خاص…أدهشتني فكرة (الطنبر والبغل) في القصة السينمائية (رحلة يوسف)، التي جاءت من خلال الفيلم السينمائي الذي عرض في نادي (بيت السينما) مساء الجمعة الماضي.
bفهما مفتاح سخرية مرير يكسر مأساوية (موسم الهجرة السورية) إلى الأمل ، فما أن نفتح ملف الهجرة (العتيد) ، حتى تأخذنا السفن إلى الموج والغرق والمأساة في اجترار مموج للواقع عاجز عن محاكاته، لكن (يوسف) قدم نموذجا آخرَ! .
في واقع الحال، لا يبحث المهاجر (في الحالة السورية) عادة عن وسيلة نقل محددة، فهو لا يحتاج إلى تكت طائرة أو سفينة حب تشبه تايتانيك أو قطار مريح يشبه قطار الشرق ولا حتى سيارة شحن تشبه صهريج غسان كنفاني، لذلك ربما يهاجر مشيا على قدميه !
تعرفنا على الكثير من حكايات موسم الهجرة في وسائل كثيرة من بينها سفن غير قادرة على مقارعة الموج، فتغرق مع أهلها في عرض البحر، لكن الطنبر والبغل أخذاني إلى جانب آخر من الموضوع، كان علي أن أبحث عنه في تيمة الفيلم الذي اشتغل عليها الثلاثي بحيوية واضحة (أيمن زيدان وجود سعيد ووسام كنعان) ، فهي تيمة أرادت أن تنهي الحرب المشتعلة على مدار عقد من الزمن بحل مفتاحي موجود في أعماقنا يتعلق بحماية (الحب)..
هذه فكرة سحرية للدخول في عالم الحرب السورية ، والحب هنا هو نقيض الحرب، نقيض الكراهية، نقيض الوحشية، نقيض السطوة، نقيض العنف، نقيض الظلم ، نقيض الفساد، هو الوطن كما يريده الكائن البشري المتحضر!
لم يعد أمام السوريين من وسيلة للهجرة إلى الوطن إلا استخدمت، ودائما كان القائمون على الرحلة أو الهجرة أنانيين ومصلحيين ويتركون زبائنهم للموت، لذلك لفتت فكرة الطنبر والبغل نظري لأنها ارتبطت برحالة هو الجد يوسف يقود هذه الهجرة إلى الحب ويدافع عن مهاجريه حتى الرمق الأخير ، ولا يتركهم للموت !
بدأ الفيلم بمشهد يذكرنا بأفلام سينمائية عالمية لرجل يقود عربة وسط بياض واسع من الثلج ، وعندما تقترب الكاميرا منه نتعرف على تفاصيل هذه العربة، فهي عبارة عن طنبر وبغل يقودهما (الجد) أيمن زيدان وسط ثلوج الجرود الوعرة..
وفي السياق نتعرف على أهمية الجد، وهو يتقدم بجرأة لحماية حفيده العاشق وحبيبته المهددة من رجال الميليشيا بالاختطاف ، ومع تسارع الضغوط، يقوم الجد بقيادة عملية الهجرة إلى مخيم اللجوء في لبنان ، وهذه الهجرة لم تحجب المخاطر عن العاشقين، لذلك يلاحقهما قائد المليشيا ويقتلهما ..
عندما نقفز إلى النهاية، نجد أن الفيلم يُختتم بعبارة بصرية رسمها (المشهد الأخير)، فالطنبر والبغل في عمق الشاشة من الجهة اليسرى، وفي متن الكادر يقوم (يوسف الجد) بإنجاز عملية الدفن لحكاية الحب التي أراد حمايتها، لكن الصورة لم تتركنا يائسين لأن زوجة الجد كانت تحمل جنينا في بطنها وتنتظر انتهاء الدفن لهجرة أخرى.
وفي قلب الفيلم نلاحظ أن الطنبر والبغل ظلا برعاية الجد داخل مخيم اللجوء، وكأنه يوحي لنا أن رحلة اللجوء لم تنته، وكان الطنبر مأواه في لحظات الانفراد مع الذات، لكن النهاية جعلتني أتمنى أن ينهض أيمن زيدان بشخصيته (يوسف) التي يتقمصها في الفيلم، فيحرق الطنبر، ويطلق البغل إلى الفلاة ، ويبدأ مثل (نوح) بإطلاق المدينة الأولى بعد الطوفان!
إذا ، بين البداية والوسط والنهاية خيط لابد من الانتباه إليه هو خيط الهجرة، وهجرة يوسف هجرة لحماية الحب وأمل بصونه، وليست هجرة فرار.
ذهبتُ إلى متن الفيلم قبل أن أحكي عن تقنيات الصناعة السحرية التي قدمت من خلاله لأنني لا أريد أن أقلد الناقد السينمائي، فأعيد بناء السيناريو كما أريده وأبحش في الصورة والتمثيل كما أريد أن أظهر، فثمة سيناريو وإخراج وتصوير ومونتاج ومكساج وفاتورة طويلة من المهنيين والمبدعيين ينبغي الحديث عن إنجازهم، في الفيلم وفي هذه الفاتورة التي يسمونها شارة الفيلم ، لفتني تلازم (أيمن زيدان مع جود سعيد)، وهذا ما لاحظته كثيرا وسمعت انتقادات حوله، فقد حملا المشروع من بدايته إلى نهايته، من(الفكرة) إلى (السيناريو) إلى (الإخراج)، وبطبيعة الحال لايمكن إغفال وسام كنعان الذي اشترك بالسيناريو، فأيمن زيدان لمن تابع تطور حياته ومواهبه رجل خلاق، مبدع، يولد الفكرة من خلال نقاش عفوي ويسميها من خلال مزحة ويربيها من خلال وجدان فني عميق وعلاقة شخصية أو ودية.
وهنا يأتي دور المخرج جود سعيد فحيويته ورغبته وشبابه يحتاجهما أيمن ، ولذلك لايمكن أن يترك جود صديقه أيمن، ولايمكن لأيمن أن ينأى عن حيوية جود، وهنا ينبغي كسر (تهمة الشللية) بينهما، لأنها منتجة.
حاز الفيلم على أكثر من جائزة ، لكن العرض الذي شهدناه في صالة الكندي يوم الجمعة الماضي في نادي (بيت السينما) كان خاصا بنا نحن الذين نريد أن نشاهد، وأغرب ما لفتني في ردود الأفعال هو أنها غير موحدة، قال لي أحد المخرجين (هذا أجمل دور لأيمن زيدان) ، وقال صحفي (ما الذي يضيفه الفيلم لنا؟) ، وقال مشاهد عادي (رائع جود سعيد) ، وهمس لي كاتب أن هناك أخطاء في السيناريو، وعلق آخر هناك أخطاء في الإخراج، وسمعت شخص قريب يتحدث عن فكرة الصراع بين الخير والشر وعن فيلم عربي.
ممتاز، فهم يريدون أن محاكاة المنتَج السينمائي (الفيلم)، والهدف الذي يقوم عليه، والبناء الذي شيدت عليه الفكرة، وهذا هدف (بيت السينما) على كل حال، وهذا هذا يعني أن نعيد دراسة المشروع، وكيف نعيد دراسته، وقد أصبح ملكا للعين التي شاهدته وللضمير الذي أشعل تداعيات الحكاية السينمائية في أرواح من شاهده، لذلك ينبغي أن نحاسبه أو ننتقده كما شاهدناه، في مساحة الحوار المتاحة في بيت السينما.
يمكن أن أتخلص من إيحاءات كثيرة قيلت أو سمعتها، لكني لايمكن أن أتخلص أبدا من فكرة أن علينا أن نقرأ في عمق الاختيار الذي أنجزه الفيلم ، وهو أن مشكلة موسم الهجرة في بلادنا ينبغي أن تكون في سبيل (الحب) ، ولا نبني خياراتنا على فكرة الهرب من الحرب واستحالة العيش مع بعض، أما كيف قدمت لنا بصريا، فهي عجينة ناضجة من الصدق في العمل، هذه العجينة هي عجينة (الشللية) (الناجحة) في حقل صناعة السينما السوري!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة