الشَّعب؟

د. مُحمَّد الحوراني

واهمٌ مَنْ يعتقدُ بأنَّ الشّعبَ السُّوريَّ، بكلِّ أطيافِهِ ومُكوّناتِهِ، كانَ سعيداً بما فعلَهُ النِّظامُ السَّابقُ في سورية، ذلكَ أنّ الشَّعبَ السُّوريَّ وصلَ إلى حالةٍ غيرِ مسبوقةٍ من الفقرِ والتهجيرِ الداخليِّ والخارجيِّ، إضافةً إلى تحويلِ الجزءِ الأكبرِ من البلدِ إلى أنقاضٍ ورُكامٍ خلالَ أكثرَ من عقدٍ، كما أنّ الأرضَ السُّوريّةَ أصبحتْ حلالاً على الآخرينَ، وحراماً على قسمٍ من أبناءِ هذا الشَّعب، وإذا كانَ بعضُهُمْ ينظرُ إلى مَنْ بقيَ من أبناءِ الشَّعبِ السُّوريِّ على أنَّهُمْ من أتباعِ النِّظامِ السَّابقِ فهُوَ مُخطِئٌ تماماً وظالمٌ لهذه الشَّريحةِ التي اضطُرّتْ إلى البقاءِ داخلَ بلدِها لأسبابٍ كثيرةٍ لا مجالَ للبحثِ فيها الآن.

اليومَ، بعدَ سُقوطِ النِّظامِ السابقِ، ثَمَّةَ أسئلةٌ كثيرةٌ تُلقي بظِلالِها على العُقولِ والقُلوبِ السُّوريّةِ التي أنْهَكَتْها الحربُ، وشَرَّدَتْها، وجعلَتْ أبناءَ هذا الشَّعبِ بينَ يتيمٍ وأرملةٍ ومفقودٍ وقابضٍ على ما بقيَ من أنقاضِ بيتِهِ المُهدَّمِ وقريتِهِ المهجورةِ، مُتَسائِلاً: إلى متى سيستمرُّ الفقرُ والجوعُ مُمْسِكَينِ بخناقِ هذا الشَّعبِ الأبيِّ العزيزِ القابضِ على جَمْرِ عِزَّتِهِ وكَرامَتِه؟ وهل صحيحٌ أنَّ شَكْلَ الدَّولَةِ منْ أساسيّاتِ التفكيرِ ومن أوْلَوِيّاتِ هذا الشَّعبِ، أو أنّ التفكيرَ في لُقمةِ العيشِ وتأمينِ المُسْتَلْزَماتِ الأساسيّةِ للعيشِ الكريمِ هيَ الأوْلَوِيّةُ لدى المُواطنِ السُّوريّ؟

إنّ سنواتٍ طويلةً منَ القهرِ والمُعاناةِ والظُّلْمِ جَعلَتْ هذا المُواطِنَ لا يَحلُمُ إلّا بدولةٍ مدنيّةٍ قائمةٍ على سِيادةِ القانونِ والمُواطَنةِ، دولةٍ تحترمُ حُقوقَ الجميعِ دينيّاً وثقافيّاً وعرقيّاً، لأنَّ احترامَ حُقوقِ أبناءِ البلدِ هُوَ الوحيدُ الكفيلُ بجَعْلِ المُواطنِ السُّوريِّ يُدافِعُ عن بَلَدِهِ، ويَجْعَلُهُ مُتفانياً في تقديمِ كُلِّ ما يُمْكِنُهُ لجَعْلِ هذا البلدِ في طليعةِ الدُّوَلِ المُتَقدِّمةِ والمُتَحضِّرةِ، ولا سيّما أنّ سورية تمتلكُ موقعاً إستراتيجيّاً مُتميّزاً وثرواتٍ كبيرةً تَجعَلُ منها واحةً من واحاتِ الرَّخاءِ والاستقرارِ ومَقْصِداً يَقْصِدُهُ العالَمُ للاطِّلاعِ على الثقافةِ والتاريخِ والتُّراثِ السُّوريِّ الذي قدّمَ إلى الإنسانيّةِ ما لم يُقدِّمُهُ شعبٌ منَ الشُّعوبِ الأُخرى، سَواءٌ في سنواتِ الحربِ، أو في ما سَبَقَها من سنوات، ويشهدُ على هذا، الحُضورُ القويُّ للكفاءاتِ العلميّةِ والثقافيّةِ والاقتصاديّةِ والسِّياسيّةِ في المُؤسَّساتِ العالَميّةِ بأنواعِها كافّةً، بلْ إنّ المُواطنَ السُّوريَّ حقّقَ إنجازاتٍ ونجاحاتٍ في السَّنواتِ العِجافِ جَعَلَتْهُ مَضْرِبَ المثلِ ومفخرةً يفخرُ بها كلُّ مُنْصِفٍ خَبِرَ هذا الشَّعْبَ الأبيَّ، واستفادَ مِنْ ثقافَتِهِ وعُلومِهِ أينما وُجِد.

أمامَ هذا الواقعِ، ثَمّةَ أسئلةٌ كثيرةٌ تُطِلُّ برأسِها أمامَ قادَةِ سُورية الجُدُدِ وزائرِيها مِنَ الدِّيبلوماسِيّينَ، وهي أسئلةٌ ينتظرُ المُواطنُ السوريُّ الإجابةَ العمليَّةَ عنها، بعيداً عنِ الوُعودِ التي أرْهَقَتْ كاهِلَهُ، وجَعَلَتْهُ يَئِنُّ مِنْ قُيودِ النِّظامِ السَّابقِ واستِبْدادِه، إلى أنْ جاءَتِ اللَّحظةُ الحاسِمَةُ بالتَّخلُّصِ منهُ وكَشْفِ شُرُورِهِ التي طالَما أرْهَبَتِ المُواطِنَ، وأرْعَبَتْه.

إنّ المُعاناةَ التي عاشَها الشَّعبُ السُّوريُّ عُقوداً طِوالاً، ودَفعَتْهُ إلى المُطالَبةِ بإسقاطِ النِّظامِ والتَّخلُّصِ منهُ، هيَ السَّببُ الرئيسُ في وَعْيِ هذا الشَّعبِ وحِكْمَتِهِ، وهي حكمةٌ ينبغي الاستفادةُ منها والاشتغالُ عليها في بناءِ سورية الجديدةِ، بعيداً عن الإقْصاءِ والإلغاءِ والتَّهْميشِ، فسوريةُ اليومَ في أمَسِّ الحاجةِ إلى أبنائِها جميعاً، وبناءُ البلدِ وتَخْلِيصُهُ من الرُّكامِ والاستعبادِ والإذْلالِ لا يُمكِنُ أنْ يَتحقَّقَ إلّا بدَوْلَةٍ مَدَنيّةٍ ديمقراطيّةٍ تَكفُلُ حُقوقَ الجميعِ دُونَ تمييزٍ في العِرْقِ أو الجِنْسِ أو الدِّين.

لقد سَئِمَ الشَّعبُ السُّوريُّ الاحتلالاتِ أيّاً كانتْ، وأصبحَ طُموحُهُ أنْ يرى بلادَهُ حُرّةً كريمةً بقَرارِها وخيراتِها، بعيداً عن الشِّعاراتِ التي حَرَمَتِ المُواطِنَ السُّوريَّ من أبْسَطِ حُقوقِهِ، وجَعَلَتْهُ مُتَسوِّلاً على حُدودِ دُوَلٍ وأرْصِفَتِها، وهيَ لا تَملِكُ، في غالبِيّتِها، أيّاً من ثقافةِ الشَّعبِ السُّوريِّ وتاريخِهِ وعَظَمَتِه، وهذا لا يتحقّقُ إلّا ببناءِ جيشٍ قويٍّ ومُتَماسِكٍ قائمٍ على الإخلاصِ للوطنِ والتَّفاني في الدِّفاعِ عنهُ، بعيداً عن الإخلاصِ والولاءِ للأشخاصِ، معَ تأكيدِ حُضورِ جميعِ مُكوِّناتِ الشَّعبِ في المُؤسَّسةِ العسكريَّةِ، والعملِ على تعزيزِ الارتباطِ الوثيقِ بينَ المُؤسَّسةِ العسكريّةِ وبنيةِ النِّظامِ السِّياسيِّ الذي يُؤَسَّسُ، وتأكيدِ الحُضورِ الفاعلِ للثقافةِ والاقتصادِ في مسيرةِ بناءِ المنظومةِ السِّياسيّةِ والعسكريّة التي ينبغي أن تكونَ منظومةً تَنْمَوِيَّةً تُسهِمُ إيجاباً في بناءِ الدَّولةِ وإعْمارِها.

إنَّ ما يَعِيشُهُ العالمُ اليومَ في المَخاضاتِ وأشْباحِ الحُروبِ والكوارثِ التي نُشاهِدُها هُنا وهُناكَ، يَفْرِضُ على أبناءِ الشَّعبِ السُّوريِّ أنْ يكونوا أمامَ مسؤوليّاتِهمْ جميعاً، وأن يَقُومُوا بدَوْرِهمْ بشَجاعةٍ بمُساهَمَتِهِم الفاعلةِ في كِتابةِ تاريخِ بلدِهمْ، بعيداً عمّا سَيْطَرَ عليهم مُدَّةً طويلةً من خوفٍ ورَهْبَةٍ، كما أنَّ من الواجبِ علينا التَّخلُّصَ من قُيودِ الماضي وقَبْضَتِهِ الفُولاذيّةِ، وأن نطرحَ الأسئلةَ الجديدةَ التي يُمْكِنُها أنْ تأخُذَ بنا إلى مُستقبَلٍ يَلِيقُ بتَضْحِياتِنا جميعاً.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى