بوي جون: الفن في مواجهة النسيان
في روايته الأولى «جنة الخفافيش» (دار الساقي)، يلتقط الكاتب بوي جون لحظة عبور سياسي لإحدى مدن جنوب السودان. يوثق الكاتب في يومياتهِ يوميات مدينتهِ إبان انفصال الجنوب، وتتداخل قصة بطل روايتهِ مع حكايةِ بلده.
تأخذ اليوميات التي تبدأ بوصول أركانجلو إلى مطار مدينة واو شكل التجوال عبر الأحياء والمنازل والذاكرة في شوارع مأهولة بالرصاص والكلاب الشاردة والموت المتعدد الأسباب.
إنّ التجوال السريع عبر اليوميات التي اشتملت أشهراً عدة، جعل الشخصيات تفتقد إلى العمق، باستثناء شخصية أركانجلو التي اهتم الكاتب بتوضيح مبررات تطورها ومآلات الأحداث التي اعترضتها. بالتالي، فقد شكلت أساس النص. إلى جانب إسناد مهمة السرد إلى شخصية أركانجلو، تبدو جنة الخفافيش نوعاً من الإخطار الذاتي بما حدث لأركانجلو وأبيه جراء واقع سياسي يكتفي الراوي بتصويره على هوامش الأحداث وفي خلفيتها البعيدة.
يصل أركانجلو مرجان إلى المدينة خلسة مثلما خرج منها وهو طفل من دون استقبالٍ ولا معرفة أحد بأمر عودتهِ. يشبّه نفسه بـ «ابن ضالّ» أراد العودة ناشداً الطمأنينة والخلاص من حلم لا يفارقه حول أبيه مرجان، إلى أن عاد من أجل البحث عنه.
وقد عُرف كعازف قضى في إطلاق نار في أحد الاحتفالات بعد إسقاط الجنرال عبود. ينزل أركانجلو في الفندق للحفاظ على خصوصيته وليبقى حراً في تحرياتهِ، لا سيما بحصوله على إجازة من عملهِ بعد سنوات من التأجيل. أول ما تقع عينه عليه في المدينة هو جملة كانت تقال في وصف مهارة والده في العزف وهي أنّ «الموسيقى ساحرة وتغوي حتى الحجر».
يلتقي بالصدفة أحد أصدقاء طفولتهِ، ويواجه بصفتهِ، غريباً في مدينة تسودها ثقافة الخرافات والخوف من الغرباء، إلى جانب زرع الخوف في قلوبهم من الصواعق والأشباح والأمراض التي تعوزهم المناعة ضدّها. يجد أركانجلو ضالته لدى كشك لبيع الصحف، يتعرف إلى صاحبه ويشتري أعداداً قديمة من الجرائد.
يحلل المقالات التي ترتبط بالحفل الذي راح والده ضحيته. تبدأ ملامح مهمتهِ بالانكشاف للقارئ، إضافة إلى سعيه للحصول على كتاب عن المدينة كتبه الكاهن في الكاتدرائية. يعيد الكتاب مع ملاحظة أدبية ثرية، مفادها؛ أن لا وجود لمدينة من دون متشردين. تدفع أحداث الشغب إلى تأجيل مهرجان محلي؛ ويتخذ الراوي من المهرجان فرصة عبر يوميات مختلفة لحديث فولكلوري عن المدينة وطقوس أهلها في الرقص والعزف على الآلات المباركة.
بإصابته بالملاريا، يصبح تعاطي أركانجلو مع المهمة التي أسندها لنفسهِ، تعاطياً مختلفاً، ويصبح الأقارب الذين كان قد قرر الابتعاد عنهم فرصة للكشف عن مصير والدهِ المجهول. يصحو في المستشفى محاطاً بأقاربهِ، وهو يكابر شعور الغربة بين أهلهِ، وسؤالهم الملح عن سبب عزوبتهِ. يركن بعد خروجه من المستشفى إلى منزل عمتهِ، في جوار جنة الخفافيش، حيث تسهم أشجار المانجو في خفض درجة الحرارة في المدينة وتشكل ثمارها غذاءً للخفافيش.
الجنة، التي يضعها الكاتب معادلاً للفساد حكومي، حيث تتناقص مساحتها بامتداد العمران. لكن في المقابل، تنتهي دعوى قضائية لصالح الحفاظ على الجنة. في منزل العمة، تنبئه قارئة الطالع، بأنّ كشف طالعه يحتاج إلى شجاعة منهُ. تعطيه عمته أوراقاً قديمة يجد فيها محاضر اجتماعات لمجموعة سرية، يتكرر فيها اسم والدهِ ضمن أسماء تبدو أسماءً لفرقة موسيقية.
يكتشف أركانجلو أنّ المحاضر تعود لاجتماعات تأخذ طابعاً سياسياً. وقد توفى جلّ أعضائها، بفارق السنوات، باستثناء باسيلي الذي يظهر مرة ليخبر فيها أركانجلو عن نسيان من لم يحظ بقبر في مدن تبدأ فيها القبور من العتبات. يظهر مسعى أركانجلو كما لو أنّه لم يكن يريد لوالده أن ينسى. راح يعاند دوامة من الضياع لا تقوده إلى والده ولا تبعده عنهُ، إنّما تبقيه في حالة رجاء ليصل إلى معلومة أكيدة عن والده وعن التنظيم الذي كان منتسباً إليهِ. ينتهي رجاؤه إلى صندوق مغلق، وهو ما بقي من الرجل.
تستعرض الرواية حال الجنوب بعد الانفصال ويدعى هناك «الاستقلال»، حيث يصحو الناس على كذب الساسة. شكّل الانفصال بداية نهاية أسطورة «أرض الأحلام». الأرض التي كان من المزمع أن تدّر «لبناً وعسلاً»، لم تدّر سوى الموت والشقاق وحروب العصابات والفقر وتبعات الجهل وغوايات القتل المجاني. في معرض أقامته الحكومة لغنائم الحرب، يذكرنا الراوي بالعبارات المكتوبة في حدائق الحيوان «لا تطعم هذا الحيوان» حيث أهملوا وضع عبارة «ممنوع اللمس» أمام المعروضات، ما أدى إلى انفجار إحدى القطع في وجه الزّوار.
وفي مدينة تزحف إليها الحرب ساعة بعد ساعة، الجميع فيها مخبرون أو مجندون أو ضحايا، والجميع متساوٍ إزاء الخوف واليأس والرغبة، يبرز الفن مقاوماً للنسيان. قاعدة على أساسها راح النحّات يبني الصرح الحجري لا من أجل «شهداء العرس»، ولا من أجل زيارة الرئيس التي لن تحدث. وإنّما كي يترك أثراً له في مدينته. كي لا يُنسى هو، لا الضحايا الذين لن تنتهي الحروب عن تفريخهم، ولن يتوقف الأدب عن استقصاء مصائرهم!
صحيفة الأخبار اللبنانية